(1/140)
87- وسئل فضيلة الشيخ: ما نصيحة فضيلتكم حول العمل بالعلم؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا بد من العمل بالعلم، لأن ثمرة العلم العمل؛ لأنه إذا لم يعمل بعلمه صار من أول من تُسعَّر بهم النار يوم القيامة.
كما قيل:
وعالم بعلمه لم يعمل ... معذب من قبل عبّاد الوثن
فإذا لم يعمل بعلمه أورث الفشل في العلم وعدم البركة ونسيان العلم، لقول الله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 13].
وهذا النسيان يشمل النسيان الذهني والنسيان العملي، فيكون بمعنى ينسونه ذهنيًّا أو ينسونه يتركونه؛ لأن النسيان في اللغة العربية يطلق بمعنى الترك، أما إذا عمل الإنسان بعلمه فإن الله تعالى يزيده هدى، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى}. [محمد: 17].
ويزيده تقوى ولهذا قال: {وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17]. فإذا عمل بعلمه ورَّثه الله علم ما لم يعلم ولهذا قال بعض السلف: العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل.
88- سئل الشيخ وفقه الله تعالى: ما الأمور التي جب توافرها فيمن يتلقى عنه العلم؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا بد أن يُطلب العلم على شيخ متقن ذي أمانة؛ لأن الإتقان قوة، والقوة لا بد معها من أمانة، قال الله تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26].
ربما يكون العالم عنده إتقان وسعة علم وقدرة على التفريع والتقسيم، ولكن ليس عنده أمانة فربما أضلك من حيث لا تشعر،كذلك لا تأخذ العلم بالتحصيل الذاتي أي: أن تقرأ الكتب فقط دون أن يكون لك شيخ معتمد ولهذا قيل: من دليله كتابه كان خطأه أكثر من صوابه لأنه يجد بحرا لا ساحل له ويجد عمقا لا يستطيع التخلص منه أما من أخذ من عالم شيخ فإنه يستفيد فوائد عظيمة:
(1/141)
الأول: قصر المدة.
الثاني: قلة التكلفة.
الثالث: أن ذلك أحرى بالصواب. لأن هذا الشيخ قد علم وتعلم ورجح وفهم فيعطيك الشيء ناضجًا، لكنه يمرنك على المطالعة والمراجعة إذا كان عنده شيء من الأمانة، أما من اعتمد على الكتب فلا بد أن يكرس جهوده ليلا ونهارًا، ثم إذا طالع الكتب التي يقارن فيها بين أقوال العلماء فسيقت أدلة هؤلاء وسيقت أدلة هؤلاء من يدله على أن هذا أصوب؟ يبقى متحيِّرًا، ولهذا نرى أن ابن القيم حينما يناقش قولين لأهل العلم سواء في زاد المعاد أو إعلام الموقعين إذا ساق أدلة القول الأول وعلله نقول هذا هو القول الصواب ولا يجوز العدول عنه بأي حال من الأحوال ثم ينقضه ويأتي بالقول المقابل ويذكر أدلته وعلله فتقول هذا هو القول الصواب، فيحصل عندك من الإشكال والتردد، فلا بد أن تكون قراءتك على شيخ متقن أمين.
89- وسئل فضيلة الشيخ: بعض المبتدئين يبدءون في القراءة من كتاب المحلى لابن حزم بحجة التمرن على المناظرة وحينما تنصحهم بأن هذا سابق لأوانه فيقولون نريد التمرن فهل هذا صحيح؟
فأجاب فضيلته بقوله: مناظرة ابن حزم -رحمه الله- مناظرة صعبة، يشدد على خصمه، ويحصل منه أحيانًا سبّ لمخالفه، فهو -رحمه الله- كان شديدًا جدًّا، وأخشى أن يكون طالب العلم الصغير إذا تعود على مثل ما كان عليه ابن حزم أخشى عليه من المماراة، فلو أنه سلاك مسلكًا سهلا لكان أحسن، وإذا حصل على قدر كبير من العلم ـ إن شاء الله ـ وعرف كيف يستفيد من ابن حزم فليطالع في كتابه، لذلك لا أنصح بمطالعته للطالب المبتدئ، لكن التمرن على المجادلة لإثبات الحق أمر لا بد منه، فكثير من الناس عنده علم واسع لكنه عند المجادلة لا يستطيع إثبات الحق.
