باب الأمر بتعهد القرآن والتحذير من تعريضه للنسيان
1002 - عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال تعاهدوا هذا القرآن فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها متفق عليه
1003 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنما مثل صاحب القرآن كمثل الإبل المعقلة إن عاهد عليها أمسكها وإن أطلقها ذهبت متفق عليه
الشَّرْحُ
ذكر المؤلف رحمه الله في كتاب رياض الصالحين باب الأمر بتعهد القرآن والتحذير من تعريضه للنسيان يعني أن كتاب الله عز وجل إذا من الله عليك فحفظته فتعهده وذلك لأن القرآن الكريم كما شبهه النبي صلى الله عليه وسلم كالإبل في عقلها إذا تعهدها الإنسان أمسكها وإن أطلقها ذهبت وضاعت وقد أقسم على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حين قال كما في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها فينبغي لك أن تجعل لك حزبا معينا تتعاهده كل يوم مثلا تقول كل يوم أقرأ جزءا فتختم القرآن في شهر أو جزأين فتختمه في خمسة عشر يوما أو ثلاثا أجزاء فتختمه في عشرة أيام إلى تسعة أيام إلى ثلاثة أيام تعاهد هذا حتى لا تنساه وقد وردت أحاديث في التحذير من نسيانه لمن أهمله أما من نساه بمقتضى الطبيعة فإنه لا يضر لكن من أهمل وتغافل عنه بعد أن أنعم الله عليه بحفظه فإنه يخشى عليه من العقوبة فأنت يا أخي إذا من الله عليك بالقرآن فتعاهده بالقراءة بتلاوته بتكرار التلاوة وكذلك أيضا بالعمل به لأن العمل بالشيء يؤدي إلى حفظه وبقائه ولهذا قال بعض العلماء قيد العلم بالعمل به فإن العمل بالعلم يقتضي بقاءه لأنه لا يزال على قلبك وعلى جوارحك فإذا صار هكذا فإنه يبقى ولا ينسى أما إذا أهمل فإنه يضيع وينبغي لمن قرأ القرآن أن يقرأه بتدبر وتمهل ولا يحل له أن يسرع السرعة التي توجب إسقاط بعض الحروف لأنه إذا أسقط بعض الحروف فقد غير كلام الله من موضعه وحرفه أما العجلة التي لا تستوجب سقوط الحروف فإنه لا بأس بها والله الموفق
باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن وطلب القراءة من حسن الصوت والاستماع لها
1004 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما أذن لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به متفق عليه .
معنى أذن الله أي استمع وهو إشارة إلى الرضي والقبول .
1005 - وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود متفق عليه .
وفي رواية لمسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة
الشَّرْحُ
قال المؤلف رحمه الله في كتابه ( رياض الصالحين ) في آداب القراءة باب استحباب تحسين الصوت بالقراءة وطلب القراءة من حسن الصوت والاستماع إليه هاتان مسألتان: المسألة الأولى استحباب تحسين الصوت في قراءة القرآن وتحسين الصوت ينقسم إلى قسمين أحدهما تحسين الأداء بحيث يبين الحروف ويخرجها من مخارجها حتى يبدو القرآن واضحا بينا فلا يخفى ولا يحذف شيء من الحروف لئلا ينقص شيء مما أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم .
الثاني تحسين النغمة بالصوت يحسن به صوته وكلاهما أمر مطلوب ولكن الأمر الأول تحسين الأداء لا ينبغي المبالغة فيه والغلو فيه بحيث تجد الرجل يقرأ القرآن يتكلف ويحمر وجهه ويتكلف في الغنة وفي الإدغام وفي مثل ذلك فإن هذا من إقامة الحروف المتكلفة ولكن لتكن قراءته طبيعية يبين فيها الحروف والحركات هذا هو المطلوب وأما الغلو والمبالغة فإنهما ليسا مطلوبين وبه نعلم أن تعلم التجويد ليس بواجب لأنه يعود إلى تحسين الصوت بدون غلو ولا مبالغة فهو من الأمور المستحبة التي يتوصل بها الإنسان إلى شيء مستحب لا إلى شيء واجب .
