باب الصدق
قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } وقال تعالى { الصادقين والصادقات } وقال تعالى { فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم }
الشَّرْحُ
الصدق معناه مطابقة الخبر الواقع هذا في الأصل ويكون في الإخبار فإذا أخبرت بشيء وكان خبرك مطابقاً للواقع قيل أنه صدق مثل أن تقول عن هذا اليوم يوم الأحد فهذا خبر صدق وإذا قلت اليوم يوم الإثنين فهذا خبر كذب فالخبر إن وافق الواقع فصدق وإلا فكذب .
وكما يكون الصدق في الأقوال فهو في الأفعال وهو أن يكون الإنسان باطنه موافقاً لظاهره بحيث إذا عمل عملاً يكون موافقاً لما في قلبه .
فالمرائي مثلاً ليس بصادق لأنه يظهر للناس بأنه من العابدين وليس كذلك .
والمشرك مع الله ليس بصادق لأنه يظهر بأنه موحد وليس كذلك .
والمنافق ليس بصادق لأنه يظهر بأنه موحد وليس كذلك .
والمنافق ليس بصادق لأنه يظهر الإيمان وليس بمؤمن .
والمبتدع ليس بصادق لأنه يظهر الاتباع للرسول عليه الصلاة والسلام وليس بمتبع المهم أن الصدق مطابقة الخبر للواقع وهو من سمات المؤمنين وعكسه الكذب وهو من سمات المنافقين .
ثم ذكر آيات في ذلك فقال: وقول الله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين هذه الآية نزلت بعد ذكر قصة الثلاثة الذين خلفوا عن غزوة تبوك ومنهم كعب بن مالك الذي سنذكر حديثه إن شاء الله .
كان هؤلاء الثلاثة حين رجع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك وكانوا قد تخلفوا عنها بلا عذر وأخبروا الرسول عليه الصلاة والسلام بأنهم لا عذر لهم فخلفهم أي تركهم فمعنى { وعلي الثلاثة الذين خلفوا } أي تركوا فلم يبت في شأنهم لأن المنافقين لما قدم الرسول عليه الصلاة والسلام من غزوة تبوك جاؤوا إليه يعتذرون إليه ويحلفون بالله إنهم معذورون وفيهم أنزل الله هذه الآية { سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين } أما هؤلاء الثلاثة فصدقوا الرسول عليه الصلاة والسلام وأخبروه بأنهم ليس لهم عذر فأرجأهم الرسول عليه الصلاة والسلام خمسين ليلة حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم أنزل الله توبته عليهم .
ثم قال بعد ذلك { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } فأمر الله تعالى المؤمنين بأن يتقوا الله وأن يكون يكونوا مع الصادقين لا مع الكاذبين وقال الله تعالى { والصادقين والصادقات } هذه في جملة الآية الطويلة التي ذكرها الله في سورة الأحزاب وهي { إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات } إلى أن قال { والصادقين والصادقات } إلى قوله { أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً } فذكر الله الصادقين والصادقات في مقام الثناء وفيما لهم من الأجر العظيم .
وقال تعالى { فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم } أي لو عاملوا الله بالصدق لكان خيراً لهم ولكن عاملوا الله بالكذب فنافقوا بالكذب وأظهروا خلاف ما في قلوبهم وعاملوا النبي صلى الله عليه وسلم بالكذب فأظهروا أنهم متبعون له وهم مخالفون له، فلو صدقوا الله بقلوبهم وأعمالهم وأقوالهم لكان خيراً لهم ولكنهم كذبوا الله فكان شراً لهم .
وقال الله { ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب } فدل ذلك على أن الصدق أمره عظيم وأنه محل للجزاء من الله تعالي .
إذن علينا أن نصدق وعلينا أن نكون صادقين وعلينا أن نكون صرحاء وعلينا أن لا نخفي الأمر عن غيرنا مداهنة أو مراء .
كثير من الناس إذا حدث عن شيء فعله وكان لا يدري فعله أم لا فإنه يكذب ويقول ما فعلت .
