156 - فالأول عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال دعوني ما تركتكم إنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم متفق عليه
الشَّرْحُ
قال المؤلف رحمه الله فيما نقله عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال دعوني أو ذروني ما تركتكم قاله النبي عليه الصلاة والسلام لأن بعض الصحابة من حرصهم على العلم ومعرفة السنة كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء قد لا تكون حراما فتحرم من أجل مسألتهم أو قد لا تكون واجبة فتجب من أجل مسألتهم فلهذا أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعوه أن يتركوا ما تركه ما دام لم يأمرهم ولم ينهاهم فليحمدوا الله على العافية ثم علل ذلك بقوله فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم يعني أن الذين من قبلنا أكثروا المسائل على الأنبياء فشدد عليهم كما شددوا على أنفسهم ثم اختلفوا على أنبيائهم أيضا فليتهم لما سألوا فأجيبوا قاموا بما يلزمهم ولكنهم اختلفوا على الأنبياء والاختلاف على الأنبياء يعني مخالفتهم وهنا مثال جاء به القرآن مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم هذا اختلف بنو إسرائيل في قتيل قتل بينهم فادعت كل قبيلة أن الأخرى هي التي قتلته وادرءوا فيها وتنازعوا فيها ورفعوا الأمر إلى نبيهم موسى عليه الصلاة والسلام فقال لهم إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة أمرهم أن يذبحوا بقرة ويأخذوا عضوا من أعضائها ويضربوا به القتيل الذي قتل فإذا فعلوا ذلك فسيخبرهم عن قاتله الذي قتله فقالوا له { أتتخذنا هزوا } المعنى أتضحك علينا وما صلة البقرة برجل قتل وكيف يحيى القتيل بعد موته وهذا من جبروت بني إسرائيل وعنادهم ورجوعهم إلى العقول دون النصوص هؤلاء رجعوا إلى عقولهم الوهمية دون النص ولو أخذوا بالنص لسلموا من هذا { قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } لأن الذي يسخر بالناس جاهل معتد عليهم والجهل هنا بمعنى العدوان أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين فلما رأوا أنه صادق وهو صادق عليه الصلاة والسلام { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي } لو أنهم أخذوا أي بقرة من السوق وذبحوها لحصل المقصود لكن تعنتوا وتشددوا فشدد الله عليهم { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول أنها بقرة لا فارض ولا بكر } لا فارض يعني لا طاعن في السن كبيرة ولا بكر يعني صغيرة { عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون } أمرهم أن يفعلوا وهذا تأكيد للأمر السابق { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } لكنهم أبوا { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها } عرفنا سنها فأخبرنا ما هو لونها { قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين } شدد عليهم مرة ثانية لو ذبحوا أي بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك لكفي لكن تشددوا فشدد عليهم من يجد بقرة على هذه الصفة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين لونها جميل صاف بين ومع ذلك ما امتثلوا { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي } يعني ما عملها { إن البقر تشابه علينا وإنا أن شاء الله لمهتدون قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها } ليس فيها عيب { قالوا الآن جئت بالحق } أعوذ بالله من الضلال وتحكم بالعقول على النصوص هذا قد جاء بالحق من قبل لكن أهواءهم وعقولهم أنكرت ذلك { قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون } يعني ما قاربوا أن يفعلوا ولكن بالإلحاح والمساءلات فعلوا ثم أخذوا جزءا منها فضربوا به القتيل فأحياه الله ثم قال الذي قتلني فلان وانتهت المشكلة المهم أن كثرة السؤال للأنبياء قد تسبب شدة الأمر على الأمة ومن ذلك ما وقع للنبي عليه الصلاة والسلام في قصة الأقرع بن حابس الأقرع بن حابس من بني تميم قال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله فرض عليكم الحج فحجوا فرض الحج مرة وما دام لم يطلب منا أن نكرر فيكفي مرة واحدة فقال الأقرع أفي