وأما القسم الثاني هو تحسين الصوت فقد يقول قائل حسن الصوت ليس باختيار الإنسان لأن الله تعالى هو الذي يمن على من يشاء من عباده فيعطيه حنجرة قوية وصوتا طيبا فيقال نعم الأمر كذلك لكن يحسن الإنسان الصوت بالتعلم لأن حسن الصوت غريزي ومكتسب فلا يزال يقرأ بصوت حسن حتى يتعلم ويؤدي بصوت حسن & ثم ذكر المؤلف رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما أذن الله لشيء إذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به .
أذن قال العلماء استمع يعني ما استمع الله لشيء من الأشياء التي يسمعها جل وعلا مثل استماعه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به يعني نبي والأنبياء هم أفضل طبقات الخلق يتغنى بالقرآن يعني يقرؤه بصوت حسن يجهر به يعني يرفع صوته به فهذا هو الذي يأذن الله له أي يستمع له جل وعلا لأنه يحب الصوت الحسن بالقرآن والأداء الحسن .
ثم ذكر حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وهو عبد الله بن قيس أحد خطباء النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم استمع إلى قراءته ذات ليلة فأعجبته فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود وآل داود يعني به داود صلى الله عليه وسلم داود عنده صوت حسن جميل رفيع حتى قال الله تعالى يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد فكانت الجبال ترجع مع داود وهو يتلو الزبور لحسن صوته تجاوبه جبال أحجار جامدة وكذلك الطير تؤوب معه سبحان الله تأتي فإذا سمعت قراءته تجمعت في جو السماء وجعلت ترجع معه فكانت الجبال والطيور إذا سمعت قراءة داود للزبور قامت ترجع معه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود يعني صوتا حسنا كصوت آل داود يقول أبو موسى لما قال له الرسول لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة قال لو علمت أنك تستمع أو قال تسمع لحبرته لك تحبيرا يعني يزينه أحسن مما كان .
قال العلماء وفي هذا دليل على أن الإنسان لو حسن صوته بالقرآن لأجل أن يتلذذ السامع ويسر به فإن ذلك لا بأس به ولا يعد من الرياء بل هذا مما يدعو إلى الاستماع لكلام الله عز وجل حتى يسر الناس به ولهذا يوجد بعض الناس إذا ضاق صدره استمع إلى قراءة إنسان حسن القراءة حسن الصوت وهذه متيسرة الآن في أشرطة لبعض القراء الذي لا يتكلفون القراءة وأصواتهم حسنة وأداؤهم حسن إذا استمع الإنسان إليهم لا يكاد يمل لأن كلام الله له تأثير إذا جاء من إنسان حسن الصوت وحسن الأداء لا يمل .
ويستفاد من هذين الحديثين أنه ينبغي للإنسان أن يقرأ القرآن على أكمل ما يمكنه أن يقرأه عليه من حسن الصوت وحسن الأداء ونسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم ممن يقيم حروفه وحدوده حتى يكون حجة لنا لا علينا والله الموفق .
1006 - وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في العشاء بالتين والزيتون فما سمعت أحدا أحسن صوتا منه متفق عليه .
1007 - وعن أبي لبابة بشير بن عبد المنذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من لن يتغن بالقرآن فليس منا رواه أبو داود بإسناد جيد .
ومعنى يتغنى يحسن صوته بالقرآن .
1008 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال لي النبي صلى الله عليه وسلم اقرأ علي القرآن فقلت يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل قال إني أحب أن أسمعه من غيري فقرأت عليه سورة النساء حتى جئت إلى هذه الآية { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا } قال حسبك الآن فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان متفق عليه .