90- سئل فضيلة الشيخ حفظه الله تعالى: إذا أراد طالب العلم الفقه فهل له الاستغناء عن أصول
(1/142)
الفقه؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا أراد طالب العلم أن يكون عالمًا في الفقه فلا بد أن يجمع بين الفقه وأصول الفقه ليكون متبحرًا متخصصًا فيه، وإلا فيمكن أن تعرف الفقه بدون علم الأصول، ولكن لا يمكن أن تعرف أصول الفقه، وتكون فقيهًا بدون علم الفقه، أي أنه يمكن أن يستغني الفقيه عن أصول الفقه ولا يمكن أن يستغني الأصولي عن الفقه إذا كان يريد الفقه، ولهذا اختلف علماء الأصول هل الأولى لطالب العلم أن يبدأ بأصول الفقه حتى يبني الفقه عليها، أو بالفقه لدعاء الحاجة إليه، حيث إن الإنسان يحتاج إليه في عمله، في عبادته ومعاملاته قبل أن يتقن أصول الفقه، والثاني هو الأولى وهو المتبع غالبًا.
91- وسئل فضيلة الشيخ ـ أعلى الله درجته في المهديين: بعض طلبة العلم يأتي إلى مسألة من مسائل العلم فيبحثها ويحققها بأدلتها ومناقشتها مع العلماء، فإذا حضر مجلس عالم يشار إليه بالبنان، قال: ما تقول أحسن الله إليك في كذا وكذا، قال: هذا حرام مثلا، قال: كيف؟ بم تجيب عن قوله صلى الله عليه وسلم كذا؟ عن قول فلان كذا؟ ثم أتى بأدلة لا يعرفها العالم؛ لأن العلام ليس محيطًا بكل شيء حتى يُظهر نفسه أنه أعلم من هذا العالم فما رأي فضيلتكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذه المسألة تقع كثيرًا يأتي الإنسان يكون باحثًا المسألة بحثًا دقيقًا جيدًا ثم يباغت العلماء بمثل هذا، وعلى الإنسان أن يكون سؤاله لطلب العلم ومعرفة الحق لا ليظهر علمه وضعف علم غيره. والحاصل أن الإنسان يجب أن يكون متأدبًا مع من هو أكبر منه، وإذا حصل خطأ ممن هو أكبر، فالخطأ يجب أن يُبين بحال لبقة أو ينتظر حتى يخرج مع هذا العالم ويكلمه بأدب، والعالم الذي يتقي الله إذا بان له الحق فإنه سوف يرجع إليه، وسوف يبين للناس أنه رجع عن قوله.
92- وسئل فضيلة الشيخ: ما توجيهكم حول استغلال الوقت وحفظه من الضياع؟
فأجاب فضيلته قائلا: ينبغي لطالب العلم أن يحفظ وقته عن الضياع، وضياع الوقت يكون على
(1/143)
وجوه:
الوجه الأول: أن يدع المذاكرة ومراجعة ما قرأ.
الوجه الثاني: أن يجلس إلى أصدقائه ويتحدث بحديث لغو ليس فيه فائدة.
الوجه الثالث: وهو أضرها على طالب العلم ألا يكون له هم إلا تتبع أقوال الناس وما قيل وما قال، وما حصل وما يحصل في أمر ليس معنيًّا به، وهذا لا شك أنه من ضعف الإسلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" 1.
والاشتغال بالقيل والقال وكثرة السؤال مضيعة للوقت، وهو في الحقيقة مرض إذا دبَّ في الإنسان ـ نسأل الله العافية ـ صار أكبر همه، وربما يعادي من لا يستحق العداء، أو يوالي من لا يستحق الولاء، من أجل اهتمامه بهذه الأمور التي تشغله عن طلب العلم بحجة أن هذا من باب الانتصار للحق، وليس كذلك، بل هذا من إشغال النفس بما لا يعني الإنسان، أما إذا جاءك الخبر بدون أن تلقفه وبدون أن تطلبه، فكل إنسان يتلقى الأخبار، لكن لا ينشغل بها، ولا تكون أكبر همه؛ لأن هذا يشغل طالب العلم، ويفسد عليه أمره ويفتح في الأمة باب الحزبية فتتفرق الأمة.
