كتاب العلم
الفصل الثاني: الأسباب المعينة على طلب العلم
الأسباب المعينة على طلب العلم كثيرة، نذكر منها :
أولا: التقوى:
وهي وصية الله للأولين والآخرين من عباده، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} [النساء: 131].
وهي أيضًا وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، فعن أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع فقال: "اتقوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدّوا زكاة أموالكم، وأطيعوا أمراءكم تدخلوا جنة ربكم" 1.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرًا على سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرًا. ولم يزل السلف الصالح يتواصون بها في خُطَبهم ومكاتباتهم ووصاياهم عند الوفاة.
كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى ابنه عبد الله: أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله -عز وجل- فإنه من اتقاه وقاه، ومن أقرضه جزاه ؛ ومن شكره زاده.
وأوصى علي رضي الله عنه رجلا فقال: أوصيك بتقوى عز وجل الذي لا بد لك من لقائه ولا مُنتهى لك دونه، وهو يملك الدنيا والآخرة.
وكتب أحد الصالحين إلى أخ له في الله تعالى: أوصيك بتقوى الله الذي هو نجيك في سريرتك ورقيبك في علانيتك ، فاجعل الله من بالك على كل
ـــــــ
1 صحيح رواه الترمذي 616. وأحمد 5/251, 262 وصححه الألباني في الصحيحة 687.
(1/43)
حال في ليلك ونهارك ، وخف الله بقدر قربه منك وقدرته عليك ، واعلم أنك بعينه ليس تخرج من سلطانه إلى سلطان غيره ولا من ملكه إلى ملك غيره ، فليعظم منه حذرك وليكثر منه وجلك والسلام.
ومعنى التقوى: أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه وقاية تقيه منه.
وتقوى العبد ربه: أن يجعل بينه وبين من يخشاه من غضبه وسخطه وقاية تقيه من ذلك، بفعل طاعته واجتناب معاصيه. واعلم أن التقوى أحيانًا تقترن بالبر، فيقال: بر وتقوى كما في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وتارة تذكر وحدها فإن قرنت بالبر صار البر فعل الأمر، والتقوى ترك النواهي. وإذا أفردت صارت شاملة تعم فعل الأمر واجتناب النواهي، وقد ذكر الله في كتابه أن الجنة أعدت للمتقين، فأهل التقوى هم أهل الجنة - جعلنا الله وإياكم منهم - ولذلك يجب على الإنسان أن يتقي الله - عز وجل - امتثالا لأمره، وطلبًا لثوابه، والنجاة من عقابه. قال الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29].
وهذه الآية فيها ثلاث فوائد مهمة:
الفائدة الأولى: {يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} أي يجعل لكم ما تفرقون به بين الحق والباطل، وبين الضار والنافع ، وهذا يدخل فيه العلم بحيث يفتح الله على الإنسان من العلوم ما لا يفتح لغيره، فإن التقوى يحصل بها زيادة الهدى، وزيادة العلم، وزيادة الحفظ، ولهذا يذكر عن الشافعي رحمه الله أنه قال:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور ... ونور الله لا يؤتاه عاصي
ولا شك أن الإنسان كلما ازداد علمًا ازداد معرفة وفرقانًا بين الحق والباطل، والضار والنافع، وكذلك يدخل فيه ما يفتح الله على الإنسان من الفهم؛ لأن التقوى سبب لقوة الفهم، وقوة يحصل بها زيادة العلم، فإنك ترى الرجلين يحفظان
(1/44)
آية من كتاب الله يستطيع أحدهما أن يستخرج منها ثلاثة أحكام، ويستطيع الآخر أن يستخرج أكثر من هذا بحسب ما آتاه الله من الفهم. الفتوى سبب لزيادة الفهم.
ويدخل في ذلك أيضًا الفراسة أن الله يعطي المتقي فراسة يميّز بها حتى بين الناس. فبمجرد ما يرى الإنسان يعرف أنه كاذب أو صادق، أو بر أو فاجر حتى أنه ربما يحكم على الشخص وهو لم يعاشره، ولم يعرف عنه شيئًا بسبب ما أعطاه الله من الفراسة.
