ولما قدم وفد ثقيف إلى الرسول عليه الصلاة والسلام بالجعرانة قبل الغزوة قام لهم أو قام إليهم عليه الصلاة والسلام .
الثاني القيام للرجل هذا لا بأس به لاسيما إذا اعتاد الناس ذلك وصار الداخل إذا لم تقم له يعد ذلك امتهاناً له فإن ذلك لا بأس به وإن كان الأولى تركه كما في السنة لكن إذا اعتاده فلا حرج فيه .
الثالث القيام عليه كأن يكون جالساً ويقوم واحد على رأسه تعظيماً له فهذا منهي عنه قال الرسول عليه الصلاة والسلام لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضا حتى إنه في الصلاة إذا صار الإمام لا يستطيع القيام وصلى جالسا فإن المأمومين يصلون جلوسا ولو كانوا يقدرون على القيام لئلا يشبهوا الأعاجم الذين يقومون على ملوكهم .
فالقيام على الرجل منهي عنه اللهم إلا إذا دعت الحاجة لذلك كأن خاف على الرجل أن يعتدي عليه أحد فلا بأس أن يقوم عليه القائم وكذلك إذا قام الرجل إكراما له في حال بقصد فيه إكرامه وإهانة العدو مثل ما حصل من المغيرة بن شعبة رضي الله عنه في صلح الحديبية حينما كانت قريش تراسل النبي صلى الله عليه وسلم للمفاوضة فيما بينهم .
كان المغيرة بن شعبة رضي الله عنه واقفا على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيده السيف تعظيماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإهانة لرسل الكفار الذين يأتون للمفاوضة .
وفي هذا دليل على أنه ينبغي لنا نحن المسلمين أن نغيظ الكفار بالقول وبالفعل لأنا هكذا أمرنا قال الله سبحانه { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } وقال تعالى { ليغيظ بهم الكفار } وقال الله تعالى { ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح } ومن المؤسف أن منا من يدخل عليهم السرور والفرح وربما يشاركهم في أعيادهم والعياذ بالله الكفرية التي لا يرضاها الله بل يسخط عليها والتي يخشى أن ينزل العذاب عليهم وهم يلعبون بهذه الأعياد يوجد من الناس من لا قدر للدين عنده كما قال ابن القيم في أحكام أهل الذمة .
أدخل عليهم ما يحزنهم ويغطيهم ويدخل عليهم أشد ما يكون من الضيق هكذا أمرنا لأنهم أعداء لله ولدينه وللملائكة والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين .
المهم أن المغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيده السيف تعظيماً له حتى أنه في أثناء المراسلة فعل الصحابة شيئاً لا يفعلونه في العادة .
كان عليه الصلاة والسلام إذا تنخع تلقوا نخامته بأيدهم ثم يمسحون بها وجوههم وصدورهم مع أنهم ما كانوا يفعلون هذا لكن لأجل إذا ذهب رسول الكفار إلى الكفار بين لهم حال الصحابة مع نبيهم عليه الصلاة والسلام .
ولذلك لما رجع الرسول إلى قريش قال والله لقد دخلت على الملوك وكسرى وقيصر والنجاشي فلم أر أحداً يعظمه أصحابه مثلما يعظم أصحاب محمد محمداً رضي الله عنهم وأرضاهم وجزاهم الله عنا خيراً .
المهم أن القيام على الرجل إن كان المقصود به حفظ الرجل أو كان المقصود به إغاظة العدو فإن هذا لا بأس به .
ثالثاً أن من أنعم الله عليه بنعمة فإن من السنة أن يتصدق بشيء من ماله فإن النبي صلى الله عليه وسلم أقر كعب بن مالك على أن يتصدق بشيء من ماله توبة إلى الله عز وجل لما حصل له من هذا الأمر العظيم الذي كان فخراً له يوم القيامة .
ذكر كعب بن مالك أن من توبته أن لا يحدث بحديث كذب بعد إذ نجاه الله تعالى بالصدق، ومازال كذلك ما حدث بحديث كذب أبداً بعد أن تاب الله عليه فكان رضي الله عنه مضرب المثل في الصدق حتى إن الله أنزل فيه وفي صاحبيه { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } أنزل الله تعالى الآيات في بيان منته عليهم بالتوبة من قوله تعالى { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم } ففي هذه الآية أكد الله توبته على النبي والمهاجرين والأنصار أكدها بقوله { لقد تاب الله } .