لماذا ؟ أتستحي من الخلق وتبارز الخالق بالكذب ؟ قل الصدق ولا يهمنك أحد وأنت إذا عودت نفسك الصدق فإنك في المستقبل سوف تصلح حالك أما إذا أخبرت بالكذب وسوف تكتم عن الناس وتكذب عليهم فإنك سوف تستمر في غيك ولكن إذا صدقت فإنك تعدل مسيرك ومنهاجك .
فعليك بالصدق فيما لك وفيما عليك حتى تكون مع الصادقين الذين أمرك الله أن تكون معهم .
أما حديث كعب بن مالك: فهو في قصة تخلفه عن غزوة تبوك وكانت في السنة التاسعة من الهجرة غزا النبي صلى الله عليه وسلم الروم وهم على دين النصارى حين بلغه أنهم يجمعون له فغزاهم النبي عليه الصلاة والسلام وقام بتبوك عشرين ليلة ولكنه لم ير كيداً ولم ير عدواً فرجع وكانت هذه الغزوة في أيام الحر حين طابت الثمار والرطب وصار المنافقون يفضلون الدنيا على الآخرة فتخلف المنافقون عن هذه الغزوة ولجؤوا إلى الظل والرطب والتمر وبعدت عليهم الشقة والعياذ بالله .
أما المؤمنون الخلص فإنهم خرجوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يثن عزمهم بعد الشقة ولا طيب الثمار .
إلا أن كعب بن مالك رضي الله عنه تخلف عن غزوة تبوك بلا عذر وهو من المؤمنين الخلص ولهذا قال إنه ما تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن غزوة غزاها قط - فهو من المجاهدين في سبيل الله إلا في غزوة بدر فقد تخلف فيها كعب وغيره لأن الرسول عليه الصلاة والسلام خرج من المدينة لا يريد القتال ولذلك لم يخرج معه إلا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا لأنهم كانوا يريدون أن يأخذوا عيراً لقريش أي حملة قدمت من الشام تريد مكة وتمر قرب المدينة .
فخرج النبي عليه الصلاة والسلام من أجل أن يستقبل هذه العير ويأخذها وذلك لأن أهل مكة أخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من ديارهم وأموالهم .
فلهذا كانت أموالهم غنيمة للنبي عليه الصلاة والسلام ويحل له أن يخرج ليأخذها وليس في ذلك عدوان من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بل هذا أخذ لبعض حقهم المهم أن الرسول خرج في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ليس معهم إلا سبعون بعيراً وفرسان فقط، وليس معهم عدة والعدد قليل ولكن الله جمع بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد لينفذ ما أراد عز وجل .
فسمع أبو سفيان وهو قائد العير أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إليه ليأخذ العير فعدل عن سيره إلى الساحل وأرسل إلى قريش صارخاً يستنجدهم - أي يغيثهم - ويقول: أنقذوا العير .
فاجتمعت قريش وخرج كبراؤها وزعماؤها وشرفاؤها فيما بين تسعمائة إلى ألف رجل خرجوا كما قال الله عنهم، خرجوا بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله .
ولما كانوا في أثناء الطريق وعلموا أن العير نجت تراجعوا فيما بينهم وقالوا العير نجت فما لنا وللقتال فقال أبو جهل والله لا نرجع حتى نقدم بدراً فنقيم فيها ثلاثاً ننحر الجزور ونسقي الخمور ونطعم الطعام وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبداً .
هكذا قالوا، بطراً واستكباراً وفخراً ولكن الحمد لله صارت العرب تتحدث بهم بالهزيمة النكراء التي لم يذق العرب مثلها، لما التقوا بالرسول عليه الصلاة والسلام وكان ذلك في رمضان في السنة الثانية من الهجرة في اليوم السابع عشر منه .
التقوا فأوحى الله عز وجل إلى الملائكة: { إني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا } انظر في الآية تثبيت للمؤمنين وإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا، فهو أقرب النصر في هذه الحال .
