81 ـ سئل فضيلة الشيخ: من الملاحظ في الصحوة الإسلامية الاتجاه إلى العلم ولله الحمد والمنة، وخصوصًا علم السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم ومن الملاحظات:
ـــــــ
1 صحيح: رواه الترمذي 3663. وابن ماجة 97. وأحمد 5/382, 385, 402. وصححه الألباني في صحيح الجامع 1142.
2 صحيح: رواه مسلم 681, 2873.
(1/133)
أ ـ العرض للصحيحين البخاري ومسلم نقدًا، تضعيفًا وتصحيحًا من قبل بعض طلبة العلم الذين لم ترسخ أقدامهم في هذا العلم، علمًا بأن هذين الكتابين من أصول السنة والجماعة وقد تلقتهما الأمة بالقبول.
ب ـ رواج مذهب الظاهرية عند غالبية الشباب والإعراض عن كتب فقهاء الأمة.
جـ ـ انشغال بعض طلبة هذا العلم الشريف به عن العلوم الضرورية لطلبة العلم الشرعي مثل القرآن الكريم، واللغة العربية ، والفقه ، والفرائض... إلخ.
د ـ شيوع ظاهرة التعالم والتصدر للتدريس والفتيا من قبل بعض طلبة العلم الذين لا يُعرف لهم شيوخ ولا قدم ثابتة في العلم وإنما هي القراءة ومطالعة الكتب.
فما توجيهكم حفظكم الله ورعاكم؟
فأجاب حفظه الله ورعاه قائلا :
الجواب على الملاحظة الأولى: لا شك أن هذه الصحوة صاحَبَها ولله الحمد حب اتباع السنة والحرص عليها، ولكن كما ذكرت صار ينتهج هذا المنهج قوم لم يبلغوا ما بلغ أهل العلم من قبلهم في التحري والدقة، وربط الشريعة بعضها بعض، وتقييد مطلقها وتخصيص عامّها والرجوع إلى القواعد العامة المعروفة بالشريعة، فصاروا يلتقطون من كل وجه حتى في الأحاديث الضعيفة التي لا يعمل بها عند أهل العلم لشذوذها ومخالفتها لما في الكتب المعتمدة بين الأمة ، تجدهم يتلقفونها ويحتدون فيها وفي العلم بها وفي الإنكار على من خالفها، وكذلك أيضًا تجدهم قد بلغ ببعضهم العجب إلى أن صاروا يعترضون على الصحيحين أو أحدهما من الناحية الحديثية، ويعترضون على الأئمة من الناحية الفقهية، الأئمة الذين أجمعت الأمة على إمامتهم وحسن نيتهم وعلمهم، فتجد هؤلاء الذين لم يبلغوا ما بلغه من سبقهم يتعرضون لهؤلاء الأئمة ويحطون من قدرهم وهذه وصمة عظيمة لهذه الصحوة، والواجب على الإنسان أن يتريث، وأن يتعقل وأن يعرف لذوي الحق حقهم ولذوي الفضل فضلهم، وإنما يعرف الفضل من الناس أهله، نسأل الله لنا ولهم
(1/134)
الهداية والتوفيق.
وأما الجواب على الملاحظة الثانية فنقول: هذا أيضًا من البلاء، ولعل في جوابي السابق ما يدل عليه؛ لأن مذهب الظاهرية -كما هو معروف- مذهب يأخذ بالظاهر ولا يرجع إلى القواعد العامة النافعة، ولو أننا ذهبنا نتتبع من أقوالهم ما يتبين به فساد منهجهم أو بعض منهجهم لوجدنا الكثير، ولكننا لا نحب أن نتتبع عورة الناس.
والجواب على الملاحظة الثالثة: فلا شك أن الأولى بطالب العلم أن يبدأ أولا بكتاب الله -عز وجل- فإن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كانوا لا يتعلمون عشر آيات حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل ، ثم بالسنة النبوية، ولا يقتصرون على معرفة الأسانيد والرجال والعلل إنما يحرصون على مسألة فقه هذه السنة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: "رب مُبلغ أوعى من سامع" 1 ويقول: "رُبَّ حامل فقهٍ ليس بفقيه" 2.
