176 - وعن أنس رضي الله عنه أن فتى من أسلم قال يا رسول الله إني أريد الغزو وليس معي ما أتجهز به قال ائت فلانا فإنه قد كان تجهز فمرض فأتاه فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئك السلام ويقول أعطني الذي تجهزت به فقال يا فلانة أعطيه الذي تجهزت به ولا تحبسي منه شيئا فوالله لا تحبسين منه شيئا فيبارك لنا فيه رواه مسلم
الشَّرْحُ
هذا الحديث الذي ذكره المؤلف فيه الدلالة على الخير فإن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه أن يتجهز إلى الغزو فأرشده النبي صلى الله عليه وسلم ودله على رجل كان قد تجهز براحلته وما يلزمه لسفره ولكنه مرض فلم يتمكن من الخروج إلى الجهاد فجاء الرجل إلى صاحبه الذي كان قد تجهز فأخبره بما قال النبي صلى الله عليه وسلم فقال الرجل لامرأته أخرجي ما تجهزت به ولا تحبسي منه شيئا فوالله لا تحبسين منه فيبارك لنا فيه .
ففي هذا دليل على أن الإنسان إذا دل أحدا على الخير فإنه يثاب على ذلك وقد سبق أنه من دل على خير فله مثل أجر فاعله وفيه دليل أيضا على أن من أراد عملا صالحا فحبسه عنه مرض فإنه ينبغي أن يدفع ما بذله لهذا العمل الصالح إلى من يقوم به حتى يكتب له الأجر كاملا لأن الإنسان إذا مرض وقد أراد العمل وتجهز له ولكن حال بينه وبينه مرضه فإنه يكتب له الأجر كاملا ولله الحمد قال الله تعالى ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وفيه دليل أيضا من كلام الصحابة رضي الله عنهم أن الإنسان إذا بذل الشيء في الخير فإن الأفضل أن ينفذه فمثلا لو أردت أن تتصدق بمال وعزلت المال الذي تريد أن تتصدق به أو تبذله في مسجد أو في جمعية خيرية أو ما أشبه ذلك فلك الخيار أن ترجع عما فعلت لأنه ما دام الشيء لم يبلغ محله فهو بيدك ولكن الأفضل أن تنفذه ولا ترجع فيما أردت من أجل أن تكون من السباقين إلى الخير والله الموفق
باب في التعاون على البر والتقوى
قال الله تعالى { وتعاونوا على البر والتقوى } وقال تعالى { والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } قال الإمام الشافعي رحمه الله كلاما معناه إن الناس أو أكثرهم في غفلة عن تدبر هذه السورة
الشَّرْحُ
قال المؤلف رحمه الله تعالى باب التعاون على البر والتقوى التعاون معناه التساعد وأن يعين بعضهم بعضا على البر والتقوى فالبر فعل الخير والتقوى اتقاء الشر وذلك أن الناس يعملون على وجهين على ما فيه الخير وعلى ما فيه الشر فأما ما فيه الخير فالتعاون عليه أن تساعد صاحبك على هذا الفعل وتيسر له الأمر سواء كان هذا يتعلق بك أو مما يتعلق بغيرك وأما الشر فالتعاون فيه بأن تحذر منه وأن تمنع منه ما استطعت وأن تشير على من أراد أن يفعله بتركه وهكذا فالبر فعل الخير والتعاون عليه والتساعد عليه وتيسيره للناس والتقوى اتقاء الشر والتعاون عليه بأن تحول بين الناس وبين فعل الشر وأن تحذرهم منه حتى تكون الأمة أمة واحدة والأمر في قوله وتعاونوا أمر إيجاب فيما يجب واستحباب فيما يستحب وكذلك في التقوى أمر إيجاب فيما يحرم وأمر استحباب فيما يكره وأما الدليل الثاني في التعاون على البر والتقوى فهو ما ذكره المؤلف رحمه الله من سياق سورة العصر حيث قال الله تعالى { والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } فأقسم الله تعالى بالعصر الذي هو الزمن وإنما أقسم الله تعالى به لأن الزمن هو وعاء الأعمال والناس فيه منهم من يملؤه خيرا ومنهم من يملؤه شرا فأقسم بالعصر لمناسبة المقسم به للمقسم عليه وهو أعمال العباد فقال { إن الإنسان لفي خسر } الإنسان عام يشمل كل إنسان من مؤمن وكافر وعدل وفاسق وذكر وأنثى كل الإنسان في خسر خاسر كل عمله خسران عليه تعب في الدنيا وعدم فائدة في الآخرة إلا من جمع هذه الأوصاف الأربعة { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } فأصلحوا أنفسهم بالإيمان والعمل الصالح وأصلحوا غيرهم بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر فالإيمان يكون بالإيمان بكل ما يجب الإيمان به مما أخبر به الله ورسوله وقد بينه الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ستة أركان وأما عمل الصالحات فهو