فأما النبي فهو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين الذي غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر .
وأما المهاجرون فهم الذين هاجروا من بلادهم من مكة إلى المدينة هاجروا إلى الله ورسوله فجمعوا في ذلك بين الهجرة ومفارقة الوطن ومفارقة الديار وبين نصرة النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم إنما هاجروا إلى الله ورسوله .
أما الأنصار فهم الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم أهل المدينة رضي الله عنهم الذين آووا النبي ونصروه ومنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم وقدم الله المهاجرين لأنهم أفضل من الأنصار لجمعهم بين الهجرة والنصرة .
وقوله { الذين اتبعوه في ساعة العسرة } وذلك في الخروج معه إلى غزوة تبوك إلى بلاد بعيدة والناس في أشد ما يكونون في الحر والناس في أطيب ما يكونون لو بقوا في ديارهم لأن الوقت وقت قيظ والوقت وقت طيب الثمار وحسن الظلال ولكنهم رضي الله عنهم خرجوا في هذه الساعة الحرجة في ساعة العسرة { من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم } فإن بعضهم كاد يتخلف بدون عذر فيزيغ قلبه ولكن الله عز وجل من عليهم بالاستقامة حتى خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم .
وقوله { ثم تاب عليهم } أكد ذلك مرة أخرى { إنه بهم رءوف رحيم } شملهم بالرأفة والرحمة والرأفة أرق من الرحمة لأنها رحمة ألطف وأعظم من الرحمة العامة .
ثم قال { وعلى الثلاثة الذين خلفوا } والثلاثة هم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية وخلفوا أي خلف البت في أمرهم وليس المراد تخلفوا عن الغزوة بل خلفهم الرسول عليه الصلاة والسلام لكي ينظر في أمرهم ماذا يكون حكم الله تعالى فيهم .
وقوله { حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت } ضاقت عليهم الأرض مع سعتها والرحب السعة .
حتى قال كعب بن مالك لقد تنكرت لي الأرض حتى قلت لا أدري هل أنا في المدينة أو غيرها من شدة الضيق عليهم .
{ وضاقت عليهم أنفسهم } نفس الإنسان ضاقت عليه فهي لا تتحمل أن تبقى ولكنهم صبروا حتى فرج الله عنهم .
وقوله { وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه } الظن هنا بمعنى اليقين أي أيقنوا أن لا ملجأ من الله أي أنه لا أحد ينفعهم ولا ملجأ من الله إلا إلى الله فالله بيده كل شيء عز وجل .
وقوله { ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم } تاب عليهم لينالوا مراتب التوبة التي لا ينالها إلا أحباب الله كما قال الله { إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين } أما أولئك الذين اعتذروا من المنافقين إلى الرسول عليه الصلاة والسلام واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله فإن الله أنزل فيهم شر ما أنزل في بشر .
فقال { سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم } فلا تلومونهم { فأعرضوا عنهم إنهم رجس } أعوذ بالله رجس الخمر رجس القذر الذي يخرج من دبر الإنسان رجس روث الحمير رجس هؤلاء مثلهم { ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون } بئس المأوى والعياذ بالله إنهم ينتقلون من الدنيا إلى جهنم نسأل الله العافية، نار حامية تطلع على الأفئدة مؤصدة عليهم في عمد ممدة .
{ يحلفون لكم لترضوا عنهم } لأنكم لا تعلمون سرائرهم ولا يبدو لكم إلا الظواهر { فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين } إذا رضى الناس عنك كلهم والله لم يرض عنك فإنه لا ينفعك .
إذا رضى الله عنك أرضى عنك الناس وأمال قلوبهم إليك كما جاء في الحديث إن الله عز وجل إذا أحب شخصا نادى جبريل يا جبريل إني أحب فلاناً فأحبه يعين الله الرجل له فيحبه جبريل ثم ينادى في السماء ثم يوضع له القبول في الأرض فيكون مقبولاً لدى أهل الأرض .