كل عام يا رسول الله فهذا السؤال في غير محله قال لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ذروني ما تركتكم فإنما أهلك من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم هذا أيضا من التشديد ففي عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا ينبغي أن يسأل عن شيء مسكوت عنه ولهذا قال ذروني ما تركتكم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم أما في عهدنا وبعد انقطاع الوحي بموت النبي صلى الله عليه وسلم فاسأل اسأل عن كل شيء تحتاج إليه لأن الأمر مستقر الآن وليس هناك زيادة ولا نقص لكن في عهد التشريع يمكن أن يزاد ويمكن أن ينقص وبعض العوام يفهم من قوله تعالى { لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } وقوله صلى الله عليه وسلم ذروني ما تركتكم يفهم من ذلك فهما خاطئا فتجده يفعل الحرام ويترك الواجب ولا يسأل ويستدل بهذه الأدلة وتلك النصوص ويزين له الشيطان ذلك والعياذ بالله فالواجب على الإنسان أن يتفقه في دين الله قال النبي عليه الصلاة والسلام من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ثم قال صلى الله عليه وسلم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم فعمم في النهي وخص في الأمر أما في النهي فقال ما نهيتكم عن شيء فاجتنبوه أي شيء ينهانا عنه الرسول عليه الصلاة والسلام فإننا نتجنبه وذلك لأن المنهي عنه متروك فالنهي أمر بالترك والترك ليس فيه مشقة كل إنسان يستطيع أن يترك وليس عليه مشقة ولا ضرر فما نهانا عنه فإننا نتجنبه إلا أن هذا مقيد بالضرورة فإذا اضطر الإنسان إلى شيء محرم وكان لا يجد سواه وتندفع به ضرورته فإنه حلال لقول الله تعالى { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } ولقوله تعالى { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير } إلى قوله { فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم } فيكون قول الرسول صلى الله عليه وسلم ما نهيتكم عن شيء فاجتنبوه يكون مقيدا بحال الضرورة يعني أنه إذا وجدت ضرورة إلى شيء محرم صار هذا المحرم حلالا بشرطين الشرط الأول أن لا تندفع ضرورته بسواه والشرط الثاني أن يكون مزيلا للضرورة وبهذين القيدين نعرف أنه لا ضرورة إلى دواء محرم يعني لو كان هناك دواء ولكنه حرام فأنه لا ضرورة إليه فلو قال قائل أنا أريد أن أشرب دما استشفى به كما يدعى بعض الناس أنه إذا شرب من دم الذئب شفي من بعض الأمراض نقول هذا لا يجوز أولا لكون الإنسان ربما يشفى من غير هذا المحرم إما من الله وإما بدعاء وإما بقراءة وإما بدواء آخر مباح وثانيا أنه ليس يقينا إذا تداوى بالدواء يشفى فما أكثر الذين يتداوون ولا يشفون بخلاف من كان جائعا وليس عنده إلا ميتة أو لحم خنزير أو لحم حمار فإنه يجوز أن يؤكل في هذه الحالة لأننا نعلم أن ضرورته تندفع بذلك بخلاف الدواء وأما قوله عليه الصلاة والسلام وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم فهذا يوافق قول الله عز وجل { فاتقوا الله ما استطعتم } يعني إذا أمرنا بأمر فإننا نأتي منه ما استطعنا وما لا نستطيعه يسقط عنا مثلا أمرنا بأن نصلي الفرض قياما فإذا لم نستطع صلينا جلوسا وإذا لم نستطع صلينا على جنب كما قال صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب وتأمل قوله إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم بخلاف النهي لأن الأمر فعل وإيجاب قد يكون شاقا على النفس ولا يستطيع الإنسان أن يقوم به فلهذا قيده بقوله فأتوا منه ما استطعتم ومع ذلك فإن هذا الأمر مقيد بقيد آخر وهو أن لا يوجد مانع يمنع فإذا وجد مانع يمنع فهذا يدخل في قوله فأتوا منه ما استطعتم ولهذا قال العلماء لا واجب مع عجز ولا محرم مع الضرورة والشاهد من هذا الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم فإن هذا يدخل في المحافظة على السنة وآدابها وأما ما سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم فهو عفو المسكوت عنه معفو عنه وهذا من رحمة الله فالأشياء إما مأمور بها أو منهي عنها أو مسكوت عنها فما سكت عنه الله ورسوله فإنه عفو لا يلزمنا فعله ولا تركه والله الموفق
157 -