93- وسئل فضيلة الشيخ: هل يجوز لطالب العلم إذا كان في مجلس عامة أن يقول لهم من عنده مسألة أو مشكلة فليطرحها حتى أجيب عليها وتحصل الفائدة؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجوز عرض العالم على المتعلم وعامة الناس أن يسألوا عما بدا لهم ولا يعد ذلك إعجابًا من العالم بنفسه؛ لأنه قد يقول قائل: لماذا يقول اسأل عما بدالك، هذا تعظيم لنفسه، وكبر منه؟ نقول: ليس هذا المراد بل المراد نشر العلم، والإنسان لا يعلم عما في قلب أخيه حتى يحدثه به، لذلك لا يقال هذا الفعل خطأ ما دام الإنسان ليس قصده الإعجاب بالنفس وإنما قصده بث العلم فلا
ـــــــ
1 سبق تخريجه.
(1/144)
حرج في ذلك.
94- وسئل فضيلة الشيخ: هل تعتبر أشرطة التسجيل طريقة من طرق العلم؟ وما هي الطريقة المثلى للاستفادة منها؟
فأجاب فضيلته بقوله: أما كون هذه الأشرطة وسيلة من وسائل تحصيل العلم فهذا لا يَشُكُّ فيه أحد ، ولا نجحد نعمة الله علينا في هذه الأشرطة التي استفدنا كثيرًا من العلم بها؛ لأنها توصّل إلينا أقوال العلماء في أي مكان كنا.
ونحن في بيوتنا قد يكون بيننا وبين هذا العالم مفاوز ويسهل علينا أن نسمع كلامه من خلال هذا الشريط. وهذه من نعم الله -عز وجل- علينا، وهي في الحقيقة حجة لنا وعلينا، فإن العلم انتشر انتشارًا واسعًا بواسطة هذه الأشرطة.
وأما كيف يستفاد منها؟
فهذا يرجع إلى حال الإنسان نفسه، فمن الناس من يستطيع أن يستفيد منها ، وهو يقود السيارة، ومنهم من يستمع إليه أثناء تناوله لطعام الغداء أو العشاء أو القهوة.
المهم أن كيفية الاستفادة منها ترجع إلى كل شخص بنفسه، ولا يمكن أن نقول فيها ضابطًا عامًّا.
95- سئل فضيلة الشيخ حفظه الله تعالى: أيهما أفضل: قيام الليل، أم طلب العلم؟
فأجاب فضيلته بقوله: طلب العلم أفضل من قيام الليل؛ لأن طلب العلم كما قال الإمام أحمد: لا يعدله شيء لمن صحت نيته ينوي به رفع الجهل عن نفسه وعن غيره.
فإذا كان الإنسان يسهر في أول الليل لطلب العلم ابتغاء وجه الله سواء كان يُدرسه ويعلمه الناس فإنه خير من قيام الليل، وإن أمكنه أن يجمع بين الأمرين فهو أولى ، لكن إذا تزاحم الأمران فطلب العلم الشرعي أفضل وأولى، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا هريرة: "أن يوتر قبل أن ينام".
قال العلماء: وسبب ذلك أن أبا هريرة كان يحفظ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم أول الليل وينام آخر الليل فأرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يوتر قبل أن ينام.
