وقوله: {إنه هو السميع البصير "1" } (سورة الإسراء) أي: الحق سبحانه وتعالى. السمع: إدراك يدرك الكلام. والبصر: إدراك يدرك الأفعال والمرائي، فلكل منهما ما يتعلق به. لكن سميع وبصير لمن؟ جاء هذا في ختام آية الإسراء التي بينت أن الحق سبحانه جعل الإسراء تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم بعد ما لاقاه من أذى المشركين وعنتهم، وكأن معركة دارت بين رسول الله والكفار حدثت فيها أقوال وأفعال من الجانبين. ومن هنا يمكن أن يكون المعنى: (سميع) لأقوال الرسول (بصير) بأفعاله، حيث آذاه قومه وكذبوه وألجوؤه إلى الطائف، فكان أهلها أشد قسوة من إخوانهم في مكة، فعاد منكراً دامياً، وكان من دعائه: "اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك". فالله سميع لقول نبيه صلى الله عليه وسلم. وبصير لفعله. فقد كان صلى الله عليه وسلم في أشد ظروفه حريصاً على دعوته، فقد قابل في طريق عودته من الطائف عبداً، فأعطاه عنقوداً من العنب، وأخذ يحاوره في النبوات ويقول: أنت من بلد نبي الله يونس بن متى. أو يكون المعنى: سميع لأقوال المشركين، حينما آذوا سمع رسول الله وكذبوه وتجهموا له، وبصير بأفعالهم حينما آذوه ورموه بالحجارة. الحق تبارك وتعالى تعرض لحادث الإسراء في هذه الآية على سبيل الإجمال، فذكر بدايته من المسجد الحرام، ونهايته في المسجد الأقصى، وبين البداية والنهاية ذكر كلمة الآيات هكذا مجملة. وجاء صلى الله عليه وسلم ففسر لنا هذا المجمل، وذكر الآيات التي رآها، فلو لم يذكر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى من آيات الله لقلنا: وأين هذه الآيات؟ فالقرآن يعطينا اللقطة الملزمة لبيان الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن علينا جمعه وقرآنه "17" فإذا قرأناه فاتبع قرآنه "18" ثم إن علينا بيانه"19" } (سورة القيامة)
إذن: كان لابد لتكتمل صورة الإسراء في نفوس المؤمنين أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ما قال من أحاديث الإسراء. لكن يأتي المشككون وضعاف الإيمان يبحثون في أحاديث الإسراء عن مأخذ، فيعترضون على المرائي التي رآها رسول الله، وسأل عنها جبريل عليه السلام. فكان اعتراضهم أن هذه الأحداث في الآخرة، فكيف رآها محمد صلى الله عليه وسلم؟ ونقول لهؤلاء: لقد قصرت أفهامكم عن إدراك قدرة الله في خلق الكون، فالكون لم يخلق هكذا، بل خلق بتقدير أزلي له، ولتوضح هذه المسألة نضرب هذا المثل: هب أنك أردت بناء بيت، فسوف تذهب إلى المهندس المختص وتطلب منه رسماً تفصيلياً له، ولو كنت ميسور الحال تقول له: اعمل لي (ماكيت) للبيت، فيصنع لك نموذجاً مصغراً للبيت الذي تريده. فالحق سبحانه خلق هذا الكون أزلاً، فالأشياء مخلوقة عند الله (كالماكيت)، ثم يبرزها سبحانه على وفق ما قدره. وتأمل قول الحق سبحانه وتعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون "82" } (سورة يس) انظر: (أن يقول له) كأن الشيء موجود والله تعالى يظهره فحسب، لا يخلقه بداية، بل هو مخلوق جاهز ينتظر الأمر ليظهر في عالم الواقع؛ لذلك قال أهل المعرفة: أمور يبديها ولا يبتديها. وإن كان الحق تبارك وتعالى قد ذكر الإسراء صراحة في هذه الآية، فقد ذكر المعراج بالالتزام في سورة النجم، في قوله تعالى: {ولقد رآه نزلة أخرى "13" عند سدرة المنتهى "14" عندها جنة المأوى "15" إذ يغشى السدرة ما يغشى "16" ما زاغ البصر وما طغى "17" لقد رأى من آيات ربه الكبرى "18" } (سورة النجم)
