( الحديث ) من أجل أن نبادر ونسارع إلى صلة الرحم واعلم أن الكتابة في اللوح المحفوظ يعقبها كتابات أخر منها أن الجنين في بطن أمه إذا تم له أربعة أشهر أرسل إليه ملك موكل بالأرحام فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد فيكتب ذلك وهذه الكتابة غير الكتابة في اللوح المحفوظ هذه كتابة في مقتبل عمر الإنسان ولهذا يسميها العلماء الكتابة العمرية يعني نسبة للعمر هذا إذا تم له أربعة أشهر أي مائة وعشرون يوما ولهذا ترى أن الجنين إذا تم له أربعة أشهر بدأ يتحرك لأنه دخلت فيه الروح وقبل ذلك هو قطعة من اللحم كذلك هناك كتابة أخرى تكون في كل سنة وهي في ليلة القدر فإن ليلة القدر يكتب الله فيها ما يكون في تلك السنة كما قال الله { إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم } يفرق أي يبين ويفصل ولهذا سميت ليلة القدر المرتبة الثالثة للإيمان بالقدر أن تؤمن بأن كل شيء فهو بمشيئة الله لا يخرج عن مشيئته شيء ولا يفرق بين أن يكون هذا الواقع مما يختص الله به كإنزال المطر وإحياء الموتى وما أشبه ذلك أو مما يعلمه الخلق كالصلاة والصيام وما أشبهها فكل هذا بمشيئة الله قال الله { لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين } وقال الله { وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } فبين الله لنا أنه لا مشيئة لنا إلا بمشيئة الله وأن أفعالنا واقعة بمشيئة الله { ولو شاء الله ما اقتتلوا } كل شيء فإنه واقع بمشيئة الله فلا يكون في ملكه ما لا يشاء أبدا ولهذا أجمع المسلمون على هذه الكلمة العظيمة ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأما المرتبة الرابعة فهي الإيمان بأن كل شيء مخلوق لله لقول الله تبارك وتعالى { الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل } وقال تعالى { وخلق كل شيء فقدره تقديرا } فكل شيء واقع فإنه مخلوق لله عز وجل الإنسان مخلوق لله وعمله مخلوق لله قال الله عن إبراهيم وهو خاطب قومه { والله خلقكم وما تعملون } ففعل العبد مخلوق لله لكن المباشر للفعل هو العبد وليس الله لكن الله هو الذي خلق هذا الفعل ففعله العبد فهو منسوب لله خلقا ومنسوب إلى العبد كسبا وفعلا فكل شيء مما يحدث فإنه مخلوق لله عز وجل لكن ما كان من صفات الله فليس بمخلوق فالقرآن مثلا أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم لكنه ليس بمخلوق لأن القرآن كلام الله وكلام الله صفة من صفاته سبحانه ليست بمخلوقة هذه مراتب أربع للإيمان بالقدر يجب أن تؤمن بها كلها وإلا فإنك لم تؤمن بالقدر وفائدة الإيمان بالقدر عظيمة جدا لأن الإنسان إذا علم أن الشيء لابد أن يقع كما أمر الله استراح فإذا أصيب بضراء صبر وقال هذا من عند الله وإن أصيب بسراء شكر وقال هذا من عند الله وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له لأن المؤمن يؤمن أن كل شيء بقضاء الله فيكون دائما في سرور ودائما في انشراح لأنه يعلم أن ما أصابه فإنه من الله إن كان ضراء صبر وانتظر الفرج من الله ولجأ إلى الله في كشف هذه الضراء إن كان سراء شكر وحمد الله وعلم أن ذلك لم يكن بحوله ولا قوته ولكن بفضل من الله ورحمة وقوله خيره وشره الخير ما ينتفع به الإنسان ويلائمه من علم نافع ومال واسع طيب وصحة وأهل وبنين وما أشبه ذلك والشر ضد ذلك من الجهل والفقر والمرض وفقدان الأهل والأولاد وما أشبهه كل هذا من الله سبحانه وتعالى الخير والشر فإن الله سبحانه يقدر الخير لحكمة ويقدر الشر لحكمة كما قال الله عز وجل { ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون } فإذا علم الله أن من الخير والحكمة أن يقدر الشر قدره لما يترتب عليه من المصالح العظيمة كقوله تعالى { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسب أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون } فإذا قال قائل كيف تجمع بين قول النبي عليه الصلاة والسلام وأن تؤمن بالقدر خيره وشره وقوله صلى الله عليه وسلم الشر ليس إليك فنفى أن يكون الشر إليه ؟ جـ: فالجواب على هذا أن نقول إن الشر المحض لا يكون بفعل الله أبدا الشر المحض الذي ليس فيه خير لا حالا ولا مالا هذا لا يمكن أن يوجد في فعل الله أبدا هذا من وجه لأنه حتى الشر الذي قدره الله شرا لابد أن يكون له عاقبة حميدة ويكون شرا على قوم وخيرا على آخرين أرأيت لو أنزل الله المطر مطرا كثيرا فأغرق زرع إنسان لكنه نفع الأرض وانتفعت به أمة لكان هذا خيرا بالنسبة لمن انتفع به شرا بالنسبة لمن تضرر به فهو خير من وجه وشر من وجه ثانيا حتى الشر الذي يقدره الله على الإنسان هو خير في الحقيقة لأنه إذا صبر واحتسب الأجر من الله نال بذلك أجرا أكثر بأضعاف مضاعفة مما ناله من الشر ولهذا ذكر عن بعض العابدات أنها أصيبت في إصبعها أو يدها فانجرحت فصبرت وشكرت الله على هذا وقال ( إن حلاوة أجرها أنستني مرارة صبرها ) ثم نقول إن الشر حقيقة ليس في فعل الله نفسه بل في مفعولاته المفعولات هي التي فيها خير وشر أما الفعل نفسه فهو خير ولهذا قال الله عز وجل { قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق } أي من شر الذي خلقه الله يدلك لهذا أنه لو كان عندك مريض وقيل له إن من شفائه أن تكويه النار فكويته بالنار مؤلمة بلا شك لكن فعلك هذا ليس بشر بل هو خير للمريض لأنك إنما تنتظر عاقبة حميدة بهذا الكي كذلك فعل الله للأشياء المكروهة والأشياء التي فيها شر هي بالنسبة لفعله وإيجاده خير لأنه يترتب عليه خير كثير فإن قال قائل كيف تجمع بين هذا وبين قوله تعالى { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } جـ: فالجواب أن نقول { ما أصابك من حسنة فمن الله } يعني من فضله هو الذي من عليك بها أولا وآخرا { وما أصابك من سيئة فمن نفسك } أي أنت سببها وإلا فالذي قدرها هو الله لكن أنت السبب كما في قوله تعالى { وما أصابكم من مصيبة فما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } وخلاصة الكلام أن كل شيء واقع فإنه بقدر الله سواء كان خيرا أم شرا أما الخير فأمره واضح أنه من الله وأما الشر فإننا نقول إن الشر ليس في فعل الله بل في مفعولاته ونقول أيضا هذه المفعولات التي فيها الشر قد تكون خيرا من وجه آخر إما للشخص المصاب بها نفسه وإما لغيره فمثلا إذا نزل المطر وأتلف زرع إنسان لكنه نفع الأمة فهنا صار شرا على شخص لكنه خير كثير بالنسبة للآخرين أو نقول هو شر لك من وجه وخير لك من وجه آخر لأن هذا الشر إن أصابك لك فيه أجر كثير وربما يكون سببا لاستقامتك ومعرفتك قدر نعمة الله عليك فتكون العاقبة حميدة قال عمر فيما نقله عن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم أخبرني عن الإحسان قال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك الإحسان ضد الإساءة والمراد بالإحسان هنا إحسان العمل فبين النبي عليه الصلاة والسلام أن الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه يعني مثلا تصلي وكأنك ترى الله عز وجل وتزكي وكأنك تراه وتصوم وكأنك تراه وتحج وكأنك تراه وهكذا بقية الأعمال وكون الإنسان يعبد الله كأنه يراه فإن ذلك دليل على الإخلاص لله عز وجل وعلى إتقان العمل في متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لأن كل من عبد الله على هذا الوصف فلابد أن يقع في قلبه من محبة الله وتعظيمه ما يحمله على إتقان العمل وإحكام العمل فإن لم تكن تراه فإنه يراك أي فإن لم تعبد الله على هذا الوصف فاعبده على سبيل المراقبة والخوف فإنه يراك ومعلوم أن عبادة الله على وجه الطلب أكمل من عبادته على وجه الهرب فهاهنا مرتبتان المرتبة الأولى أن تعبد الله كأنك تراه