(1/145)
96- سئل فضيلة الشيخ: هل من توجيه إلى طلبة العلم حتى يكونوا دعاة؟ حيث إنهم يحتجون بطلب العلم وأنه يشغلهم عن الدعوة ؟
فأجاب فضيلته بقوله: الدعوة التي تكون دون طلب العلم لا خير فيها، بمعنى أنها تفوِّت خيرًا كثيرًا، والواجب على طالب العلم أن يطلب العلم مع الدعوة إلى الله. ما المانع لطالب العلم إذا رأى شخصًا معرضًا بالمسجد الذي يطلب فيه العلم أن يدعوه إلى الله -عز وجل-؟ ما المانع إذا خرج إلى السوق ليقضي حوائجه أن يدعو إلى الله ـ عز وجل في السوق إذا رأى معرضًا عن دين الله؟ ما المانع إذا كان بالمدرسة ورأى من الطلبة من هو معرض أن يدعوه إلى الله عز وجل ويأخذ بيده.
لكن المشكلة أن الإنسان إذا رأى مخالفًا له بمعصية أو ترك أمر كرهه واشمأز منه، وأبعد عنه، ويئس من إصلاحه والله ـ سبحانه وتعالى ـ بيَّن لنا أن نصبر، وأن نحتسب.
قال الله لنبيه: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف: 35]. فالإنسان يجب عليه أن يصبر ويحتسب، ولو رأى في نفسه شيئًا أو على نفسه شيئًا من الغضاضة فليجعل ذلك في ذات الله -عز وجل- « إن النبي عليه الصلاة والسلام لما أدميت أصبعه في الجهاد، قال:
"هل أنت إلا أصبع دَميت ... وفي سبيل الله ما لَقِيت"1
97- سئل فضيلة الشيخ رعاه الله تعالى: إذا اجتهد العالم في مسألة من المسائل ولم يصب الحكم الصحيح فبم يحكم عليه؟
فأجاب فضيلته قائلا: العالم إذا اجتهد في مسألة من المسائل قد يصيب وقد يخطئ لما ثبت من حديث بريدة رضي الله عنه: "وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا"2. رواه مسلم.
ـــــــ
1 متفق عليه: رواه البخاري: "2802", و مسلم: "1796".
2 صحيح: جزء من حديث طويل رواه مسلم: "1731", و أبو داود: "2612", و ابن ماجه: "2858", و الترمذي: "1617", و أحمد: "3/358".
(1/146)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد" 1.
وعليه فهل نقول: إن المجتهد مصيب ولو أخطأ؟
الجواب: قيل: كل مجتهد مصيب، وقيل: ليس كل مجتهد مصيبًا. وقيل: كل مجتهد مصيب في الفروع دون الأصول، حذرًا من أن نصوب أهل البدع في باب الأصول.
والصحيح: أن كل مجتهد مصيب من حيث اجتهاده، أما من حيث موافقته للحق؛ فإنه يخطئ ويصيب، ويدل قوله صلى الله عليه وسلم: "فاجتهد فأصاب... واجتهد فأخطأ" 2.
فهذا واضح في تقسيم المجتهدين إلى مخطئ ومصيب، وظاهر الحديث والنصوص أنه شامل للفروع والأصول، حيث دلت تلك النصوص على أن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، لكن الخطأ المخالف لإجماع السلف خطأ ولو كان المجتهدين؛ لأنه لا يمكن أن يكون مصيبًا والسلف غير مصيبين سواء في علم الأصول أو الفروع. على أن شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم أنكرا تقسيم الدين إلى أصول وفروع، وقالا: إن هذا التقسيم محدث بعد عصر الصحابة، ولهذا نجد القائلين بهذا التقسيم يلحقون شيئًا من أكبر أصول الدين بالفروع، مثل الصلاة، وهي ركن من أركان الإسلام ويخرجون أشياء في العقيدة اختلف فيها السلف، يقولون: إنها من الفروع؛ لأنها ليست من العقيدة، ولكن فرع من فروعها، ونحن نقول: إن أردتم بالأصول ما كان عقيدة؛ فكل الدين أصول؛ لأن العبادات المالية أو البدنية لا يمكن أن تتعبد لله بها إلا أن تعتقد أنها مشروع؛ فهذا عقيدة سابقة على العمل، ولو لم تعتقد ذلك لم يصح تعبدك لله بها.
والصحيح: أن باب الاجتهاد مفتوح فيما سمي بالأصول أو الفروع، لكن ما خرج عن منهج السلف فليس بمقبول مطلقًا.
