بل أن العطاء الإلهي للإنسان
يعطيه النعمة بمجرد أن يخلق في رحم أمه
فيجد رحما مستعدا لاستقباله
وغذاء يكفيه طول مدة الحمل.
فإذا خرج إلي الدنيا
يضع الله في صدر أمه لبنا
لبنا ينزل وقت أن يجوع
ويمتنع وقت أن يشبع.
وينتهي تماما عندما تتوقف فترة الرضاعة.
ويجد أبا وأما يوفران له مقومات حياته حتى يستطيع أن يعول نفسه ..
وكل هذا يحدث قبل أن يصل الإنسان إلي مرحة التكليف
وقبل أن يستطيع أن ينطق: "الحمد لله".
وهكذا نرى أن النعمة تسبق المنعم عليه دائما ..
.. فالإنسان حيث يقول "الحمد لله" فلأن موجبات الحمد ـ وهي النعمة ـ موجودة في الكون قبل الوجود الإنساني.
والله سبحانه وتعالى
خلق لنا في هذا الكون أشياء تعطي الإنسان بغير قدرة منه ودون خضوع له،
والإنسان عاجز عن أن يقدم لنفسه هذه النعم التي يقدمها الحق تبارك وتعالى له بلا جهد.
فالشمس تعطي الدفء والحياة للأرض بلا مقابل وبلا فعل من البشر،
والمطر ينزل من السماء دون أن يكون لك جهد فيه أو قدرة على إنزاله.
والهواء موجود حولك في كل مكان تتنفس منه دون جهد منك ولا قدرة.
والأرض تعطيك الثمر بمجرد أن تبذر فيها الحب وتسقيه ..
فالزرع ينبت بقدرة الله.
والليل والنهار يتعاقبان
حتى تستطيع أن تنام لترتاح، وأن تسعى لحياتك ..
لا أنت أتيت بضوء النهار، ولا أنت الذي صنعت ظلمة الليل،
ولكنك تأخذ الراحة في الليل والعمل في النهار بقدرة الله دون أن تفعل شيئاً.
كل هذه الأشياء لم يخلقها الإنسان،
ولكنه وجدها في الكون تعطيه بلا مقابل ولا جهد منه!
ألا تستحق هذه النعم أن نقول: الحمد لله على نعمة تسخير الكون لخدمة الإنسان؟
وآيات الله سبحانه وتعالى في كونه تستوجب الحمد .
. فالحياة التي وهبها الله لنا،
والآيات التي أودعها في كونه
تدلنا على أن لهذا الكون خالقاً عظيماً ..
فالكون بشمسه وقمره ونجومه وأرضه
وكل ما فيه مما يفوق قدرة الإنسان،
ولا يستطيع أحد أن يدعيه لنفسه،
فلا أحد مهما بلغ علمه يستطيع أن يدعي
أنه خلق الشمس،
أو أوجد النجوم،
أو وضع الأرض،
أو وضع قوانين الكون،
أو أعطى غلافها الجوي،
أو خلق نفسه، أو خلق غيره.
هذه الآيات كلها أعطتنا الدليل على وجود قوة عظمى،
وهي التي أوجدت وهي التي خلقت ..
وهذه الآيات ليست ساكنة، لتجعلنا في سكونها ننساها،
بل هي متحركة
لتلفتنا إلي خالق هذا الكون العظيم.
فالشمس تشرق في الصباح فتذكرنا بإعجاز الخالق،
وتغيب في المساء لتذكرنا بعظمة الخالق ..
وتعاقب الليل والنهار يحدث أمامنا كل يوم علمنا نلتفت ونفيق ..
والمطر ينزل من السماء ليذكرنا بألوهية من أنزله ..
والزرع يخرج من الأرض يسقي بماء واحد،
ومع ذلك فإن كل نوع له لون وله شكل وله مذاق
وله رائحة، وله تكوين يختلف عن الآخر،
ويأتي الحصاد فيختفي الثمر والزرع ..
ويأتي موسم الزراعة فيعود من جديد.
كل شيء في هذا الكون متحرك ليذكرنا إذا نسينا،
ويعلمنا أن هناك خالقاً عظيماً.
ونستطيع أن نمضي في ذلك بلا نهاية،
فنعم الله لا تعد ولا تحصى ..