وهذه مرتبة الطلب والثانية أن تعبده كأنك تعلم أنه يراك وهذه مرتبة الهرب وكلتاهما مرتبتان عظيمتان لكن الأولى أكمل وأفضل ثم قال جبريل أخبرني عن الساعة أي عن قيام الساعة التي يبعث فيها الناس ويجازون فيها على أعمالهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما المسؤول عنها بأعلم من السائل المسؤول عنها يعني نفسه عليه الصلاة والسلام بأعلم من السائل يعني جبريل يعني إذا كنت أنت يا جبريل تجهلها فأنا كذلك أجهلها فهذان رسولان كريمان أحدهما رسول ملكي والثاني رسول بشري وهما أكمل الرسل فأكمل الرسل من الملائكة جبريل وأكمل الرسل من البشر محمد صلى الله عليه وسلم ومع ذلك فكل منهما ينفي أن يكون له علم بالساعة لأن علم الساعة عند من بيده إقامتها عز وجل وهو تبارك وتعالى كما قال الله في آيات متعددة { يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي } { يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله } فعلمها عند الله فمن ادعى علم الساعة فإنه كاذب ومن أين له أن يعلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعلم وجبريل لا يعلم وهما أفضل الرسل ولكن الساعة لها أمارات كما قال الله تعالى { فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها } أي علاماتها ولهذا لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم جبريل أنه لا يعلم بذلك قال فأخبروني عن أمارتها أي علاماتها الدالة على قربها فقال أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان الأول أن تلد الأمة ربتها يعني أن تكون الأمة المملوكة تتطور بها الحال حتى تكون ربة للمماليك الآخرين وهو كناية عن كثرة الأموال وكذلك الثاني وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان الحفاة الذين ليس لهم نعال من الفقر والعراة ليس لهم كسوة من الفقر العالة الفقراء يتطاولون في البنيان يعني أنهم لا يلبثون إلا أن يكونوا أغنياء يتطاولون في البنيان حسا ومعنى حسا بأن يرفعوا بنيانهم إلى السماء ومعنى بأن يحسنوها ويزينوها ويدخلوا عليها كل ما يكون من مكملاتها لأن لديهم وفرة من المال وكل هذا وقع وهناك أمارات أخرى وعلامات أخرى ذكرها أهل العلم في باب الملاحم والفتن وأشراط الساعة وهي كثيرة ثم انطلق جبريل عليه الصلاة والسلام ولبثوا ما شاء الله أن يلبثوا ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر أتدري من السائل ؟ قال الله ورسوله أعلم قال فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم وفي هذا الحديث من الفوائد إلقاء المسائل على الطلبة ليمتحنهم كما ألقى النبي عليه الصلاة والسلام المسألة على عمر وفيه جواز قول الإنسان الله ورسوله أعلم ولا يلزمه أن يقول الله ثم رسوله أعلم لأن علم الشريعة الذي يصل إلى النبي عليه الصلاة والسلام من علم الله فصح أن يقال الله ورسوله أعلم كما قال الله { ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله } ولم يقل ثم رسوله لأن الإيتاء هنا إيتاء شرعي وإيتاء النبي صلى الله عليه وسلم الشرعي من إيتاء الله فالمسائل الشرعية يجوز أن تقول الله ورسوله بدون ( ثم ) أما المسائل الكونية كالمشيئة وما أشبهها فلا تقال الله ورسوله بل الله ثم رسوله ولهذا لما قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت قال أجعلتني لله ندا بل ما شاء الله وحده وفي هذا دليل على أن السائل إذا سأل عن شيء يعلمه من أجل أن ينتفع الحاضرون فإنه يكون معلما لهم لأن الذي أجاب النبي عليه الصلاة والسلام وجبريل سائل لم يعلم الناس لكن كان سببا في هذا الجواب الذي انتفع به الناس فقال بعض العلماء إنه ينبغي لطالب العلم إذا جلس مع عالم في مجلس أن يسأل عن مسائل تهم الحاضرين وإن كان يعلم حكمها من أجل أن ينفع الحاضرين ويكون معلما لهم وفي هذا دليل على بركة العلم وأن العلم ينتفع به السائل والمجيب كما قال هنا يعلمكم دينكم وفيه أن هذا الحديث حديث عظيم يشتمل على الدين كله ولهذا قال يعلمكم دينكم لأنه مشتمل على أصول العقائد وأصول الأعمال أصول العقائد أركان الإيمان وأصول الأعمال أركان الإسلام الخمسة والله الموفق
