وجاءت زوجة هلال بن أمية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته بأنه في حاجة إليها لتخدمه لأنه ليس له خادم فأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم بشرط أن لا يقربها فقالت: إنه ليس له في هذا الأمر من شيء يعني أنه ليس له شهوة في النساء وإنه ما زال يبكي رضي الله عنه منذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهجرهم إلى يومه هذا لأنه ما يدري ماذا تكون النهاية .
يقول رضي الله عنه فلما مضى عشر ليال بعد هذا وكنت ذات يوم أصلي الصبح على سطح بيت من بيوتنا لأنه كما مر كانوا رضي الله عنهم قد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم .
يقول فسمعت صارخاً يقول وهو على سلع - وهو جبل معروف في المدينة وصاح بأعلى صوته يقول يا كعب بن مالك أبشر يقول فعلمت أن الله قد أنزل في فرجي وركب فارس من المسجد يؤم بيت كعب بن مالك يبشره .
وذهب مبشرون إلى هلال بن أمية ومرارة بن الربيع يبشرونهما بتوبة الله عليهما .
انظر إلى فرح المسلمين بعضهم مع بعض كل يسعى ويركض من جهة .
يقول فجاء الصارخ وجاء صاحب الفرس فكانت البشرى للصارخ لأن الصوت أسرع من الفرس يقول فأعطيته ثوبي الإزار والرداء وليس يملك غيرهما لكن استعار من أهله أو جيرانه ثوبين فلبسهما وأعطى ثوبيه هذا الذي بشره .
أعطاه كل ما يملك، لكنها والله بشرى عظيمة أن ينزل الله توبتهم ويمن عليهم بالتوبة .
ثم نزل متوجهاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جزاه الله عن أمته خيراً قد بشر الناس بعد صلاة الصبح بأن الله أنزل توبته على هؤلاء الثلاثة، لأنه يحب من أصحابه وأمته إلى أن يتوبوا ويرجعوا إلى الله .
يقول فذهبت أتأمم الرسول فجعل الناس يلاقونني أفواجاً أي جماعات يهنئونه بتوبة الله عليه .
هؤلاء القوم يحبون لإخوانهم ما يحبون لأنفسهم فلم يحسدوهم على ما أنعم الله به عليهم من إنزال القرآن العظيم بتوبتهم بل جعلوا يهنئونهم حتى دخل المسجد .
وفي هذا فوائد: أولاً شدة هجر النبي عليه الصلاة والسلام لهؤلاء الثلاثة حتى إنه أمرهم أن يعتزلوا نساءهم والتفريق بين الرجل وامرأته أمر عظيم .
ثانياً وفيه قول الرجل لامرأته الحقي بأهلك ليس بطلاق لأن كعباً فرق بين قوله الحقي بأهلك وبين الطلاق، فإذا قال الرجل لامرأته الحقي بأهلك ولم ينو الطلاق فليس بطلاق .
أما إذا نوى الطلاق فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى الحديث فإذا ما نوى بهذه الكلمة وأمثالها الطلاق فله ما نوى .
ثالثاً: شدة امتثال الصحابة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم أنه رضي الله عنه ما تردد ولا قال لعلي أراجع الرسول عليه الصلاة والسلام .
أو قال للرسول الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم ارجع إليه لعله يسمح بل وافق بكل شيء .
رابعاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان رحيما بأمته فإنه بعد أن أمره باعتزال النساء لهن رخص لهلال بن أمية لأنه يحتاج لخدمة امرأته .
خامساً جواز حكاية الحال عند الاستفتاء أو الشهادة أو ما أشبه ذلك، وإن كان المحكي عنه قد لا يحب أن يطلع عليه الناس لأن امرأة هلال بن أمية ذكرت من حاله أنه ليس له حاجة إلى شيء من النساء .