الشَّرْحُ
هذه الأحاديث في بيان تحسين الصوت والقراءة في القرآن الكريم فحديث البراء بن عازب رضي الله عنه أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء فقرأ والتين والزيتون قال فما سمعت قراءة أحسن من قراءته أو قال صوتا أحسن من صوته وكلاهما صحيح فالنبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس صوتا بالقرآن وهو أول وأولى من يدخل في قوله فيما سبق من حديث ما أذن الله لشيء إذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به فرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس صوتا بالقرآن وأحسن الناس أداء في القراءة لأن القرآن عليه أنزل والقرآن هو خلقه صلى الله عليه وسلم .
وفي هذا الحديث دليل على أن صلاة العشاء لا بأس أن يقرأ فيها بقصار المفصل لأن سورة التين من قصار المفصل ولكن الأكثر أن يقرأ فيها من أوساطه لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر معاذ بن جبل أن يقرأ فيها بـ ( سبح اسم ربك الأعلى ) ( هل أتاك حديث الغاشية ) ( والليل إذا يغشى ) ( والشمس وضحاها ) وما أشبه ذلك لكن لا حرج أن يقرأ بقصار المفصل ( كالتين وإذا زلزلت ) وما أشبه ذلك وكذلك أيضا حث النبي صلى الله عليه وسلم على التغني بالقرآن وقال من لم يتغن بالقرآن فليس منا .
قال العلماء وهذه الكلمة لها معنيان الأول ( من لم يتغن به ) أي من لم يستغن به عن غيره بحيث يطلب الهدى من سواه فليس منا فهذا لا شك أن من طلب الهدى من غير القرآن أضله الله والعياذ بالله .
والمعنى الثاني ( من لم يتغن ) أي من لم يحسن صوته بالقرآن فليس منا فيدل على أنه ينبغي للإنسان أن يحسن صوته بالقرآن وأن يستغنى به عن غيره .
وأما الحديث الثالث عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب منه أن يقرأ عليه فقال عبد الله بن مسعود أأقرأ عليك وعليك أنزل فقال صلى الله عليه وسلم إني أحب أن أسمعه من غيري لأن الإنسان الذي يستمع قد يكون أقرب إلى تدبر القرآن من القارئ فالقارئ تجده يركز على ألا يخطئ في القراءة والمستمع يتدبر ويتأمل ولهذا قيل ( القارئ حالب والمستمع شارب ) يعني القارئ يحلب الناقة أو الشاة والمستمع شارب فهو الذي يستفيد المهم أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من عبد الله بن مسعود أن يقرأ عليه فقال أأقرأ القرآن وعليك أنزل قال إني أحب أن أسمعه من غيري فقرأ بسورة النساء حتى إذا جاء إلى قول الله تعالى { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيد } يعني كيف تكون الحال فقال صلى الله عليه وسلم حسبك الآن يقول فالتفت فإذا عيناه تذرفان يبكي صلى الله عليه وسلم أن يؤتى به يوم القيامة شهيدا على أمته لأنه يؤتى يوم القيامة من كل أمة بشهيد الأنبياء شهداء العلماء شهداء لأن العلماء واسطة بين الرسل وبين الخلق هم الذين يحملون شريعة الرسل إلى الخلق فهم شهداء فالعالم يشهد بأمرين .
أمر أعلى وأمر أسفل الأمر الأعلى يشهد بأن هذا حكم الله والأمر الأسفل يشهد لأنه قد بلغ الناس لأن العالم يبلغ فمثلا يقرأ آية حديثا ويقول للناس معناها كذا وكذا اعلموا بها فيشهد عليهم فهو شاهد من طرفين طرف أعلى وطرف أسفل الطرف الأعلى أنه يشهد بأن هذا حكم الله بلغه للعباد والأسفل أنه يشهد أنه بلغ الناس به فقامت عليهم الحجة فيوم القيامة يؤتى من كل أمة بشهيد وأول من يشهد الرسل نشهد أننا بلغنا رسالة ربنا إلى خلقه ويؤتى من هذه الأمة بـ محمد صلى الله عليه وسلم يستشهده الله فيشهد أنه بلغ مع أن النبي صلى الله عليه وسلم استشهد ربه في أكبر مجمع للمسلمين في ذلك الوقت في يوم عرفة لما خطب الناس الخطبة الطويلة العظيمة البليغة قال ألا هل بلغت قالوا نعم قال اللهم اشهد قال ألا هل بلغت قالوا نعم قال اللهم اشهد قال ألا هل بلغت قالوا نعم قال اللهم اشهد .