كل ما يقرب إلى الله ولا يكون العمل صالحا إلا بشرطين هما الإخلاص لله عز وجل والمتابعة لرسوله الإخلاص لله بمعنى ألا تقصد بعملك مراءاة عباد الله لا تقصد إلا وجه الله والدار الآخرة وأما المتابعة فهي المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم بحيث لا تأت ببدعة لأن البدعة وإن أخلص الإنسان فيها مردودة من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد والعبادة التي فيها الاتباع ولكن فيها رياء مردودة أيضا لقوله تعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه وهو حديث قدسي وأما قوله { وتواصوا بالحق } يعني أن بعضهم يوصى بعضهم بالحق وهو ما جاءت به الرسل وتواصوا بالصبر عليه لأن النفس تحتاج إلى صبر لفعل الطاعات وترك المحرمات قال الشافعي رحمه الله لو لم ينزل الله على عباده سورة غير هذه السورة لكفتهم لأنها جامعة مانعة نسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم من المؤمنين العاملين الصالحات المتواصين بالحق المتواصين بالصبر
177 - عن أبي عبد الرحمن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا ومن خلف غازيا في أهله بخير فقد غزا متفق عليه
178 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثا إلى بني لحيان من هذيل فقال لينبعث من كل رجلين أحدهما والأجر بينهما رواه مسلم
الشَّرْحُ
ذكر المؤلف رحمه الله في هذا باب التعاون على البر والتقوى ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا ومن خلف غازيا في أهله بخير فقد غزا وهذا من التعاون على البر والتقوى إذا جهز الإنسان غازيا يعني براحلته ومتاعه وسلاحه ثلاثة أشياء الراحلة والمتاع والسلاح إذا جهزه بذلك فقد غزا كتب له أجر الغازي لأنه أعانه على الخير .
وكذلك من خلفه في أهله بخير فقد غزا يعني لو أن الغازي أراد أن يغزو ولكنه أشكل عليه أهله من يكون عند حاجاتهم فانتدب رجلا من المسلمين وقال أنا أخلفك في أهلك بخير فإن هذا الذي خلفه يكون له أجر الغازي أجر الغازي لأنه أعانه إذا فإعانة الغازي تكون على وجهين الأول أن يعينه في رحله ومتاعه وسلاحه والثاني أن يعينه في كونه خلف عنه في أهله لأن هذا من أكبر العون فإن كثيرا من الناس يشكل عليه من يكون عند أهله يقوم بحاجاتهم فإذا قام الرجل بحاجة أهله وخلفه فيهم بخير فقد غزا ومن ذلك ما جرى لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حين خلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزو تبوك خلفه في أهله فقال يا رسول الله أتدعني مع النساء والصبيان فقال له أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي يعني أن أخلفك في أهلي كما خلف موسى هارون في قومه حينما ذهب إلى ميقات ربه ويؤخذ من هذا أن كل من أعان شخصا في طاعة الله فله مثل أجره فإذا أعنت طالب علم في شراء الكتب له أو تأمين السكن أو النفقة أو ما أشبه ذلك فإن لك أجرا أي مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيئا وهكذا أيضا لو أعنت مصليا على تسهيل مهمته في صلاته في مكانه وثيابه أو في وضوئه في أي شيء فإنه يكتب لك في ذلك أجر فالقاعدة العامة أن من أعان شخصا في طاعة من طاعة الله كان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيئا
179 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي ركبا بالروحاء فقال من القوم ؟ قالوا: المسلمون فقالوا من أنت ؟ قال رسول الله فرفعت إليه امرأة صبيا فقالت ألهذا حج ؟ قال نعم ولك أجر رواه مسلم
الشَّرْحُ
قال المؤلف رحمه الله تعالى فيما نقله عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي ركبا بالروحاء والروحاء مكان بين مكة والمدينة وكان هذا في حجة الوداع فقال لهم من القوم ؟ قالوا المسلمون فمن أنت ؟ قال أنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفعت إليه امرأة صبيا فقالت ألهذا حج ؟ قال نعم ولك أجر رواه مسلم ففي هذا الحديث من الفوائد ما ساقه المؤلف من أجله وهو أن من أعان شخصا على طاعة فله أجر لأن هذه المرأة سوف تقوم برعاية ولدها إذا أحرم وفي الطواف وفي السعي وفي الوقوف وغير ذلك قال له حج ولك أجر .