والناس الآن في ضرورة إلى معرفة الأسانيد وصحتها وفي ضرورة أيضًا إلى الفقه في هذه السنن الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم وتطبيقها على القواعد والأصول الشرعية حتى لا يضل الإنسان ويضل غيره.
الجواب على الملاحظة الرابعة: يجب أن يعلم الإنسان المفتي، أنه سفير بين الله وبين خلقه، ووارث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا بد أن يكون عنده علم راسخ يستطيع به أن يفتي عباد الله، ولا يجوز للإنسان أن يتصدر للفتوى والتدريس وليس معه علم؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جُهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلُّوا وأضلُّوا" 3.
ـــــــ
1 متفق عليه: رواه البخاري 67- 11741. ومسلم 1678.
2 صحيح: رواه الترمذي 2656. وأبو داود 3660. والدارمي 1/65, 66. وأحمد 5/183. وصححه الألباني في الصحيح 403.
3 متفق عليه: رواه البخاري 100, ومسلم 2673. والترمذي 2652.
(1/135)
والحمد لله، الإنسان الذي يريد الخير ولكنه يأتي حتى يدركه وينشره فإنه إن فسح له الأجل حتى أدرك ما أراد فهذا هو مطلوبه، وإن لم يفسح له في الأجل وقضى الله عليه الموت، فإنه كالذي يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله.
وكم من إنسان تعجل في التدريس والفتيا فندم؛ لأنه تبين له أن ما كان يقرره في تدريسه أو يفتي به في فتواه كان خطأ، والكلمة إذا خرجت من فم صاحبها ملكته، وإذا كانت عنده ملكها.
فليحذر الإخوة الذين هم في ريعان طلب العلم من التعجل وليتأنوا حتى تكون فتواهم مبينة على أسس سليمة، وليس العلم كالمال يتطلب الإنسان فيه الزبائن ليدرك من يبيع بل يدرك من يشتري منه، بل العلم إرث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فيجب على الإنسان أن يكون مستشعرًا حين الفتوى شيئين:
الأول: أنه يقول عن الله -عز وجل- وعن شريعة الله.
الثاني: أنه يقول عن رسوله الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء.
82- وسئل غفر الله له: عن أقسام الناس في طلب علم الكتاب والسنة الصحيحة؟
فأجاب فضيلته بقوله: انقسم الناس في طلب علم الكتاب والسنة إلى أربعة أقسام:
القسم الأولى: من تجده مُعرضًا عن الكتاب والسنة، مكبًّا على الكتب الفقهية المذهبية يعمل بما فيها مطلقًا، ولا يرجع إلا إلى ما قاله فلان وفلان من أصحاب الكتب المذهبية.
القسم الثاني: من أكب على علوم القرآن، مثل علم التجويد أو ما يتصل بمعناه أو إعرابه وبلاغته، وأما بالنسبة للسنة وعلم الحديث فهو قليل البضاعة فيها وهذا قصور بين بلا شك.
(1/136)
القسم الثالث: من تجده مكبًّا على علم الحديث وعلم تحقيق الأسانيد وما فيها من علل وما يتعلق بالحديث من حيث القبول أو الرد؛ ولكنه في علوم القرآن ضعيف جدًّا، فلو سألته عن تفسير أوضح آية في كتاب الله فلا يعرف تفسيرها، وكذلك في علم التوحيد والعقيدة ولو سُئِلَ لم يعرف، وهذا قصور كبير بلا شك.
القسم الرابع: من كان حريصًا على الجمع بين الكتاب والسنة الصحيحة، وما كان عليه سلف الأمة مما يتعلق بعلم الكتاب والسنة، ومع ذلك ليس معرضًا عما قاله أهل العلم في كتبهم بل هو يقيم له وزنًا ويستعين به على فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن العلماء ـ رحمهم الله ـ وضعوا قواعد وضوابط وأصولا ينتفع بها طالب العلم، حتى المفسر في تفسير القرآن وحتى طالب السنة في معرفة السنة أو في شرح معانيها فيكون مركزًا على الكتاب والسنة ومستعينًا بما قاله أهل العلم في كتبهم وهذا هو خير الأقسام.