ـــــــ
1 سبق تخريجه.
2 سبق تخريجه.
(1/147)
98- سئل فضيلة الشيخ ـ أعلى الله درجته في المهديين ـ: عمن يقول بعدم الاجتهاد وخلو هذا العصر من المجتهدين؟
فأجاب فضيلته بقوله: الصحيح أن باب الاجتهاد باق بدليل السنة كما في حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد" 1.
لذلك قول من يقول: بعدم الاجتهاد وخلو هذا العصر من المجتهدين، قول ضعيف ويترتب عليه الإعراض عن الكتاب والسنة إلى آراء الرجال، وهذا خطأ، بل الواجب على من تمكن من أخذ الحكم من الكتاب والسنة أن يأخذ منها، لكن لكثرة السنن وتفرقها لا ينبغي للإنسان أن يحكم بشيء بمجرد أن يسمع حديثًا في هذا الحكم حتى يتثبت؛ لأن هذا الحكم قد يكون منسوخًا أو مقيدًا أو عامًّا وأنت تظنه بخلاف ذلك.
وأما أن نقول لا تنظر في القرآن والسنة؛ لأنك لست أهلا للاجتهاد، فهذا غير صحيح، ثم إنه على قولنا: أن باب الاجتهاد مفتوح؛ لا يجوز أبدًا أن تحتقر آراء العلماء السابقين، أو أن تنزل من قدرهم؛ لأن أولئك تعبوا واجتهدوا وليسوا بمعصومين، فكونك تقدح فيهم، أو تأخذ المسائل التي يلقونها على أنها نكت تعرضها أمام الناس ليسخروا بهم فهذا أيضًا لا يجوز، وإذا كانت غيبة الإنسان العادي محرمة، فكيف بغيبة أهل العلم الذين أفنوا أعمارهم في استخراج المسائل من أدلتها، ثم يأتي في آخر الزمان من يقول: إن هؤلاء لا يعرفون، وهؤلاء يفرضون المحال، ويقولون: كذا وكذا. مع أن أهل العلم فيما يفرضونه من المسائل النادرة قد لا يقصدون الوقوع، ولكن يقصدون تمرين الطالب على تطبيق المسائل على قواعدها وأصولها.
99- سئل الشيخ غفر الله له: ما قولكم فيما يحصل من البعض من قدح في الحافظين النووي وابن حجر وأنهما من أهل البدع؟ وهل الخطأ من العلماء في العقيدة ولو كان عن اجتهاد وتأويل يلحق صاحبه بالطوائف المبتدعة؟ وهل هناك فرق بين الخطأ في الأمور العلمية والعملية؟
ـــــــ
1 سبق تخريجه.
(1/148)
فأجاب فضيلته بقوله:
إن الشيخين الحافظين "النووي ابن حجر" لهما قدم صدق ونفع كبير في الأمة الإسلامية ولئن وقع منهما خطأ في تأويل بعض نصوص الصفات إنه لمغمور بما لهما من الفضائل والمنافع الجمة ولا نظن أن ما وقع منهما إلا صادر عن اجتهاد وتأويل سائغ ـ ولو في رأيهما ، وأرجو الله تعالى أن يكون من الخطأ المغفور وأن يكون ما قدماه من الخير والنفع من السعي المشكور وأن يصدق عليهما قول الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]. والذي نرى أنهما من أهل السنة والجماعة، ويشهد لذلك خدمتهما لسنة رسوله الله صلى الله عليه وسلم وحرصهما على تنقيتها مما ينسب إليها من الشوائب، وعلى تحقيق ما دلت عليه من أحكام ولكنهما خالفا في آيات الصفات وأحاديثها أو بعض ذلك عن جادة أهل السنة عن اجتهاد أخطئا فيه، فنرجو الله تعالى أن يعاملهما بعفوه.