61 - الثاني عن أبي ذر جندب بن جنادة وأبي عبد الرحمن معاذ بن جبل رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن رواه الترمذي وقال حديث حسن
الشَّرْحُ
هذا الحديث من أحاديث الأربعين النووية للمؤلف رحمه الله وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بثلاث وصايا عظيمة الوصية الأولى قال اتق الله حيثما كنت وتقوى الله هي اجتناب المحارم وفعل الأوامر هذه هي التقوى أن تفعل ما أمرك الله به إخلاصا لله واتباعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأن تترك ما نهى الله عنه امتثالا لنهي الله عز وجل وتنزها عن محارم الله مثاله تقوم بما أوجب الله عليك في أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين وهي الصلاة فتأتي بها كلمة بشروطها وأركانها وواجباتها وتكملها بالمكملات فمن أخل بشيء من شروط الصلاة أو واجباتها فإنه لم يتق الله بل نقص من تقواه ما نقص من المأمور في الزكاة تقوى الله فيها أن تحصي جميع أموالك التي فيها الزكاة وتخرج زكاتك طيبة بها نفسك من غير بخل ولا تقتير ولا تأخير فمن لم يفعل فإنه لم يتق الله في الصيام تأتي بالصوم كما أمرت مجتنبا فيه اللغو والرفث والصخب والغيبة والنميمة وغير ذلك مما ينقص الصوم ويزيل روح الصوم ومعناه الحقيقي وهو الصوم عما حرم الله عز وجل وهكذا بقية الواجبات تقوم بها طاعة لله وامتثالا لأمره وإخلاصا له واتباعا لرسوله وكذلك في المنهيات تترك ما نهى الله عنه امتثالا لنهي الله عز وجل حيث نهاك فانتهي الوصية الثانية أتبع السيئة الحسنة تمحها أي إذا عملت سيئة فاتبعها بحسنة فإن الحسنات يذهبن السيئات ومن الحسنات بعد السيئات أن تتوب إلى الله من السيئات فإن التوبة من أفضل الحسنات كما قال الله عز وجل إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين وقال الله تعالى { وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون } وكذلك الأعمال الصالحة تكفر السيئات كما ما قال النبي عليه الصلاة والسلام الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر وقال العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما فالحسنات يذهبن السيئات الوصية الثالثة خالق الناس بخلق حسن والوصيتان الأوليان في معاملة الخالق والثالثة في معاملة الخلق أن تعاملهم بخلق حسن تحمد عليه ولا تذم فيه وذلك بطلاقة الوجه وصدق القول وحسن المخاطبة وغير ذلك من الأخلاق الحسنة وقد جاءت النصوص الكثيرة في فضل الخلق الحسن حتى قال النبي عليه الصلاة والسلام أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وأخبر أن أولى الناس به صلى الله عليه وسلم وأقربهم منه منزلة يوم القيامة أحاسنهم أخلاقا فالأخلاق الحسنة مع كونها مسلكا حسنا في المجتمع ويكون صاحبها محبوبا إلى الناس هي فيها أجر عظيم يناله الإنسان في يوم القيامة فاحفظ هذه الوصايا الثلاث من النبي صلى الله عليه وسلم والله الموفق
62 - الثالث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوما فقال يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وفي رواية غير الترمذي احفظ الله تجده أمامك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا
الشَّرْحُ