كما قال الله عز وجل { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً } لكن إذا التمس الإنسان رضى الناس بسخط الله فالأمر بالعكس يسخط الله عليه ويسخط عليه الناس .
ولهذا لما تولي معاوية رضي الله عنه الخلافة كتبت له عائشة رضي الله عنها قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول من التمس رضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس ومن التمس رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس وما أكثر الذين يطلبون رضى الناس بسخط الخالق عز وجل .
هؤلاء في سخط الله ولو رضى عنهم الناس، فلا ينفعهم رضى الناس قال الله هنا { فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين } حتى لو رضى عنهم النبي أشرف الخلق ما نفعهم لأن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين .
وفي هذه الآية تحذير من الفسق وهو ارتكاب المعاصي التي أعظمها الكفر وكل فسق فإنه ينقص من رضى الله عن الإنسان بحسبه، لأن الحكم المعلق بالوصف يزداد بزيادته وينقص بنقصانه ويقوى بقوته ويضعف بضعفه .
الفسق سبب عدم رضى الله وهو أنواع كثيرة ومراتب عظيمة مثلا عقوق الوالدين من الفسوق وقطيعة الرحم من الفسوق وغش الناس من الفسوق والغدر بالعهد من الفسوق، والكذب من الفسوق، فكل معصية من الفسوق .
لكن صغائر الذنوب تكفرها حسنات الأعمال إذا أصلح الإنسان الحسنات كما قال الله { أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً } وقال { إن الحسنات يذهبن السيئات } أما الكبائر فلا ينفع فيها إلا التوبة .
على كل حال الفسق من أسباب انتفاء رضى الله عن العبد والطاعة من أسباب الرضا .
فعليك يا أخي التزام طاعة الله إن كنت تريد رضاه وإن كنت تريد رضى الناس فأرض الله ذكر رضي الله عنه أنه خرج من المدينة، في يوم الخميس وكان يحب أن يخرج فيه ولكن ذلك ليس بدائم أحياناً يخرج يوم السبت كما خرج في آخر سفرة سافرها في حجة الوداع وربما يخرج في أيام آخر لكن غالب ما يخرج فيه هو يوم الخميس .
وذكر أن البني صلى الله عليه وسلم عاد إلى المدينة ضحى وأنه دخل المسجد فصلى فيه ركعتين وكان هذا من سنته صلى الله عليه وسلم أنه إذا قدم بلده لم يبدأ بشيء قبل المسجد وقد تقدم .
وهاتان الركعتان تشمل كل الوقت حتى أوقات النهي لأنها صلاة سببية فليس عنها نهي في أي وقت وجد سببها حل فعلها .
وأما الأحاديث
54 - فالأول عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً متفق عليه .
الشَّرْحُ
قوله عليكم بالصدق أي ألزموا الصدق والصدق مطابقة الخبر للواقع وقد سبق في حديث كعب وصاحبيه ما يدل على فضيلة الصدق وحسن عاقبته وأن الصادق هو الذي له العاقبة والكاذب هو الذي يكون عمله هباء لهذا يذكر أن بعض العامة قال إن الكذب ينجي فقال له أخوه الصدق أنجى وأنجى هذا صحيح واعلم أن الكذب يكون باللسان ويكون بالأركان .
أما باللسان فهو القول وأما بالأركان فهو الفعل ولكن يكون الكذب بالفعل إذا فعل الإنسان خلاف ما يبطن فهذا قد كذب بفعله فالمنافق مثلاً كاذب لأنه يظهر للناس أنه مؤمن يصلي مع الناس ويصوم مع الناس ويتصدق ولكنه بخيل وربما يحج فمن رأى أفعاله حكم عليه بالصلاح ولكن هذه الأفعال لا تنبئ عما في الباطن فهي كذب .
ولهذا نقول الصدق يكون باللسان وبالأركان فمتى طابق الخبر الواقع فهو صدق وهذا باللسان ومتى طابقت أعمال الجوارح ما في القلب فهي صدق وهذا صدق بالأقوال .
ثم بين النبي عليه الصلاة والسلام عندما أمر بالصدق بين عاقبتهم فقال: إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة .
البر كثرة الخير ومنه من أسماء الله البر أي كثير البر والإحسان عز وجل .