لما وصل إلى هذه الآية بكى صلى الله عليه وسلم لأمه تصور هذه الحال تخيلها حالا عظيمة كل أمة جاثية وكل أمة تدعى إلى كتابها كل أمة تأتي على الركب من شدة الهول وعظمته { كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون } ولهذا قال في الآية الكريمة التي وقف عليها عبد الله بن مسعود { يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض } يعنى يودون أنهم ما بعثوا وما قبضوا { ولا يكتمون الله حديثا } { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا } يودون أنهم بقوا في الأرض أو أن يكونوا ترابا ولكن لا ينفعهم ولهذا قال تعالى { ولا يكتمون الله حديثا } فالمهم أنه يجوز للإنسان أن يطلب من شخص قارئ أن يقرأ عليه ولو كان هذا القارئ أقل منه علما لأن بعض الناس يعطيه الله تعالى حسن صوت وحسن أداء وإن كان قليل العلم فلا بأس أن تقول يا فلان جزاك الله خيرا اقرأ علي إما أن تعين له ما يقرأ وإما أن تدع الأمر إليه فتستمع وفي هذا الحديث بركة القرآن أنه ينتفع به القارئ والمستمع ولا شك أن القرآن أعظم الكتب بركة وأفيدها وأصلحها للقلب وأرضاها للرب نسأل الله أن يجعلني وإياكم من أهل القرآن الذين يعملون به ظاهرا وباطنا يموتون عليه ويحيون عليه والله الموفق .
باب الحث على سور وآيات مخصوصة
1010 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في { قل هو الله أحد } والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن .
وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه أيعجز أحدكم أن يقرأ بثلث القرآن في ليلة فشق ذلك عليهم وقالوا أينا يطيق ذلك يا رسول الله فقال قل هو الله أحد الله الصمد ثلث القرآن رواه البخاري .
1011 - وعنه أن رجلا سمع رجلا يقرأ قل هو الله أحد يرددها فلما أصبح جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له وكأن الرجل يتقالها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن رواه البخاري .
الشَّرْحُ
قال النووي رحمه الله فيما نقله من الأحاديث في باب الحث على سور معينة في كتاب الله في فضل قل هو الله أحد الله الصمد ..
.
وهي تسمى سورة الإخلاص لأن الله سبحانه وتعالى أخلصها لنفسها فلم يذكر فيها شيئا إلا من أسماء الله وصفاته وأيضا من قرأها مؤمنا بها معتقدا لما دلت عليه فإنه مخلص الله عز وجل سالم من الشرك هذه السورة كلها أسماء لله وصفاته ( قل هو الله أحد ) يقال إن المشركين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا انسب لنا ربك يعني ما نسبه كأنهم يقولون من هو ابن له والعياذ بالله أو أنهم سألوه من أي شيء هو أمن ذهب أو فضة أو ما أشبه ذلك فأنزل الله هذه السورة .
{ قل هو الله أحد } أحد يعني واحد منفرد عن كل مخلوقاته جل وعلا و ( أحد ) اسم مختص بالله سبحانه وتعالى لا يطلق على غيره .