ففي الإسراء قال تعالى: {لنريه من آياتنا .. "1" } (سورة الإسراء)
وفي المعراج قال: {لقد رأى من آيات ربه الكبرى "18" } (سورة النجم)
ذلك لأن الإسراء آية أرضية استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم بما آتاه الله من الإلهام أن يدلل على صدقه في الإسراء به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى؛ لأن قومه على علم بتاريخه، وأنه لم يسبق له أن رأى بيت المقدس أو سافر إليه، فقالوا له: صفه لنا وهذه شهادة منهم أنه لم يره، فتحدوه أن يصفه. والرسول صلى الله عليه وسلم حينما يأتي بمثل هذه العملية، هل كان عنده استحفاظ كامل لصورة بيت المقدس، خاصة وقد ذهب إليه ليلاً؟ إذن: صورته لم تكن واضحة أمام النبي صلى الله عليه وسلم بكل تفاصيلها، وهنا تدخلت قدرة الله فجلاه الله له، فأخذ يصفه لهم كأنه يراه الآن. كما أن الطريق بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى طريق مسلوك للعرب، فهو طريق تجارتهم إلى الشام، فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أن عيراً لهم في الطريق، ووصفها لهم وصفاً دقيقاً، وأنها سوف تصلهم مع شروق الشمس يوم معين. وفعلاً تجمعوا في صبيحة هذا اليوم ينتظرون العير. وعند الشروق قال أحدهم: هاهي الشمس أشرقت. فرد الآخر: وهاهي العير قد ظهرت. إذن: استطاع صلى الله عليه وسلم أن يدلل على صدق الإسراء؛ لأنه آية أرضية يمكن التدليل عليها، بما يعلمه الناس عن بيت المقدس، وبما يعلمونه من عيرهم في الطريق. أما ما حدث في المعراج، فآيات كبرى سماوية لا يستطيع الرسول صلى الله عليه وسلم التدليل عليها أمام قومه، فأراد الحق سبحانه أن يجعل ما يمكن الدليل عليه من آيات الأرض وسيلة لتصديق ما لا يوجد دليل عليه من آيات الصعود إلى السماء، وإلا فهل صعد أحد إلى سدرة المنتهى، فيصفها له رسول الله؟ إذن: آية الأرض أمكن أن يدلل عليها، فإذا ما قام عليها الدليل، وثبت للرسول خرق نواميس الكون في الزمن والمسافة، فإن حدثكم عن شيء آخر فيه خرق للنواميس فصدقوه، فكأن آية الإسراء جاءت عن شيء آخر فيه خرق للنواميس فصدقوه، فكأن آية الإسراء جاءت لتقرب للناس آية المعراج. فالذي خرق له النواميس في آيات الأرض من الممكن أن يخرق له النواميس في آيات السماء، فالله تعالى يقرب الغيبيات، التي لا تدركها العقول بالمحسات التي تدركها. ومن ذلك ما ضربه إليه مثلاً محسوساً لمضاعفة النفقة في سبيل الله إلى سبعمائة ضعف، فأراد الحق سبحانه أن يبين ذلك ويقربه للعقول، فقال: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم "261" } (سورة البقرة)