والبر من نتائج الصدق وقوله وإن البر يهدي إلى الجنة فصاحب البر نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منه يهديه بره إلى الجنة والجنة غاية كل مطلب .
ولهذا يؤمر الإنسان أن يسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاح الغرور وقوله إن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً وفي رواية: ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً .
الصديق في المرتبة الثانية من الخلق من الذين أنعم الله عليهم كما قال الله سبحانه { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين } فالرجل الذي يتحرى الصدق يكتب عند الله صديقاً ومعلوم أن الصديقية درجة عظيمة لا ينالها إلا أفذاذ من الناس .
وتكون في الرجال وتكون في النساء قال الله تعالى { ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة } وأفضل الصديقين على الإطلاق أصدقهم، وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه عبد الله بن عثمان بن أبي قحافة الذي استجاب للنبي صلى الله عليه وسلم حين دعاه إلى الإسلام ولم يحصل عنده أي تردد وأي توقف بمجرد ما دعاه الرسول إلى الإسلام أسلم، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم حين كذبه قومه، وصدقه حين تحدث عن الإسراء والمعراج وكذبه الناس وقالوا كيف تذهب يا محمد من مكة إلى بيت المقدس وترجع في ليلة واحدة ثم تقول إنك صعدت إلى السماء هذا لا يمكن .
ثم ذهبوا إلى أبي بكر وقالوا له أما تسمع ما يقول صاحبك ؟ قال ماذا قال ؟ قالوا إنه قال كذا وكذا قال إن كان قد قال ذلك فقد صدق فمنذ ذلك اليوم سمى الصديق رضي الله عنه .
وأما الكذب فإنه قال وإياكم والكذب .
إياكم التحذير أي احذروا الكذب وهو الإخبار بما يخالف الواقع سواء كان بالقول أو بالفعل .
فإذا قال قائل ما اليوم فقلت اليوم يوم الخميس أو يوم الثلاثاء فكذب لأنه لا يطابق الواقع لأن اليوم الأربعاء .
والمنافق كاذب لأن ظاهره يدل على أنه مسلم وهو كافر فهو كاذب بفعله .
وقوله وإن الكذب يهدي إلى الفجور يعني الخروج عن طاعة الله لأن الإنسان يفسق ويتعدى طوره ويخرج عن طاعة الله إلى معصيته وأعظم الفجور الكفر .
فإن الكفرة فجرة كما قال الله تعالى { أولئك هم الكفرة الفجرة } وقال تعالى { كلا إن كتاب الفجار لفي سجين وما أدراك ما سجين كتاب مرقوم ويل يومئذ للمكذبين الذين يكذبون بيوم الدين } وقال تعالى { وإن الفجار لفي جحيم } فالكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار .
وقوله وإن الرجل ليكذب وفي لفظ: لا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا والكذب من الأمور المحرمة بل قال بعض العلماء إنه من كبائر الذنوب لأن الرسول صلى الله عليه وسلم توعده بأنه يكتب عند الله كذاباً .
ومن أعظم الكذب ما يفعله الناس اليوم يأتي بالمقالة كذبا لكن من أجل أن يضحك الناس وقد جاء في الحديث الوعيد على هذا فقال الرسول عليه الصلاة والسلام ويل لمن حدث فكذب ليضحك به القوم ويل له ثم ويل له وهذا وعيد على أمر سهل عند كثير من الناس .
فالكذب كله حرام وكله يهدي إلى الفجور ولا يستثنى منه شيء ورد في الحديث أنه يستثنى من ذلك ثلاثة أشياء في الحرب والإصلاح بين الناس وحديث المرأة زوجها وحديثه إياها .
ولكن بعض أهل العلم قال: إن المراد بالكذب في هذا الحديث التورية وليس الكذب الصريح وقال التورية قد تسمى كذبا كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ثنتين فيهن في ذات الله تعالى قوله إني سقيم وقوله بل فعله كبيرهم هذا وواحدة في شأن سارة الحديث وهو لم يكذب إنما ورى تورية هو فيها صادق .
وسواء كان هذا أو هذا فإن الكذب لا يجوز إلا في هذه الثلاث على رأي كثير من أهل العلم .