وكل واحدة منها تدلنا على وجود الحق سبحانه وتعالى،
وتعطينا الدليل الإيماني على أن لهذا الكون خالقاً مبدعاً ..
وأنه لا أحد يستطيع أن يدعي أنه خلق الكون أو خلق شيئاً مما فيه .. فالقضية محسومة لله.
(والحمد لله)
لأنه وضع في نفوسنا الإيمان الفطري،
ثم أيده بإيمان عقلي بآياته في كونه.
كل شيء في هذا الكون يقتضي الحمد،
ومع ذلك
فإن الإنسان يمتدح الموجود وينسى الموجد ..
فأنت حين ترى زهرة جميلة مثلاً،
أو زهرة غاية في الإبداع ..
أو أي خلق من خلق الله،
يشيع في نفسك الجمال تمتدح هذا الخلق ..
فتقول: ما أجمل هذه الزهرة، أو هذه الجوهرة، أو هذا المخلوق!!
ولكن المخلوق الذي امتدحته، لم يعط صفة الجمال لنفسه ..
فالزهرة لا دخل لها أن تكون جميلة أو غير جميلة،
والجوهرة لا دخل لها في عظمة خلقها ..
وكل شيء في هذا الكون لم يضع الجمال لنفسه،
وإنما الذي وضع الجمال فيه هو الله سبحانه وتعالى،
فلا نخلط ونمدح المخلوق وننسى الخالق ..
بل قل: الحمد لله الذي أوجد في الكون ما يذكرنا بعظمة الخالق ودقة الخلق.
ومنهج الله سبحانه وتعالى يقتضي منا الحمد
فهو تبارك وتعالى أنزل منهجه ليرينا طريق الخير،
ويبعدنا عن طريق الشر.
فمنهج الله عز وجل الذي أنزله على رسله
قد عرفنا أن الله تبارك وتعالى هو الذي خلق لنا هذا الكون وخلقنا ..
فدقة الخلق وعظمته تدلنا على عظمة خالقه،
ولكنها لا تستطيع أن تقول لنا من هو، ولا ماذا يريد منا،
ولذلك أرسل الله رسله، ليقول لنا:
إن الذي خلق هذا الكون وخلقنا هو الله تبارك وتعالى،
وهذا يستوجب الحمد
ومنهج الله يبين لنا ماذا يريد الحق منا، وكيف نعبده ..
وهذا يستوجب الحمد،
ومنهج الله جل جلاله أعطانا الطريق
وشرع لنا أسلوب حياتنا تشريعاً حقاً ..
فالله تبارك وتعالى لا يفرق بين أحد منا ..
ولا يفضل أحداً على أحد إلا بالتقوى،
فكلنا خلق متساوون أمام الله جل جلاله.
إذن: فشريعة الحق، وقول الحق، وقضاء الحق هو من الله،
أما تشريعات الناس فلها هوى،
تميز بعضاً عن بعض ..
وتأخذ حقوق بعض لتعطيها للآخرين،
ولذلك نجد في كل منهج بشرى ظلماً بشرياً.
فالدول الشيوعية أعضاء اللجنة المركزية فيها
هم أصحاب النعمة والترف
بينما الشعب كله في شقاء ..
لأن هؤلاء الذي شرعوا اتبعوا هواهم.
ووضعوا مصالحهم فوق كل مصلحة..
وكذلك الدول الرأسمالية
. أصحاب رأس المال يأخذون كل الخير،
ولكن الله سبحانه وتعالى حين نزل لنا المنهج قضى بالعدل بين الناس
.. وأعطى كل ذي حق حقه.
وعلمنا كيف تستقيم الحياة على الأرض
عندما تكون بعيدة عن الهوى البشري خاضعة لعدل الله،
وهذا يوجب الحمد.
والحق سبحانه وتعالى، يستحق منا الحمد؛
لأنه لا يأخذ منا ولكنه يعطينا،
فالبشر في كل عصر يحاولون استغلال البشر ..