وهذا كالذي سبق فيمن جهز غازيا أو خلفه في أهله فإنه يكون له أجر الغازي وفي هذا الحديث من الفوائد أن الإنسان ينبغي له أن يسأل عمن يجهله إذا دعت الحاجة إلى ذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل من القوم يخشى أن يكونوا من العدو فيخونوا أو يغدروا أما إذا لم تدع الحاجة إلى ذلك فلا حاجة أن تسأل عن الشخص فتقول من أنت لأن هذا قد يكون داخلا فيما لا يعنيك ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه لكن إذا دعت الحاجة فاسأل حتى تكون على بينه من الأمر وعلى بصيرة وفي هذا الحديث دليل على أن وصف الإنسان نفسه بالصفات الحميدة إذا لم يقصد الفخر وإنما يقصد التعريف لا بأس به لأن هؤلاء الصحابة لما سئلوا من أنتم ؟ قالوا مسلمون والإسلام لا شك أنه وصف مدح لكن إذا أخبر الإنسان به عن نفسه فقال أنا مسلم أنا مؤمن لمجرد الخبر لا من أجل الافتخار فإن ذلك لا بأس به وكذلك لو قاله على سبيل التحدث بنعمة فلو قال الحمد الله الذي جعلني من المسلمين وما أشبه ذلك فإنه لا بأس به بل يكون محمودا إذا لم يحصل فيه محظور .
ومن فوائد هذا الحديث أن الإنسان إذا وصف نفسه بصفة هي فيه بدون فخر فإنه لا يعد هذا من باب مدح النفس وتزكية النفس الذي نهى الله عنه في قوله فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى وفيه دليل أيضا على أن الإنسان ينبغي له أن يغتنم وجود العالم لأن هؤلاء القوم لما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رسول الله جعلوا يسألونه فينبغي للإنسان أن يغتنم فرصة وجود العالم من أجل أن يسأله عما يشكل عليه ومن فوائده أيضا أن الصبي إذا حج له وليه فله أجر والحج يكون للصبي لا للولي وقد اشتهر عند عامة الناس أن الصبي يكون حجة لوالديه وهذا لا أصل له بل حج الصبي له لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما قالت المرأة ؟ ألهذا حج ؟ قال نعم ولك أجر فالحج له وليعلم أن الصبي بل كل من دون البلوغ يكتب له الأجر ولا يكتب عليه الوزر .
واستدل بعض العلماء بقوله نعم له حج أنه إذا أحرم الصبي لزمه جميع لوازم الحج يلزمه الطواف والسعي والوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة ومنى ورمي الجمرات يفعل ما يقدر عليه وما لا يقدر عليه يفعل عنه إلا الطواف والسعي فإنه يطاف ويسعى به .
وقال بعض أهل العلم لا بأس أن يتحلل الصبي ولو بدون سبب لأنه قد رفع عنه القلم وليس بمكلف ولا يقال إن نفل الحج كفرضه لا يجوز الخروج منه وهذا الصبي متنفل فلا يجوز له أن يخرج لأن أصل الصبي من غير المكلفين فلا تلزمه بشيء وهو غير مكلف وهذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله أن الصبي لا يلزم بإتمام الحج ولا بواجبات الحج ولا باجتناب محذوراته وأن ما جاء منه قبل وما تخلف لا يسأل عنه وهذا يقع كثيرا من الناس الآن حيث يحرمون بصبيانهم ثم يتعب الصبي ويأبى أن يكمل ويخلع إحرامه فعلى مذهب جمهور العلماء لابد أن نلزمه بالإتمام وعلى مذهب أبي حنيفة وهو الذي مال إليه صاحب الفروع رحمه الله من أصحاب الإمام أحمد ومن تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية أنه لا يلزم لأنه ليس أهلا للتكليف وفي هذا الحديث أيضا ما يدل على أن الصبي وإن كان غير مميز فإنه يصح منه الحج ولكن كيف تصح نيته وهو غير مميز ؟ قال العلماء ينوي عنه وليه بقلبه أنه أدخله في الإحرام ويفعل وليه كلما يعجز عنه وفي هذه المناسبة نود أن نبين هل يجب على من دخل في الحج أن ينوي الطواف بنية مستقلة والسعي بنية مستقلة والرمي كذلك أولا يشترط ؟ هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء من العلماء من قال إذا أحرم الإنسان بالحج وطاف وسعى على النية الأولى يعني لم يجدد نيته عند الطواف ولا عند السعي فإن حجه صحيح قال تعليلا لقوله إن الطواف والسعي والوقوف والرمي والمبيت كلها أجزاء من عبادة فتكفي النية الأولى كما أن الإنسان إذا صلى ونوى عند الدخول في الصلاة أنه دخل في الصلاة فإنه لا يلزمه أن ينوي الركوع ولا السجود ولا القيام ولا القعود لأنها أجزاء من العبادة فكذلك الحج وهذا القول ينبغي أن يؤتى به عند الضرورة يعني لو جاءك مستفت يقول أنا دخلت المسجد الحرام وطفت وفي تلك الساعة لم تكن عندي نية فهنا ينبغي أن يفتى بأنه لا شيء عليه وأن طوافه صحيح أما عند السعة فينبغي أن يقال إنك إذا نويت أحسن وهو على كل حال لابد أن ينوي الطواف ولكن أحيانا يغيب عن ذهنه أنه طواف الركن أو طواف التطوع وما أشبه ذلك
180 -