وأشد شيء في الكذب أن يكذب ويحلف ليأكل أموال الناس بالباطل مثل أن يدعي عليه بحق ثابت فينكر ويقول والله مالك على حق أو يدعي ما ليس له فيقول لي عندك كذا وكذا وهو كاذب فهذا إذا حلف على دعواه وكذب فإن ذلك هو اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في الإثم ثم تغمسه في النار والعياذ بالله .
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من حلف على يمين صبر هو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان فالحاصل أن الكذب حرام ولا يجوز للإنسان أن يكذب مطلقا إلا على المسائل الثلاث على الخلاف السابق .
55 - الثاني عن أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب قال حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة رواه الترمذي وقال حديث صحيح قوله يريبك هو بفتح الياء وضمها ومعناه اترك ما تشك في حله واعدل إلى ما لا تشك فيه .
الشَّرْحُ
قوله دع أي اترك ما يريبك بفتح الياء أي تشك فيه ولا تطمئن إليه إلى ما لا يريبك أي إلى الشيء الذي لا ريب فيه .
وهذا الحديث من أحاديث الأربعين النووية وهو حديث جامع مهم وهو باب عظيم من أبواب الورع والاحتياط .
وقد سلك أهل العلم رحمهم الله في أبواب الفقه هذا المسلك وهو الأخذ بجانب الاحتياط وذكروا لذلك أشياء كثيرة .
منها إنسان أصاب ثوبه نجاسة ولا يدري هل هي في مقدم الثوب أو في مؤخره إن غسل المقدم صار عنده ريبة لاحتمال أن تكون في مؤخر الثوب وإن غسل المؤخر صار عنده ريبة لاحتمال أن تكون في مقدم الثوب فما هو الاحتياط ؟ ومنها لو شك الإنسان في صلاته هل صلى ركعتين أو ثلاث ركعات ولم يترجح عنده شيء فهنا إن أخذ بركعتين صار عنده ريبة فلعله نقص وإن أخذ بالثلاث صار عنده ريبة فلعله لم ينقص لكن يبقى قلقا فهنا يعمل بما لا ريبة فيه فيعمل بالأقل فإذا شك هل هي ثلاث أو أربع فليجعلها ثلاثاً وهكذا .
فهذا الحديث أصل من أصول الفقه أن الشيء الذي تشك فيه اتركه إلى شيء لا شك فيه ثم إن فيه تربية نفسية وهي أن الإنسان يكون في طمأنينة ليس في قلق لأن كثيراً من الناس إذا أخذ ما يشك فيه يكون عنده قلق إذا كان حي القلب فإذا قطع الشك باليقين زال عنه ذلك .
قال النبي صلى الله عليه وسلم فإن الصدق طمأنينة وهذا وجه الشاهد من هذا الحديث لهذا الباب فالصدق طمأنينة لا يندم صاحبه أبداً ولا يقول ليتني وليت لأن الصدق منجاة والصادقون ينجيهم الله بصدقهم وتجد الصادق دائماً مطمئناً لأنه لا يتأسف على شيء حصل أو يحصل في المستقبل لأنه قد صدق ومن صدق نجا .
أما الكذب فبين النبي عليه الصلاة والسلام أنه ريبة ولهذا تجد أول من يرتاب في الكاذب نفسه فيرتاب هل يصدقه الناس أو لا يصدقونه .
ولهذا تجد الكاذب إذا أخبرك بالخبر قام يحلف بالله صدق لئلا يرتاب في خبره مع أنه محل ريبة .
تجد المنافقين مثلا يحلفون بالله ما قالوا ولكنهم في ريبة قال الله ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا فالكذب لا شك أنه ريبة وقلق للإنسان ويرتاب الإنسان هل علم الناس بكذبه أم لم يعلموا فلا يزال في شك واضطراب .
إذا نأخذ من هذا الحديث أنه يجب على الإنسان أن يدع الكذب إلى الصدق لأن الكذب ريبة والصدق طمأنينة وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام دع ما يريبك إلى ما لا يريبك والله الموفق .
56 - الثالث: عن أبي سفيان صخر بن حرب رضي الله عنه في حديثه الطويل في قصة هرقل قال هرقل فماذا يأمركم يعني النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو سفيان قلت يقول اعبدوا الله وحده لا تشركوا به شيئاً واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة .
متفق عليه
الشَّرْحُ