الفائدة الثانية: {وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [الأنفال: 29] وتكفير السيئات يكون بالأعمال الصالحة، فإن الأعمال الصالحة تكفر الأعمال السيئة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر" 1.
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما" 2.
فالكفارة تكون بالأعمال الصالحة، وهذا يعني أن الإنسان إذا اتقى الله سهل له الأعمال الصالحة التي يكفّر الله بها عنه.
الفائدة الثالثة: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} بأن ييسركم للاستغفار والتوبة، فإن هذا من نعمة الله على العبد أن ييسر للاستغفار والتوبة.
ثانيًا: المثابرة والاستمرار على طلب العلم:
يتعين على طالب العلم أن يبذل الجهد في إدراك العلم والصبر عليه وأن يحتفظ به بعد تحصيله، فإن العلم لا يُنَال براحة الجسم، فيسلك المتعلم جميع الطرق الموصلة إلى العلم وهو مُثَاب على ذلك؛ لما ثبت في صحيح مسلم عن 3
ـــــــ
1 صحيح: رواه مسلم 233. والترمذي 214. وأحمد 2/400.
2 متفق عليه: رواه البخاري 1773. ومسلم 1349.
3 صحيح: رواه مسلم 2699. والترمذي 2641, 2945/وأبو داود 3643.
(1/45)
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من سلك طريقًا يلتمس به علمًا سهَّل الله له طريقا إلى الجنة ".
فليثابر طالب العلم ويجتهد ويسهر الليالي ويدع عنه كل ما يصرفه أو يشغله عن طلب العلم.
وللسلف الصالح قضايا مشهورة في المثابرة على طلب العلم حتى إنه يروى عن ابن عباس رضي الله عنه أنه سئل بما أدركت العلم؟ قال: بلسان سؤول، وقلب عقول، وبدن غير ملول.
وعنه أيضا رضي الله عنه قال: إن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل فأتوسد ردائي على بابه، تسفي الريح علي من التراب، فيخرج فيقول: يا ابن عم رسول الله ما جاء بك؟ ألا أرسلت إليَّ فآتيك؟ فأقول: أنا أحق أن آتيك، فأسأله عن الحديث. فابن عباس رضي الله عنه تواضع للعلم فرفعه الله به.
وهكذا ينبغي لطالب العلم أن يثابر المثابرة الكبيرة، ويروى أيضًا عن الشافعي رحمه الله أنه استضافه الإمام أحمد ذات ليلة فقدم له العشاء، فأكل الشافعي ثم تفرق الرجلان إلى منامهما، فبقي الشافعي - رحمه الله - يفكر في استنباط أحكام من حديث، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا عمير ما فعل النغير" 1.
أبو عمير كان معه طائر صغير يسمى النغير ، فمات هذا الطائر فحزن عليه الصبي، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يداعب الصبيان ويكلم كل إنسان بما يليق به، فظل طول الليل يستنبط من هذا الحديث ويقال: إنه استنبط منه أكثر من ألف فائدة، ولعله إذا استنبط فائدة جر إليها حديث آخر، وهكذا حتى تتم فلما أذن الفجر قام الشافعي رحمه الله ولم يتوضأ* ثم انصرف إلى بيته، وكان الإمام أحمد يثني عليه عند أهله فقالوا له: يا أبا عبد الله كيف تثني على هذا الرجل الذي أكل فشرب ونام ولم يقم، وصلى الفجر بدون وضوء؟ فسئل الإمام الشافعي فقال:
ـــــــ
1 متفق عليه: رواه البخاري 6129. ومسلم 2150.
* لأنه ما زال على وضوئه.
(1/46)
أما كوني أكلت حتى أفرغت الإناء فذلك لأني ما وجدت طعامًا أطيب من طعام الإمام أحمد فأردت أن أملأ بطني منه، وأما كوني لم أقم لصلاة الليل فإن العلم أفضل من قيام الليل، وقد كنت أفكر في هذا الحديث، وأما كوني لم أتوضأ لصلاة الفجر فكنت على وضوء من صلاة العشاء ) ولا يحب أن يكلفهم بماء الوضوء.