وأما الخطأ في العقيدة: فإن كان خطأ مخالفًا لطريق السلف، فهو ضلال بلا شك ولكن لا يحكم على صاحبه بالضلال حتى تقوم عليه الحجة، فإذا قامت عليه الحجة، وأصر على خطئه وضلاله، كان مبتدعًا فيما خالف فيه الحق، وإن كان سلفيًّا فيما سواه، فلا يوصف بأنه مبتدع على وجه الإطلاق، ولا بأنه سلفي على وجه الإطلاق، بل يوصف بأنه سلفي فيما وافق السلف، مبتدع فيما خالفهم، كا قال أهل السنة في الفاسق: إنه مؤمن بما معه من الإيمان، فاسق بما معه من العصيان، فلا يعطي الوصف المطلق ولا ينفى عنه مطلق الوصف، وهذا هو العدل الذي أمر الله به، إلا أن يصل المبتدع إلى حد يخرجه من الملة فإنه لا كرامة له في هذه الحال.
وأما الفرق بين الخطأ في الأمور العلمية والعملية: فلا أعلم أصلا للتفريق بين الخطأ في الأمور العلمية والعملية لكن لما كان السلف مجمعين -فيما نعلم- على الإيمان في الأمور العلمية الحيوية والخلاف فيها إنما هو في فروع من أصولها لا في أصولها كان المخالف فيها أقل عددًا وأعظم لومًا. وقد اختلف السلف في شيء من فروع أصولها كاختلافهم، هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه في اليقظة واختلافهم في
(1/149)
اسم الملكين اللذين يسألان الميت في قبره، واختلافهم في الذي يوضع في الميزان أهو الأعمال أم صحائف الأعمال أم العامل؟ واختلافهم هل يكون عذاب القبر على البدن وحده دون الروح؟ واختلافهم هل يسأل الأطفال وغير المكلفين في قبورهم؟ واختلافهم هل الأمم السابقة يسألون في قبورهم كما تسأل هذه الأمة؟ واختلافهم في صفة الصراط المنصوب على جهنم؟ واختلافهم هل النار تفنى أو مؤبدة، وأشياء أخرى وإن كان الحق مع الجمهور في هذه المسائل، والخلاف فيها ضعيف.
وكذلك يكون في الأمور العملية خلاف يكون قويًّا تارة وضعيفًا تارة.
وبهذا تعرف أهمية الدعاء المأثور: "اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" 1.
100- سئل فضيلة الشيخ ـ أعلى الله درجته: ـ عما يحصل من اختلاف الفتيا من عالم لآخر في موضوع واحد. ما مرد ذلك؟ وما موقف متلقي الفتيا؟
فأجاب ـ حفظه الله تعالى ـ بقوله: مرد ذلك إلى شيئين:
الأول: العلم. فقد يكون أحد المفتين ليس عنده من العلم ما عند المفتي الآخر، فيكون المفتي الآخر أوسع اطلاعًا منه، يطلع على ما لم يطلع عليه الآخر.
والثاني: الفهم، فإن الناس يختلفون في الفهم اختلافًا كثيرًا قد يكونون في العلم سواء، ولكن يختلفون في الفهم، فيعطي الله تعالى هذا فهمًا واسعًا ثاقبًا؛ يفهم مما علم أكثر مما فهمه الآخر، وحينئذ يكون الأكثر علمًا والأقوى فهمًا أقرب إلى الصواب من الآخر. أما بالنسبة للمستفتي فإنه إذا اختلف عليه عالمان مفتيان فإنه يتبع من يرى أنه أقرب إلى الصواب، إما لعلمه، وإما لورعه ودينه، كما أنه لو كان الإنسان مريضًا واختلف عليه طبيبان فإنه سوف يأخذ بقول من يرى أنه أقرب إلى
ـــــــ
1 صحيح رواه مسلم 770. والنسائي 1625. وابن ماجة 1307. وأبو داود 767. والترمذي 342. وأحمد 6/156.
(1/150)
الصواب فإنه تساوى عنده الأمران ولم يرجح أحد المفتين على الآخر فإنه يخير إن شاء أخذ بهذا وإن شاء أخذ بهذا وما اطمأنت إليه نفسه أكثر فليأخذ به.
101- سئل فضيلة الشيخ:
---- يتبع ---
http://madrasato-mohammed.com/outaymin/pg_055_0009.htm