سادساً أن الإنسان إذا حصل له مثل هذه الحال وهجره الناس وصار يتأذى من مشاهدتهم ولا يتحمل فإنه له أن يتخلف عن صلاة الجماعة وإن هذا عذر لأنه لو جاء إلى المسجد في هذه الحال سوف يكون متشوشاً غير مطمئن في صلاته ولهذا صلى كعب بن مالك صلاة الفجر على ظهر بيت من بيوته وسبق لنا ذكر هذه الفائدة سابعاً حرص الصحابة على التسابق إلى البشرى لأن البشرى فيها إدخال السرور على المسلم وإدخال السرور على المسلم مما يقرب إلى الله عز وجل لأنه إحسان والله سبحانه يحب المحسنين ولا يضيع أجرهم .
فلذلك ينبغي لك إذا رأيت من أخيك شيئاً يسره كأن يكون خبراً ساراً أو رؤيا سارة ؟ أو ما أشبه ذلك أن تبشره بذلك لأنك تدخل السرور عليه .
ثامناً أنه ينبغي مكافأة من بشرك بهدية تكون مناسبة للحال لأن كعب بن مالك أعطى الذي بشره ثوبيه وهذا نظير ما صح به الخبر عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وكان يأمر الناس إذا حجوا أن يتمتعوا بالعمرة إلى الحج وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينهى عن المتعة لأنه يحب أن يعتمر الناس في وقت حتى يكون البيت دائماً معموراً بالزوار، فعل هذا اجتهاداً منه رضي الله عنه وهو من الاجتهاد المغفور وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام أولى .
المهم أن رجلاً استفتى عبد الله بن عباس في هذه المسألة فأمره أن يتمتع وأن يحرم بالعمرة ويحل منها .
فرأى هذا الرجل في المنام شخصاً يقول له حج مبرور وعمرة متقبلة فأخبر بذلك عبد الله بن عباس الذي أفتاه، ففرح بذلك ابن عباس وأمره أن يبقى حتى يعطيه من عطائه أي يعطيه هدية على ما بشره به من هذه الرؤيا التي تدل على صواب ما أفتاه به ابن عباس .
والمهم أن من بشرك بشيء فأقل الأحوال أن تدعو له بالبشارة أو تهدي له ما تيسر وكل إنسان بقدر حاله .
يقول رضي الله عنه حتى دخلت المسجد وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحوله أصحابه فقام إلى كعب طلحة بين عبيد الله رضي الله عنه فصافحه وهنأه بتوبة الله عليه .
يقول والله ما قام إلي أحد من المهاجرين رجل غير طلحة فكان لا ينساها له حيث قام ولاقاه وصافحه وهنأه حتى وقف على النبي صلى الله عليه وسلم وإذا وجهه تبرق أساريره لأنه عليه الصلاة والسلام سره أن يتوب الله على هؤلاء الثلاثة الذين صدقوا الله ورسوله وأخبروا بالصدق عن إيمان وحصل عليهم ما جرى من الأمر العظيم من هجر الناس لهم خمسين يوماً حتى نسائهم بعد الأربعين أمر الرسول عليه الصلاة والسلام أن يعتزلوهن .
ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك وصدق النبي صلى الله عليه وسلم لأنه الله أنزل توبته وتوبة صاحبيه في قرآن يتلى تكلم به رب العالمين عز وجل وأنزله على محمد صلى الله عليه وسلم محفوظاً بواسطة جبريل ومحفوظاً إلى يوم القيامة .
ولا يوجد أحد سوى الأنبياء أو من ذكرهم الله في القرآن حفظت قصته كما حفظت قصة كعب بن مالك وصاحبيه .
بقيت هذه القصة تتلى في كتاب الله في المحاريب وعلى المنابر وفي كل مكان ومن قرأ هذه القصة فله بكل حرف عشر حسنات .
فقلت له أمن عندك يا رسول الله أو من عند الله ؟ قال لا بل من عند الله عز وجل لأنه إذا كان من عند الله كان أشرف وأفضل وأعظم .