أقول على كل حال: إن المثابرة في طلب العلم أمر مهم، فلننظر في حاضرنا الآن هل نحن على هذه المثابرة؟ لا. أما الذين يدرسون دراسة نظامية إذا انصرفوا من الدراسة ربما يتلهون بأشياء لا تعين على الدرس، وإني أضرب مثلا وأحب ألا يكون وألا يوجد له نظير، أحد الطلبة في بعض المواد أجاب إجابة سيئة ، فقال المدرس: لماذا؟ فقال: لأني قد أيست من فهم هذه المادة، فأنا لا أدرسها ولكن أريد أن أكون حاملا لها، كيف اليأس؟ وهذا خطأ عظيم، يجب أن نثابر حتى نصل إلى الغاية.
وقد حدثني شيخنا المثابر عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - أنه ذكر عن الكسائي إمام أهل الكوفة في النحو أنه طلب النحو فلم يتمكن، وفي يوم من الأيام وجد نملة تحمل طعامًا لها وتصعد به إلى الجدار وكلما صعدت سقطت ، ولكنها ثابرت حتى تخلصت من هذه العقبة وصعدت الجدار، فقال الكسائي:
هذه النملة ثابرت حتى وصلت الغاية، فثابر حتى صار إمامًا في النحو.
ولهذا ينبغي لنا أيها الطلبة أن نثابر ولا نيأس فإن اليأس معناه سد باب الخير، وينبغي لنا ألا نتشاءم بل نتفاءل وأن نعد أنفسنا خيرًا.
ثالثًا الحفظ :
فيجب على طالب العلم الحرص على المذاكرة وضبط ما تعلمه إما بحفظه في صدره، أو كتابته، فإن الإنسان عرضة للنسيان، فإذا لم يحرص على المراجعة وتكرار ما تعلمه فإن ذلك يضيع منه وينساه وقد قيل:
العلم صيد والكتابة قيده ... قيِّد صيودك بالحبال الواثقة
(1/47)
فمن الحماقة أن تصيد غزالة ... وتتركها بين الخلائق طالقة
ومن الطرق التي تعين على حفظ العلم وضبطه أن يهتدي الإنسان بعلمه، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17].
وقال: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم: 76].
فكلما عمل الإنسان بعلمه زاده الله حفظًا وفهمًا، لعموم قوله: {زَادَهُمْ هُدًى}.
رابعًا ملازمة العلماء:
يجب على طالب العلم أن يستعين بالله عز وجل ثم بأهل العلم، ويستعين بما كتبوا في كتبهم؛ لأن الاقتصار على مجرد القراءة والمطالعة يحتاج إلى وقت طويل بخلاف من جلس إلى عالم يبين له ويشرح له وينير له الطريق، وأنا لا أقول: إنه لا يُدرَك العلم إلا بالتلقي من المشايخ ، فقد يدرك الإنسان بالقراءة والمطالعة لكن الغالب أنه إذا ما أكبّ إكبابًا تامًّا ، ورزق الفهم فإنه قد يخطئ كثيرًا ولهذا يقال: من كان دليله كتابه فخطؤه أكثر من صوابه ، ولكن هذا ليس على الإطلاق في الحقيقة.
ولكن الطريقة المثلى أن يتلقى العلم على المشايخ ، وأنا أنصح طالب العلم أيضًا ألا يتلقف من كل شيخ في فن واحد، مثل أن يتعلم الفقه من أكثر من شيخ؛ لأن العلماء يختلفون في طريقة استدلالهم من الكتاب والسنة، ويختلفون في آرائهم أيضًا، فأنت تجعل لك عالمًا تتلقى علمه في الفقه أو البلاغة وهكذا ، أي تتلقى العلم في فن واحد من شيخ واحد، وإذا كان الشيخ عنده أكثر من فن فتلتزم معه، لأنك إذا تلقيت علم الفقه مثلا من هذا وهذا واختلفوا في رأيهم فماذا يكون موقفك وأنت طالب؟ يكون موقفك الحيرة والشك، لكن التزامك بعالم في فن معين فهذا يؤدي إلى راحتك.
http://madrasato-mohammed.com/outaymin/pg_055_0005.htm