فثبت الله المؤمنين ثباتاً عظيماً وأنزل في قلوب الذين كفروا الرعب .
قال الله سبحانه: { فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان } أي كل مفصل فالأمر ميسر لكم .
فجعل المسلمون ولله الحمد يجلدون فيهم فقتلوا سبعين رجلاً وأسروا سبعين رجلاً والذين قتلوا ليسوا من أطرافهم، الذين قتلوا كلهم من صناديدهم وكبرائهم، وأخذ منهم أربعة وعشرين رجلاً يسحبون سحبا وألقوا في قليب من قلب بدر .
سحبوا جثثا هامدة ووقف عليهم الرسول عليه الصلاة والسلام وقال لهم يا فلان ابن فلان يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً فقالوا يا رسول الله كيف تكلم أناساً قد جيفوا ؟ قال والله ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يجيبون لأنهم موتى وهذه ولله الحمد نعمة علينا أن نشكر الله عليها كلما ذكرناها .
نصر الله نبيه وسمى الله هذا اليوم يوم الفرقان يوم التقى الجمعان .
هذا اليوم فرق الله فيه بين الحق والباطل تفريقاً عظيما وانظر إلى قدرة الله عز وجل في هذا اليوم انتصر ثلاثمائة رجل وبضعة عشر رجلاً على نحو ألف رجل أكمل منهم عدة وأقوى وهؤلاء ليس معهم إلا عدد قليل من الإبل والخيل لكن نصر الله عز وجل إذا نزل لقوم لم يقم أمامهم أحد وإلى هذا أشار الله بقوله { ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة } ليس عندكم شيء { فاتقوا الله لعلكم تشكرون } ولما كان المسلمون حين فتحوا مكة وخرجوا باثني عشر ألفاً وأمامهم هوازن وثقيف فأعجب المسلمون بكثرتهم وقالوا: لن نغلب اليوم عن قلة فغلبهم ثلاثة آلاف وخمس مائة رجل غلبوا اثني عشر ألف رجل بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم لماذا .
لأنهم أعجبوا بكثرتهم قالوا لن نغلب اليوم عن قلة فأراهم الله عز وجل أن كثرتهم لن تنفعهم .
قال الله تعالى: { ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين } المهم أن كعب بن مالك رضي الله عنه لم يشهد بدراً لكن تخلف عنها لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخرج لقتال إنما خرج للعير ولكن الله جمع بينه وبين عدوه على غير ميعاد .
أتدرون ماذا حصل لأهل بدر ؟ اطلع الله عليهم وقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، كل معصية تقع منهم فإنها مغفورة لأن الثمن مقدم .
فهذه الغزوة صارت سببا لكل خير، حتى أن حاطب بن أبي بلتعه رضي الله عنه لما حصل منه ما حصل في كتابه لأهل مكة عندما أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يغزوهم غزوة الفتح كتب هو رضي الله عنه إلى أهل مكة يخبرهم ولكن الله أطلع نبيه على ذلك .
أرسل حاطب بن أبي بلتعه الكتاب مع امرأة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك عن طريق الوحي فأرسل علي بن أبي طالب وواحداً معه حتى لحقوها في روضة تسمى روضة خاخ، فأمسكوها وقالوا لها أين الكتاب ؟ فقالت ما معي كتاب فقالوا لها والله ما كذبنا ولا كذبنا أين الكتاب، لتخرجنه أو لننزعن ثيابك ؟ فلما رأت الجد أخرجته فإذا هو من حاطب بن أبي بلتعه إلى قريش فأخذوه .
والحمد لله أنه لم يصل إلى قريش فصار بهذا نعمة من الله على المسلمين وعلى حاطب لأن الذي أراد ما حصل .
فلما ردوا الكتاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له يا حاطب كيف فعلت كذا فاعتذر فقال عمر يا رسول الله ألا أضرب عنقه فإنه قد نافق قال له النبي عليه الصلاة والسلام أما علمت أن الله اطلع على أهل بدر أو إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وكان حاطب من أهل بدر رضي الله عنه .