{ الله الصمد } الصمد اختلفت عبارات المفسرين في معناه لكن المعنى الجامع لها أن الصمد هو الكامل في صفاته الذي افتقرت إليه جميع مخلوقاته فهو الكامل في علمه في قدرته في رحمته في حلمه وفي غير ذلك من صفاته وكذلك هو الذي افتقرت إليه جميع مخلوقاته كل الخلائق تصمد إليه في حاجتها وتسأله حتى المشركون إذا كانوا في البحر وماجت الأمواج فإنما يدعون الله وحده فهو جل وعلا مرجع الخلائق كلها فالصمد إذا معناه الكامل في صفاته الذي افتقرت إليه جميع مخلوقاته { لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد } لم يلد ليس له أولاد عز وجل لأنه غني عن كل أحد قال الله تعالى { أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة } وفي هذا رد وإبطال لما ادعته اليهود والنصارى والمشركون اليهود قالوا عزيز ابن الله يعني قالوا إله يلد وابنه عزير والنصارى قالوا المسيح ابن الله والمشركون قالوا الملائكة بنات الله فأبطل الله ذلك كله { لم يلد ولم يولد } وذلك لأنه جل وعلا هو الأول الذي ليس قبله شيء فهو الأول وما بعده كائن بعد أن لم يكن أما الرب جل وعلا فإنه أول أزلي أبدي .
{ ولم يكن له كفوا أحد } يعني لا أحد يكافئه ويكون ندا له لا في علمه ولا في قدرته ولا في غير ذلك ولما افتخرت عاد بقوتها وقالوا { من أشد منا قوة } قال الله عز وجل { أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات } ريحا هواء من ألين المخلوقات فدمرهم تدميرا وهم يقولون من أشد منا قوة ؟ ! والله عز وجل لا يكون له كفوا أحد .
واعلم أن ( كفوا ) فيها ثلاث قراءات كفوا بضم الفاء ولا يصلح أن تكون كفوا بسكون الفاء وفيها قراءتان أخريان بالهمز مع سكون الفاء وبالهمزة مع ضم الفاء كفئا وكفؤا وأما مع الواو فإنها مضمومة ونسمع كثيرا من القراء يقرءونها بالسكون مع الواو وهذا لحن فأنت إذا قرأتها بالواو ضم الفاء .
وهذه السورة أقسم النبي صلى الله عليه وسلم أنها تعدل ثلث القرآن وقال لأصحابه أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة ؟ فشق عليهم ذلك فقال { قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد } تعدل ثلث القرآن يعني أجرها كأجر ثلث القرآن لكنها لا تجزئ عن القرآن ولهذا لو قرأها الإنسان مثلا ثلاث مرات بدل قراءة الفاتحة في الصلاة لا تجزئ لأن هناك فرقا بين المعادلة في الأجر والمعادلة في الإجزاء قد يكون الشيء معادلا لغيره في الأجر ولكنه لا يعادله في إجزائه أرأيتم مثلا إذا قال الإنسان لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل يعني يعادل عتق أربعة رقاب لكن لو كان عليه عتق رقبة وقال ذلك ما نفعه ذلك فهناك فرق بين المعادلة في الثواب والمعادلة في الإجزاء فهي تعدل ثلث القرآن في الثواب ولكنها لا تعدل في الإجزاء ولهذا لو قرأها الإنسان ثلاث مرات في الصلاة لم تجزئه عن الفاتحة والله الموفق .
1012 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في { قل هو الله أحد } إنها ثلث القرآن رواه مسلم .
1013 - وعن أنس رضي الله عنه أن رجلا قال يا رسول الله إني أحب هذه السورة قل هو الله أحد قال إن حبها أدخلك الجنة رواه الترمذي وقال حديث حسن رواه البخاري في صحيحه تعليقا .
1014 - وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم ير مثلهن قط قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس رواه مسلم
1015 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجان وعين الإنسان حتى نزلت المعوذتان فلما نزلتا أخذ بهما وترك ما سواهما رواه الترمذي وقال حديث حسن .
1016 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من القرآن سورة ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي تبارك الذي بيده الملك رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن وفي رواية أبي داود تشفع .
1017 - وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه متفق عليه .
قيل كفتاه المكروه تلك الليلة وقيل كفتاه من قيام الليل .