لأنهم يطمعون فيما بين أيديهم من ثروات وأموال،
ولكن الله سبحانه وتعالى يعطينا ولا يأخذ منا،
عنده خزائن كل شيء مصداقا لقوله جل جلاله:
{وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم "21" }
(سورة الحجر)
فالله سبحانه وتعالى دائم العطاء لخلقه،
والخلق يأخذون دائماً من نعم الله،
فالعبودية لله تعطيك ولا تأخذ منك شيئاً، وهذا يستوجب الحمد..
والله سبحانه وتعالى في عطائه
يجب أن يطلب منه الإنسان،
وأن يدعوه، وأن يستعين به، وهذا يستوجب الحمد؛
لأنه يقينا الذل في الدنيا.
فأنت إن طلبت شيئاً من صاحب نفوذ،
فلابد أن يحدد لك موعداً أو وقت الحديث ومدة المقابلة،
وقد يضيق بك
فيقف لينهي اللقاء ..
ولكن الله سبحانه وتعالى بابه مفتوح دائماً ..
فأنت بين يديه عندما تريد،
وترفع يديك إلي السماء
وتدعو وقتما تحب،
وتسأل الله ما تشاء،
فيعطيك ما تريده إن كان خيراً لك .
. ويمنع عنك ما تريده إن كان شراً لك.
والله سبحانه وتعالى يستوجب الحمد حينما يطلب منك أن تدعوه، وأن تسأله فيقول:
{وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين "60" }
(سورة غافر)
ويقول سبحانه وتعالى:
{وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون "186"}
(سورة البقرة)
والله سبحانه وتعالى يعرف ما في نفسك، ولذلك فإنه يعطيك دون تسأل، واقرأ الحديث القدسي:
يقول رب العزة:
"من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين".
والله سبحانه وتعالى عطاؤه لا ينفذ، وخزائنه لا تفرغ،
فكلما سألته جل جلاله كان لديه المزيد،
ومهما سألته فإنه لا شيء عزيز على الله سبحانه وتعالى، إذا أراد أن يحققه لك ..
واقرأ قول الشاعر:
حسب نفسي عزا بأني عبد هو في قدسه الأعز ولكن يحتفي بي بلا مـواعيد رب أنا ألقي متى وأين أحب
إذن:
عطاء الله سبحانه وتعالى يستوجب الحمد ..
ومنعه العطاء يستوجب الحمد.
ووجود الله سبحانه وتعالى الواجب الوجود يستوجب الحمد ..
فالله سبحانه يستحق الحمد لذاته،
ولولا عدل الله لبغى الناس في الأرض وظلموا،
ولكن يد الله تبارك وتعالى حين تبطش بالظالم تجعله عبرة ..
فيخاف الناس الظلم ..
وكل من أفلت من عقاب الدنيا على معاصيه وظلمه واستبداده
سيلقى الله في الآخرة ليوفيه حسابه ..
وهذا يوجب الحمد ..
أن يعرف المظلوم أنه سينال جزاءه
فتهدأ نفسه ويطمئن قلبه
أن هناك يوما سيرى فيه ظالمه وهو يعذب في النار ..
فلا تصيبه الحسرة،
ويخف إحساسه بمرارة الظلم
حين يعرف أن الله قائم على كونه
لن يفلت من عدله أحد.
وعندما نقول: (الحمد لله)
فنحن نعبر عن انفعالات متعددة ..
وهي في مجموعها تحمل العبودية
والثناء والشكر والعرفان ..
وكثير من الانفعالات التي تملأ النفس عندما تقول: (الحمد لله)
كلها تحمل الثناء العاجز عن الشكر لكمال الله وعطائه .
. هذه الانفعالات تأتي وتستقر في القلب ..
ثم تفيض من الجوارح على الكون كله.
فالحمد ليس ألفاظاً تردد باللسان،
ولكنها تمر أولاً على العقل الذي يعي معنى النعم ..
ثم بعد ذلك تستقر في القلب فينفعل بها ..
وتنتقل إلي الجوارح فأقوم وأصلي لله شاكراً
ويهتز جسدي كله،
وتفيض الدمعة من عيني،
وينتقل هذا الانفعال كله إلي من حولي.
ونفسر ذلك قليلا ..
هب أنني في أزمة أو كرب أو موقف سيؤدي إلي فضيحة ..
وجاءني من يفرج كربي
فيعطيني مالاً أو يفتح لي طريقاً .