ومن لطف الله سبحانه بعقول خلقه أن جعل آيات الإسراء بالنص الملزم الصريح، لكن آيات المعراج جاءت بالالتزام في سورة النجم؛ لذلك قال العلماء: إن الذي يكذب بالإسراء يكفر، أما من يكذب بالمعراج فهو فاسق. لكن أهل التحقيق يذهبون إلى تكفير من يكذب المعراج أيضاً؛ لأن المعراج وإن جاء بالالتزام فقد بينه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف، والحق سبحانه يقول: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا .. "7" } (سورة الحشر) والمتأمل في الإسراء والمعراج يجده إلى جانب أنه تسلية لرسول الله وتخفيف عنه، إلا أن لهم هدفاً آخر أبعد أثراً، وهو بيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤيد من الله، وله معجزات، وتخرق له القوانين والنواميس العامة؛ ليكون ذلك كله تكريماً ودليلاً على صدق رسالته. فالمعجزة: أمر خارق للعادة الكونية يجريه الله على يد رسوله؛ ليكون دليلاً على صدقه، ومن ذلك ما حدث لإبراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ حيث ألقاه قومه في النار، ومن خواص النار الإحراق، فهل كان المراد نجاة إبراهيم من النار؟ لو كان القصد نجاته من النار ما كان الله مكنهم من الإمساك به، ولو أمسكوا فيمكن أن ينزل الله المطر فيطفئ النار. إذن: المسألة ليست نجاة إبراهيم، المسألة إثبات خرق النواميس لإبراهيم عليه السلام، فشاء الله أن تظل النار مشتعلة، وأن يمسكوا به ويرموه في النار، وتتوفر كل الأسباب لحرقه ـ عليه السلام. وهنا تتدخل عناية الله لتظهر المعجزة الخارقة للقوانين، فمن خواص النار الإحراق، وهي خلق من خلق الله، يأتمر بأمره، فأمر الله النار ألا تحرق، سلبها هذه الخاصية، فقال تعالى: {قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم "69" } (سورة الأنبياء) وربما يجد المشككون في الإسراء والمعراج ما يقرب هذه المعجزة لأفهامهم بما نشاهده الآن من تقدم علمي يقرب لنا المسافات، فقد تمكن الإنسان بسلطان العلم أن يغزو الفضاء، ويصعد إلى كواكب أخرى في أزمنة قياسية، فإذا كان في مقدور البشر الهبوط على سطح القمر، أتستبعدون الإسراء والمعراج، وهو فعل لله سبحانه؟! وكذلك من الأمور التي وقفت أمام المعترضين على الإسراء والمعراج حادثة شق الصدر التي حكاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمتأمل فيه يجده عملاً طبيعياً لإعداد الرسول صلى الله عليه وسلم لما هو مقبل عليه من أجواء ومواقف جديدة تختلف في طبيعتها عن الطبيعة البشرية. كيف ونحن نفعل مثل هذا الإعداد حينما نسافر من بلد إلى آخر، فيقولون لك: البس ملابس كذا. وخذ حقنة كذا لتساير طبيعة هذا البلد، وتتأقلم معه، فما بالك ومحمد صلى الله عليه وسلم سيلتقي بالملائكة وبجبريل وهم ذوو طبيعة غير طبيعة البشر، وسيلتقي بإخوانه من الأنبياء، وهم في حال الموت، وسيكون قاب قوسين أو أدنى من ربه عز وجل؟ إذن: لا غرابة في أن يحدث له تغيير ما في تكوينه صلى الله عليه وسلم ليستطيع مباشرة هذه المواقف. وإذا استقرأنا القرآن الكريم فسوف نجد فيه ما يدل على صدق رسول الله فيما أخبر به من لقائه بالأنبياء في هذه الرحلة، قال تعالى: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا .. "45" } (سورة الزخرف)
والرسول صلى الله عليه وسلم إذا أمره ربه أمراً نفذه، فكيف السبيل إلى تنفيذ هذا الأمر: واسأل من سبقك من الرسل؟ لا سبيل إلى تنفيذه إلا في لقاء مباشر ومواجهة، فإذا حدثنا بذلك رسول الله في رحلة الإسراء والمعراج نقول له: صدقت، ولا يتسلل الشك إلا إلى قلوب ضعاف الإيمان واليقين. فالفكرة في هذه القضية ـ الإسراء والمعراج ـ دائرة بين يقين المؤمن بصدق رسول الله، وبين تحكيم العقل، وهل استطاع عقلك أن يفهم كل قضايا الكون من حولك؟ فما أكثر الأمور التي وقف فيها العقل ولم يفهم كنهها، ومع مرور الزمن وتقدم العلوم رآها تتكشف له تدريجياً، فما شاء الله أن يظهره لنا من قضايا الكون يسر لنا أسبابه باكتشاف أو اختراع، وربما بالمصادفة. وما العقل إلا وسيلة إدراك، كالعين والأذن، وله قوانين محددة لا يستطيع أن يتعداها، وإياك أن تظن أن عقلك يستطيع إدراك كل شيء، بل هو محكوم بقانون. ولتوضيح ذلك، نأخذ مثلاً العين، وهي وسيلة إدراك يحكمها قانون الرؤية، فإذا رأيت شخصاً مثلاً تراه واضح الملامح، فإذا ما ابتعد عنك تراه يصغر تدريجياً حتى يختفي عن نظرك، كذلك السمع تستطيع بأذنك أن تسمع صوتاً، فإذا ما ابتعد عنك قل سمعك له، حتى يتوقف إدراك الأذن فلا تسمع شيئاً. كذلك العقل كوسيلة إدراك له قانون، وليس الإدراك فيه مطلقاً. ومن هنا لما أراد العلماء التغلب على قانون العين وقانون الأذن حينما تضعف هذه الحاسة وتعجز عن أداء وظيفتها صنعوا للعين النظارة والميكروسكوب والمجهر، وهذه وسائل حديثة تمكن العين من رؤية ما لا تستطيع رؤيته. وكذلك صنعوا سماعة الأذن لتساعدها على السمع إذا ضعفت عن أداء وظيفتها. إذن: فكل وسيلة إدراك لها قانونها، وكذلك العقل، وإياك أن تظن أن عقلك يستطيع أن يدرس كل شيء، ولكن إذا حدثت بشيء فعقلك ينظر فيه، فإذا ثقته صادقاً فقد انتهت المسألة، وخذ ما حدثت به على أنه صدق. وهذا ما حدث مع الصديق أبي بكر رضي الله عنه حينما حدثوه عن صاحبه صلى الله عليه وسلم، وأنه أسرى به من مكة إلى بيت المقدس، فما كان منه إلا أن قال: "إن كان قال فقد صدق". فالحجة عنده إذن قول الرسول، ومادام الرسول قد قال ذلك فهو صادق، ولا مجال لعمل العقل في هذه القضية، ثم قال "كيف لا أصدقه في هذا الخبر، وأنا أصدقه في أكثر من هذا، أصدقه في خبر الوحي يأتيه من السماء". فآية الإسراء ـ إذن ـ كانت آية أرضية، يمكن أن يقام عليها الدليل، ويمكن أن يفهم الناس عنها أن القانون قد خرق لمحمد في الإسراء، فإذا ما أتى المعراج وخرق له القانون فيما لا يعلم الناس كان أدعى لتصديقه. والمتأمل في هذه السورة يجدها تسمى سورة الإسراء، وتسمى سورة بني إسرائيل، وليس فيها عن الإسراء إلا الآية الأولى فقط، وأغلبها يتحدث عن بني إسرائيل، فما الحكمة من ذكر بني إسرائيل بعد الإسراء؟ سبق أن قلنا: إن الحكمة من الكلام عن الإسراء بعد آخر النحل أن رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم كان في ضيق مما يمكرون، فأراد الحق سبحانه أن يخفف عنه ويسليه، فكان حادث الإسراء، ولما ألف بنو إسرائيل أن الرسول يبعث إلى قومه فحسب، كما رأوا موسى عليه السلام. فعندما يأتي محمد صلى الله عليه وسلم ويقول: أنا رسول للناس كافة سيعترض عليه هؤلاء وسيقولون: إن كنت رسولاً فعلاً وسلمنا بذلك، فأنت رسول للعرب دون غيرهم، ولا دخل لك ببني إسرائيل، فلنا رسالتنا وبيت المقدس علم لنا. لذلك أراد الحق سبحانه أن يلفت إسرائيل إلى عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن هنا جعل بيت المقدس قبلة للمسلمين في بداية الأمر، ثم أسرى برسوله صلى الله عليه وسلم إليه: ليدلل بذلك على أن بيت المقدس قد دخل في مقدسات الإسلام، وأصبح منذ هذا الحدث في حوزة المسلمين.
لقراءة المزيد من خواطر الشيخ الشعراوي في سورة الإسراء اضغط على الوصلة التالية: سورة الإسراء