ولننظر هل نحن طبقنا سير العلم على هذه الطريقة الأخيرة أو أننا من القسم الأول أو الثاني أو الثالث. فإذا كان غير القسم الأخير فإنه يجب أن نُصحح طريقنا؛ لأن الله يقول في كتابه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] وأولي الأمر يشمل العلماء ويشمل الأمراء: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء : 59].
ونحن دائمًا لا سيما إذا رجعنا إلى المأخوذ عن الصحابة والتابعين نجدهم دائمًا يتحاكمون إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ومع ذلك فإني لا أقول: إنه يجب أن تهدر أقوال العلماء، بل أقوال العلماء لها قيمتها ووزنها واعتبارها ويستعان
(1/137)
بها على فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
83- سئل ـ غفر الله له ـ: ما قول فضيلتكم في بعض الطلاب الذين يدرسون من أجل الوظيفة والراتب، وكذلك ما يفعله البعض من استئجار من يكتب لهم البحوث، أو يعد لهم الرسائل، أو يحقق بعض الكتب فيحصلون به على شهادات علمية؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجب على طلبة العلم إخلاص النية لله -عز وجل- وأن يعتقد أنه ما قرأ حرفًا ولا كلمة، ولا أتم صفحة في العلم الشرعي إلا وهو يقربه إلى الله -عز وجل- ولكن كيف يمكن أن ينوي التقرب إلى الله بطلب العلم؟
الجواب: يمكن ذلك؛ لأن الله أمر به، والله إذا أمر بشيء ففعله الإنسان امتثالا لأمر الله، فتلك عبادة الله؛ لأن عبادة الله هي امتثال أمره، واجتناب نهيه، وطلب مرضاته، واتقاء عقوبته.
ومن إخلاص النية في طلب العلم أن ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره من الأمة، وعلامة ذلك أن الرجل تجده بعد طلب العلم متأثرًا بما طلب، متغيرًا في سلوكه ومنهاجه، وتجده حريصًا على نفع غيره، وهذا يدل على أن نيته في طلب العلم رفع الجهل عنه وعن غيره فيكون قدوة، صالحًا مصلحًا، وهذا ما كان عليه السلف الصالح، أما ما عليه الخلف اليوم فيختلف كثيرًا عن ذلك، فتجد الأعداد الكبيرة من الطلاب في الجامعات والمعاهد، منهم من نيته لا تنفعه في الدنيا والآخرة، بل تضره، فهو ينوي أن يصل إلى الشهادة لكي يتوصل بها إلى الدنيا فقط، وقد جاء التحذير من الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: "من تعلم علمًا مما يبتغى به وجه الله عز وجل، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة أي ريحها" 1.
وإن مما يؤسف له كما ذكر السائل أن بعض الطلاب يستأجرون من يعد لهم بحوثًا أو رسائل يحصلون على شهادات علمية، أو من يحقق بعض الكتب
ـــــــ
1 صحيح: رواه أبو داود 3664. وابن ماجة 252. وصححه الألباني في صحيح الجامع6159.
(1/138)
فيقول لشخص حضِّر لي تراجم هؤلاء وراجع البحث الفلاني، ثم يقدمه رسالة ينال بها درجة يستوجب بها أن يكون في عداد المعلمين أو ما أشبه ذلك، فهذا في الحقيقة مخالف لمقصود الجامعة ومخالف للواقع، وأرى أنه نوع من الخيانة؛ لأنه لا بد أن يكون المقصود من ذلك الشهادة فقط فإنه لو سئل بعد أيام عن الموضوع الذي حصل على الشهادة فيه لم يجب.
لهذا أحذر إخواني الذين يحققون الكتب أو الذين يحضّرون رسائل على هذا النحو من العاقبة الوخيمة، وأقول: إنه لا بأس من الاستعانة بالغير ولكن ليس على وجه أن تكون الرسالة كلها من صنع غيره، وفق الله الجميع للعلم النافع والعمل الصالح ، إنه سميع مجيب.