. أول شيء أنني سأعقل هذا الجميل،
فأقول: إنه يستحق الشكر ..
ثم ينزل هذا المعنى إلي قلبي
فيهتز القلب إلي صانع هذا الجميل ..
ثم تنفعل جوارحي لأترجم هذه العاطفة إلي عمل جميل يرضيه،
ثم أحدث الناس عن جميله وكرمه
فيسارعون إلي الالتجاء إليه،
فتتسع دائرة الحمد
وتنزل النعم على الناس ..
فيمرون بنفس ما حدث لي
فتتسع دائرة الشكر والحمد..
والحمد لله تعطينا المزيد من النعم مصداقاً لقوله تبارك وتعالى:
{وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد "7" }
(سورة إبراهيم)
وهكذا نعرف أن الشكر على النعمة يعطينا مزيداً من النعمة ..
فنشكر عليها فتعطينا المزيد،
وهكذا يظل الحمد دائماً والنعمة دائمة.
إننا لو استعرضنا حياتنا كلها ..
نجد أن كل حركة فيها تقتضي الحمد،
عندما ننام ويأخذ الله سبحانه وتعالى أرواحنا،
ثم يردها إلينا عندما نستيقظ، فإن هذا يوجب الحمد،
فالله سبحانه وتعالى يقول:
{الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلي أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون "42"}
(سورة الزمر)
وهكذا فإن مجرد أن نستيقظ من النوم، ليرد الله علينا أرواحنا يستوجب الحمد،
فإذا قمنا من الفراش
فالله سبحانه وتعالى هو الذي أعطانا القدرة على الحركة والنهوض، ولولا عطاؤه ما استطعنا أن نقوم ..
وهذا يستوجب الحمد..
فإذا تناولنا إفطارنا، فالله هو الذي هيأ لنا من فضله هذا الطعام،
فإذا نزلنا إلي الطريق يسر الله لنا ما ينقلنا إلي مقر أعمالنا،
وإذا تحدثنا مع الناس
فالله سبحانه وتعالى هو الذي أعطى ألسنتنا القدرة على النطق
بما وهبه الله لنا من قدرة على التعبير والبيان،
وهذا يستوجب الحمد.
وإذا عدنا إلي بيوتنا، فالله سخر لنا زوجاتنا ورزقنا بأولادنا،
وهذا يستوجب الحمد.
إذن: فكل حركة في حياة في الدنيا من الإنسان تستوجب الحمد،
ولهذا لابد أن يكون الإنسان حامداً دائماً،
بل إن الإنسان يجب أن يحمد الله على أي مكروه أصابه؛
لأن الشيء الذي يعتبره شراً يكون عين الخير، فالله تعالى يقول:
{يا أيها الذين أمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ماء أتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينةٍ وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً "19"}
(سورة النساء)
إذن فأنت تحمد الله لأن قضاءه خير ..
سواء أحببت القضاء أو كرهته فإنه خير لك ..
لأنك لا تعلم والله سبحانه وتعالى يعلم.
وهكذا من موجبات الحمد
أن تقول الحمد لله على كل ما يحدث لك في دنياك.
فأنت بذلك ترد الأمر إلي الله الذي خلقك ..
فهو أعلم بما هو خير لك.
فاتحة الكتاب تبدأ بالحمد لله رب العالمين .. لماذا قال الله سبحانه وتعالى رب العالمين؟ نقول إن "الحمد لله" تعني حمد الألوهية. فكلمة الله تعني المعبود بحق .. فالعبادة تكليف والتكليف يأتي من الله لعبيده .. فكأن الحمد أولا لله .. ثم يقتضي بعد ذلك أن يكون الحمد لربوبية الله على إيجادنا من عدم وإمدادنا من عدم .. لأن المتفضل بالنعم قد يكون محمودا عند كل الناس .. لكن التكليف يكون شاقا على بعض الناس .. ولو علم الناس قيمة التكليف في الحياة .. لحمدوا الله أن كلفهم بافعل ولا تفعل .. لأنه ضمن عدم تصادم حركة حياتهم .. فتمضي حركة الحياة متساندة منسجمة. إذن فالنعمة الأولى هي أن المعبود أبلغنا منهج عبادته، والنعمة الثانية أنه رب العالمين.