قوله كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم أي راكبا معه قوله فقال لي يا غلام احفظ الله يحفظك قال له يا غلام لأن ابن عباس رضي الله عنهما كان صغيرا فإن النبي صلى الله عليه وسلم توفى وقد ناهز الاحتلام يعني من الخامسة عشرة إلى السادسة عشرة أو أقل فكان راكبا خلف الرسول صلى الله عليه وسلم فوجه إليه هذا النداء يا غلام احفظ الله يحفظك كلمة جليلة عظيمة احفظ الله وذلك بحفظ شرعه ودينه بأن تمتثل لأوامره وتجتنب نواهيه وكذلك بأن تتعلم من دينه ما تقوم به عبادتك ومعاملاتك وتدعو به إلى الله عز وجل لأن كل هذا من حفظ الله الله سبحانه وتعالى نفسه ليس بحاجة إلى أحد حتى يحفظه ولكن المراد حفظ دينه وشريعته كما قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم وليس المعنى تنصرون ذات الله لأن الله سبحانه وتعالى غني عن كل أحد ولهذا قال في آية أخرى { ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم } ولا يعجزونه { وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض } إذا احفظ الله يحفظك جملة تدل على أن الإنسان كلما حفظ دين الله حفظه الله ولكن حفظه في ماذا ؟ جـ: حفظه في بدنه وحفظه في ماله وأهله وفي دينه وهذا أهم الأشياء وهو أن يسلمك من الزيغ والضلال لأن الإنسان كلما اهتدى زاده الله هدى { والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم } وكلما ضل والعياذ بالله فإنه يزداد ضلالا كما جاء في الحديث إن الإنسان إذا أذنب صار في قلبه نكتة سوداء فإن تاب محيت وإن أذنب ثانية انضم إليها نكتة ثانية وثالثة ورابعة حتى يطبع على قلبه نسأل الله العافية إذا يحفظك في دينك وفي بدنك ومالك وأهلك وقوله احفظ الله تجده تجاهك وفي لفظ آخر تجده أمامك احفظ الله أيضا بحفظ شريعته بالقيام بأمره واجتناب نهيه تجده تجاهك وأمامك ومعناهما واحد يعين تجد الله أمامك يدلك على كل خير ويذود عنك كل شر ولاسيما إذا حفظت الله بالاستعانة به فإن الإنسان إذا استعان بالله وتوكل على الله كان الله حسبه وكافيه ومن كان الله حسبه فإنه لا يحتاج إلى أحد بعد الله قال الله { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } أي وحسب من اتبعك من المؤمنين { وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله } فإذا كان الله حسب الإنسان أي كافيه فإنه لن يناله سوء ولهذا قال احفظ الله تجده تجاهك أو تجده أمامك ثم قال له إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله أي لا تعتمد على أحد مخلوق مثلا إنسان فقير ليس عنده مال يسأل الله يقول اللهم ارزقني اللهم هيء لي رزقا فيأتيه الرزق من حيث لا يحتسب لكن لو سأل الناس فربما يعطونه أو يمنعونه ولهذا جاء في الحديث لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب ثم يبيعه لكان خيرا له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه فكذلك أنت إذا سألت فاسأل الله قل اللهم ارزقني اللهم أغنني بفضل عمن سواك وما أشبهه من الكلمات التي تتجه بها إلى الله عز وجل وكذلك أيضا إذا استعنت فاستعن بالله الاستعانة طلب العون فلا تطلب العون من أي إنسان إلا للضرورة القصوى ومع ذلك إذا اضطررت إلى الاستعانة بالمخلوق فاجعل ذلك وسيلة وسببا لا ركنا تعتمد عليه اجعل الركن الأصيل هو الله عز وجل وفي هاتين الجملتين دليل على أنه من نقص التوحيد أن الإنسان يسأل غير الله ولهذا تكره المسألة لغير الله عز وجل في قليل أو كثير والله سبحانه إذا أراد عونك يسر لك العون سواء كان أسباب معلومة أو غير معلومة قد يعينك الله بسبب غير معلوم لك فيدفع عنك من الشر ما لا طاقة لأحد به وقد يعينك الله على يد أحد من الخلق يسخره لك ويذلله لك حتى يعينك ولكن مع ذلك لا يجوز لك إذا أعانك الله على يد أحد أن تنسى المسبب وهو الله عز وجل كما يفعله بعض الجهلة الآن لما استعانت الدولة بالكفار وما علموا أنهم أعداء لهم سواء أعانوهم أم لا هم أعداء لكم إلى يوم القيامة ولا يجوز لأحد أن يواليهم أو يناصرهم أو يدعو لهم كما سمعنا من بعض العامة الجهال