فاتحة الكتاب
(الحمد لله رب العالمين "2" الرحمن الرحيم
{وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد "7" }
(سورة إبراهيم)
وهكذا نعرف أن الشكر على النعمة يعطينا مزيداً من النعمة .. فنشكر عليها فتعطينا المزيد، وهكذا يظل الحمد دائماً والنعمة دائمة.
إننا لو استعرضنا حياتنا كلها .. نجد أن كل حركة فيها تقتضي الحمد، عندما ننام ويأخذ الله سبحانه وتعالى أرواحنا، ثم يردها إلينا عندما نستيقظ، فإن هذا يوجب الحمد، فالله سبحانه وتعالى يقول:
{الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلي أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون "42"}
(سورة الزمر)
وهكذا فإن مجرد أن نستيقظ من النوم، ليرد الله علينا أرواحنا يستوجب الحمد، فإذا قمنا من الفراش فالله سبحانه وتعالى هو الذي أعطانا القدرة على الحركة والنهوض، ولولا عطاؤه ما استطعنا أن نقوم .. وهذا يستوجب الحمد..
فإذا تناولنا إفطارنا، فالله هو الذي هيأ لنا من فضله هذا الطعام، فإذا نزلنا إلي الطريق يسر الله لنا ما ينقلنا إلي مقر أعمالنا، وإذا تحدثنا مع الناس فالله سبحانه وتعالى هو الذي أعطى ألسنتنا القدرة على النطق بما وهبه الله لنا من قدرة على التعبير والبيان، وهذا يستوجب الحمد.
وإذا عدنا إلي بيوتنا، فالله سخر لنا زوجاتنا ورزقنا بأولادنا، وهذا يستوجب الحمد.
إذن: فكل حركة في حياة في الدنيا من الإنسان تستوجب الحمد، ولهذا لابد أن يكون الإنسان حامداً دائماً، بل إن الإنسان يجب أن يحمد الله على أي مكروه أصابه؛ لأن الشيء الذي يعتبره شراً يكون عين الخير، فالله تعالى يقول:
{يا أيها الذين أمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ماء أتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينةٍ وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً "19"}
(سورة النساء)
إذن فأنت تحمد الله لأن قضاءه خير .. سواء أحببت القضاء أو كرهته فإنه خير لك .. لأنك لا تعلم والله سبحانه وتعالى يعلم.
وهكذا من موجبات الحمد أن تقول الحمد لله على كل ما يحدث لك في دنياك. فأنت بذلك ترد الأمر إلي الله الذي خلقك .. فهو أعلم بما هو خير لك.
فاتحة الكتاب تبدأ بالحمد لله رب العالمين .. لماذا قال الله سبحانه وتعالى رب العالمين؟ نقول إن "الحمد لله" تعني حمد الألوهية. فكلمة الله تعني المعبود بحق .. فالعبادة تكليف والتكليف يأتي من الله لعبيده .. فكأن الحمد أولا لله .. ثم يقتضي بعد ذلك أن يكون الحمد لربوبية الله على إيجادنا من عدم وإمدادنا من عدم .. لأن المتفضل بالنعم قد يكون محمودا عند كل الناس .. لكن التكليف يكون شاقا على بعض الناس .. ولو علم الناس قيمة التكليف في الحياة .. لحمدوا الله أن كلفهم بافعل ولا تفعل .. لأنه ضمن عدم تصادم حركة حياتهم .. فتمضي حركة الحياة متساندة منسجمة. إذن فالنعمة الأولى هي أن المعبود أبلغنا منهج عبادته، والنعمة الثانية أنه رب العالمين.
في الحياة الدنيا هناك المطيع والعاصي، والمؤمن وغير المؤمن .. والذين يدخلون في عطاء الألوهية هم المؤمنون .. أما عطاء الربوبية فيشمل الجميع .. ونحن نحمد الله على عطاء ألوهيته، ونحمد الله على عطاء ربوبيته، لأنه الذي خلق، ولأنه رب العالمين .. الكون كله لا يخرج عن حكمه .. فليطمئن الناس في الدنيا أن النعم مستمرة لهم بعطاء ربوبيه .. فلا الشمس تستطيع أن تغيب وتقول لن أشرق ولا النجوم تستطيع أن تصطدم ببعضها البعض في الكون، ولا الأرض تستطيع أن تمنع إنبات الزرع .. ولا الغلاف الجوي يستطيع أن يبتعد عن الأرض فيختنق الناس جميعا..
إذن فالله سبحانه وتعالى يريد أن يطمئن عباده أنه رب لكل ما في الكون فلا مسيطر على كونه وعلى كل ما خلق .. أنه رب العالمين وهذه توجب الحمد .. أن يهيئ الله سبحانه وتعالى للإنسان ما يخدمه، بل جعله سيدا في كونه .. ولذلك فإن الإنسان المؤمن لا يخاف الغد .. وكيف يخافه والله رب العالمين. إذا لم يكن عنده طعام فهو واثق أن الله سيرزقه لأنه رب العالمين .. وإذا صادفته أزمة فقلبه مطمئن إلي أن الله سيفرج الأزمة ويزيل الكرب لأنه رب العالمين .. وإذا أصابته نعمة ذكر الله فشكر عليها لأنه رب العالمين الذي أنعم عليه.
فالحق سبحانه وتعالى يحمد على أنه رب العالمين .. لا شيء في كونه يخرج عن مراده الفعلي .. أما عطاء الألوهية فجزاؤه في الآخرة .. فالدنيا دار اختيار للإيمان، والآخرة دار الجزاء .. ومن الناس من لا يعبد الله .. هؤلاء متساوون في عطاء الربوبية مع المؤمنين في الدنيا .. ولكن في الآخرة يكون عطاء الألوهية للمؤمنين وحدهم .. فنعم الله لأصحاب الجنة، وعطاءات الله لمن آمن .. واقرأ قوله تبارك وتعالى:
{قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون "32" }
(سورة الأعراف)
على أن الحمد لله ليس في الدنيا فقط .. بل هو في الدنيا والآخرة .. الله محمود دائماً .. في الدنيا بعطاء ربوبيته لكل خلقه .. وعطاء ألوهيته لمن آمن به وفي الآخرة بعطائه للمؤمنين من عباده .. واقرأ قوله جل جلاله:
{وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث تشاء فنعم أجر العاملين "47"}
(سورة الزمر)
وقوله تعالى:
{دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين"10" }
(سورة يونس)
فإذا انتقلنا إلي قوله تعالى: "الرحمن الرحيم" فمن موجبات الحمد أن الله سبحانه وتعالى رحمن رحيم .