الشَّرْحُ
ذكر المؤلف رحمه الله تعالى في باب الحث على قراءة سور وآيات معينة من سور القرآن ما سبق في سورة الفاتحة وسورة الإخلاص وقد تقدم الكلام عليهما ومن ذلك المعوذتان فإن المعوذتين وهما قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس ما تعوذ بهما متعوذ عن إيمان وصدق إلا أعاذه الله عز وجل أما سورة { الفلق } فيقول الله عز وجل { قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق } يعني قل أيها الإنسان مستعينا بربك أعوذ برب الفلق من شر ما خلق .
الفلق فلق الصبح وفلق الحب والنوى قال الله تعالى { فالق الإصباح } وقال { إن الله فالق الحب والنوى } فهو عز وجل رب الفلق لا يستطيع أحد أن يفلق شيئا من هذه التي ذكرها الله إلا الله عز وجل { من شر ما خلق } أي كل ما خلق ومنهم نفسه كما جاء في الحديث الصحيح نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا والنفس أمارة بالسوء فتستعيذ بالله من شر ما خلق أي من شر كل ما خلق من الإنس والجن والنفس وغير ذلك { ومن شر غاسق إذا وقب } الغاسق الليل لأن الليل تخرج فيه الهوام وتخرج فيه السباع وتكون فيه الشرور فتستعيذ بالله من شر الليل إذا وقب أي إذا دخل { ومن شر النفاثات في العقد } يعني الساحرات اللاتي ينفثن في العقد ليسحرن الناس ونص على النساء وإن كان السحر يكون في النساء وفي الرجال لأنه هو الغالب فيهن ويجوز أن يكون من { النفاثات } أي النفوس النفاثات فتشمل النساء والرجال { ومن شر حاسد إذا حسد } هذه العين صاحب العين والعياذ بالله الشرير الذي لا يحب الخير للغير تجده إذا من الله على أحد بشيء من مال أو جاه أو علم أو ولد أو زوجة أو غير ذلك يخرج من نفسه الخبيثة كما يخرج السهم فيصيب الرجل وهذا السهم لا ينفعه شيئا لكن نفسه خبيثة والعياذ بالله لا تحب الخير للغير فيصاب الإنسان بالعين قال النبي صلى الله عليه وسلم لو سبق القضاء شيء أو قال القدر لسبقته العين فالعين تدرك وهي حق حتى قال بعض العلماء إنها المراد من قوله تعالى { وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر } .
{ ومن شر حاسد إذا حسد } ثم قال { إذا حسد } لأن الحاسد قد لا يحسد لكن إذا حسد والعياذ بالله تعدى شره غيره يعني تعدى إلى غيره ويجوز أن يكون المراد بالآية الحاسد العائن وغير العائن لأن بعض الناس حسود والعياذ بالله .
والحسد هو كراهة ما أنعم الله به على غيرك وإن كنت لا تتمنى زواله فإن تمنيت زواله صار أشد والعياذ بالله .
والحاسدون والعياذ بالله نسأل الله العافية لا يحرقون إلا أنفسهم الحاسد يحترق كلما أنعم الله على عباده نعمة احترق قلبه فهذا الحاسد والعياذ بالله أحيانا إذا حسد بغى على الغير واعتدى عليهم مثلا افترض أن إنسانا من الله عليه بمال وصار ينفقه في سبيل الله ووجده رجل حسود والعياذ بالله قلبه يحترق أيضا إذا من الله على إنسان بعلم وصار له قبول عند الناس صار والعياذ بالله يحسد وهلم جرا والحسد والعياذ بالله من كبائر الذنوب وقد ذم الله اليهود عليه فقال { أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله } فالفضل من الله يؤتيه من يشاء وأنت إذا حسدت جنيت على من أعطاهم الله الفضل وجنيت واعتديت على حق الله كأنك تقول ما استحق هذا الرجل هذه النعمة فتحسد هذه سورة الفلق .
والمهم أن الإنسان ينبغي أن يتعوذ بهاتين السورتين وذكر الترمذي رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من الجان ومن عين الإنسان حتى نزلت { قل أعوذ برب الفلق } و { قل أعوذ برب الناس } فصار يتعوذ بهما وترك ما سواهما والله الموفق .
1018 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة رواه مسلم .