يقول سوف نضحي لفلان وفلان من الكفرة والعياذ بالله ونسمي أبناءنا بأسمائهم نسأل الله العافية وندعو لهم هم لولا أن الله سخرهم وذللهم لكم ما نفعوكم بشيء النافع الضار هو الله وهو الذي يسرهم وسخرهم ليعينوكم ويدافعوا عنكم وهو من تسخير الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين أن يسخر لهم كفارا يذودون عنهم كما جاء في الحديث إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر فيجب علينا أن لا ننسى فضل الله الذي سخرهم لنا ويجب علينا أن ننبه العامة إذا سمعنا أحدا يركن إليهم ويقول هم الذين نصرونا مائة بالمائة وهم الأول والآخر فيجب علينا أن نبين لهم أن هذا خلل في التوحيد والله أعلم وقوله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك فبين النبي عليه الصلاة والسلام في هذه الجملة أن الأمة لو اجتمعت كلها على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك فإذا وقع منهم نفع لك فاعلم أنه من الله لأنه هو الذي كتبه فلم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك بل قال لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك فالناس بلا شك ينفع بعضهم بعضا ويساعد بعضهم بعضا لكن كل هذا مما كتبه الله للإنسان فالفضل لله فيه أولا عز وجل هو الذي سخر لك من ينفعك ويحسن إليك ويزيل كربتك وكذلك بالعكس لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك والإيمان بهذا يستلزم أن يكون الإنسان متعلقا بربه ومتكلا عليه لا يهتم بأحد لأنه يعلم أنه لو اجتمع كل الخلق على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه وحينئذ يعلق رجاءه بالله ويعتصم به ولا يهمه الخلق ولو اجتمعوا عليه ولهذا نجد الناس في سلف هذه الأمة لما اعتمدوا على الله وتوكلوا عليه لم يضرهم كيد الكائدين ولا حسد الحاسدين { وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط } ثم قال عليه الصلاة والسلام رفعت الأقلام وجفت الصحف يعني أن ما كتبه الله فقد انتهى ورفع والصحف جفت من المداد ولم يبق مراجعة فما أصابك لم يكن ليخطئك كما في اللفظ الثاني وما أخطأك لم يكن ليصيبك وفي اللفظ الثاني قال واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا يعني اعلم علم يقين أن النصر مع الصبر فإذا صبرت وفعلت ما أمرك الله به من وسائل النصر فإن الله تعالى ينصرك والصبر هنا يشمل الصبر على طاعة الله وعن معصيته وعلى أقداره المؤلمة لأن العدو يصيب الإنسان من كل جهة فقد يشعر الإنسان أنه لن يطيق عدوه فيستحسر ويدع الجهاد وقد يشرع في الجهاد ولكن إذا أصابه الأذى استحسر وتوقف وقد يستمر ولكنه يصيبه الألم من عدوه فهذا أيضا يجب أن يصبر عليه قال الله { إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله } وقال تعالى { ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما } فإذا صبر الإنسان وصابر ورابط فإن الله سبحانه ينصره وقوله واعلم أن الفرج مع الكرب كلما اكتربت الأمور وضاقت فإن الفرج قريب لأن الله عز وجل يقول في كتابه { أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون } فكلما اشتدت الأمور فانتظر الفرج من الله سبحانه وتعالى وقوله { وإن مع العسر يسرا } فكل عسر فبعده يسر بل أن العسر محفوف بيسرين يسر سابق ويسر لاحق قال الله تعالى { ورفعنا لك ذكرك فإن مع العسر يسرا } وقال ابن عباس رضي الله عنهما لن يغلب عسر يسرين فهذا الحديث الذي أوصى به عبد الله بن عباس ينبغي للإنسان أن يكون على ذكر له دائما وأن يعتمد على هذه الوصايا النافعة التي أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما والله الموفق
63 - الرابع عن أنس رضي الله عنه قال إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات رواه البخاري وقال الموبقات المهلكات