84- سئل فضيلة الشيخ رعاه الله تعالى: هل العلوم كالطب والهندسة من التفقه في دين الله؟
فأجاب فضيلته بقوله: ليست هذه العلوم من التفقه في دين الله؛ لأن الإنسان لا يدرس فيها الكتاب ولا السنة، لكنها من الأمور التي يحتاجها المسلمون، ولهذا قال بعض أهل العلم: عن تعلم الصناعات والطب والهندسة والجيولوجيا وما أشبه ذلك من فروض الكفايات، لا لأنها من العلوم الشرعية، ولكن لأنها لا تتم مصالح الأمة إلا بها، ولهذا أنبه الإخوان الذين يدرسون مثل هذه العلوم أن يكون قصدهم بتعلم هذه العلوم نفع إخوانهم المسلمين ورفع أمتهم الإسلامية.
الأمة الإسلامية الآن ملايين لو أنها استغلت مثل هذه العلوم فيما ينفع المسلمين لكان في ذلك خير كثير، ولا ما احتجنا إلى الكفار في تحصيل كمالياتنا بل وفي تحصيل ضرورياتنا أحيانًا، فهذه العلوم إذا قصد بها الإنسان القيام بمصالح العباد صارت مما يقرب إلى الله لا لذاتها ولكن لما قُصد بها، أما أنها فقه في الدين فليست فقهًا في الدين؛ لأن الفقه في الدين هو الفقه في أحكام الله تعالى الشرعية والقدرية، والفقه في ذات الله تعالى وأسمائه وصفاته.
(1/139)
85- سئل فضيلة الشيخ ـ حفظه الله تعالى ـ: بِمَ يكون الإخلاص في طلب العلم؟
فأجاب فضيلته بقوله: الإخلاص في طلب العلم يكون بأمور:
الأمر الأول: أن تنوي بذلك امتثال أمر الله؛ لأن الله أمر بذلك فقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19].
وحث سبحانه وتعالى على العلم، والحث على الشيء يستلزم محبته والرضا به والأمر به.
الأمر الثاني: أن تنوي بذلك حفظ شريعة الله؛ لأن حفظ شريعة الله يكون بالتعلم والحفظ في الصدر ويكون كذلك بالكتابة.
الأمر الثالث: أن تنوي حماية الشريعة والدفاع عنها؛ لأنه لولا العلماء ما حُميت الشريعة ولا دافع عنها أحد، ولهذا نجد مثلا شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم تصدوا لأهل البدع وبيَّنوا بطلان بدعهم، نرى أنهم حصلوا على خير كثير.
الأمر الرابع: أن تنوي بذلك اتباع شريعة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنك لا يمكن أن تتبع شريعته حتى تعلم هذه الشريعة.
الأمر الخامس: أن تنوي بذلك رفع الجهل عن نفسك وعن غيرك.
86- سئل فضيلة الشيخ رعاه الله تعالى: يقول بعض الناس: إن إخلاص النية في عصرنا الحاضر صعب أو قد يكون مستحيلا؛ لأن الذين يطلبون العلم ولا سيما الطلب النظامي يطلبون العلم لنيل الشهادة فحسب؟
فأجاب فضيلته بقوله: نقول: إذا كنت تطلب العلم لنيل الشهادة، فإن كنت تريد من هذه الشهادة أن ترتقي مرتقى دنيويًّا فالنية فاسدة، أما إذا كنت تريد أن ترتقي إلى مرتقى تنفع الناس به لأنك تعرف اليوم أنه لا يمكَّن الإنسان من ارتقاء المناصب العالية النافعة للأمة إلا إذا كان معه شهادة، فإذا قصدت بهذه الشهادة أن تنال ما تنفع الناس به فهذه نية طيبة لا تنافي الإخلاص.
(1/140)
87- وسئل فضيلة الشيخ: ما نصيحة فضيلتكم حول العمل بالعلم؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا بد من العمل بالعلم، لأن ثمرة العلم العمل؛ لأنه إذا لم يعمل بعلمه صار من أول من تُسعَّر بهم النار يوم القيامة.
كما قيل:
وعالم بعلمه لم يعمل ... معذب من قبل عبّاد الوثن
---- يتبع ---
http://madrasato-mohammed.com/outaymin/pg_055_0009.htm