فقال كعب إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله أي يتخلى عنه ويجعله صدقة إلى الله ورسوله شأنه وتدبيره فقال النبي صلى الله عليه وسلم أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك فأمسكه رضي الله عنه .
ففي هذه القطعة من الحديث فوائد: أولاً فيها دليل على أن من السنة إذا أتى الإنسان ما يسره أن يهنأ به ويبشر به سواء كان خير دين أو خير دنيا .
ولهذا بشرت الملائكة إبراهيم عليه السلام بغلام حليم وبغلام عليم .
الغلام الحليم إسماعيل والغلام العليم إسحاق ثانياً إنه لا بأس بالقيام إلى الرجل لمصافحته وتهنئته بما يسره والقيام إلى الرجل لا بأس به قد جاءت به السنة وكذلك القيام للرجل وأنت باق في مكانك لا تتحرك إليه فهذا أيضاً لا بأس به إذا اعتاد الناس لأنه لم يرد النهي عنه وإنما النهي والتحذير من الذي يقام له لا من القائم فإن من يقام له قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام من أحب أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار قال أهل العلم والقيام ثلاثة أقسام .
الأول قيام إلى الرجل الثاني قيام للرجل .
والثالث: قيام على الرجل فالقيام إلى الرجل لا بأس به وقد جاءت به السنة أمراً وإقرارً وفعلاً أما الأمر فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أقبل سعد بن معاذ رضي الله عنه عند تحكيمه في بني قريظة قال الرسول عليه الصلاة والسلام قوموا إلى سيدكم وكان سعد بن معاذ رضي الله عنه قد أصيب في غزوة الأحزاب في أكحله - وهو عرق في اليد إذا انفجر مات الإنسان - فدعا الله أن لا يميته حتى يقر عينه في بني قريظة وكانوا حلفاء للأوس وخانوا عهد النبي عليه الصلاة والسلام وصاروا مع الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما طعن سعد قال اللهم لا تمتني حتى تقر عيني في بني قريظة وكان من علو منزلته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يضرب له خباء في المسجد - أي خيمة صغيرة - لأجل أن يعوده من قريب فكان يعوده من قريب .
ولما حصلت غزوة قريظة ورضوا أن يحكم فيهم سعد بن معاذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يحضر سعد إلى بني قريظة فجاء راكباً على حمار لأنه قد أنهكه الجرح فلما أقبل قال الرسول عليه الصلاة والسلام قوموا إلى سيدكم فقاموا فأنزلوه فقال الرسول عليه الصلاة والسلام له إن اليهود من بني قريظة حكموك فقال رضي الله عنه حكمي نافذ فيهم قال نعم وأقروا به وقالوا نعم حكمك نافذ .
قال وفيمن هاهنا - يشير إلى الرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة قالوا نعم فقال أحكم فيهم أن تقتل مقاتلهم وتسبى ذريتهم ونساؤهم وتغنم أموالهم حكم صارم .
قال الرسول عليه الصلاة والسلام حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماواته فنفذ النبي صلى الله عليه وسلم حكمه وقتل منهم سبعمائة رجل وسبي نساءهم وذرياتهم وغنم أموالهم .
الشاهد قوله قوموا إلى سيدكم هذا فعل أمر ولما دخل كعب إلى المسجد قام إليه طلحة بن عبيد الله والنبي صلى الله عليه وسلم يشاهد ولم ينكر عليه .
ولما قدم وفد ثقيف إلى الرسول عليه الصلاة والسلام بالجعرانة قبل الغزوة قام لهم أو قام إليهم عليه الصلاة والسلام .
الثاني القيام للرجل هذا لا بأس به لاسيما إذا اعتاد الناس ذلك وصار الداخل إذا لم تقم له يعد ذلك امتهاناً له فإن ذلك لا بأس به وإن كان الأولى تركه كما في السنة لكن إذا اعتاده فلا حرج فيه .
الثالث القيام عليه كأن يكون جالساً ويقوم واحد على رأسه تعظيماً له فهذا منهي عنه