وقوله: {خَشْيَةَ إِمْلاقٍ. .} [الإسراء: 31]
(14/8491)
أي: خَوْفاً من الفقر، والإملاق: مأخوذة من مَلَق وتملّق، وكلها تعود إلى الافتقار؛ لأن الإنسان لا يتملَّق إنساناً إلا إذا كان فقيراً لما عنده محتاجاً إليه، فيتملَّقه ليأخذ منه حاجته.
وقوله: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم. .} [الإسراء: 31]
وفي هذه الآية مَلْمح لطيف يجب التنّبه إليه وفَهْمه لنتمكن من الردِّ على أعداء القرآن الذين يتهمونه بالتناقض.
الحق سبحانه وتعالى يقول هنا: {خَشْيَةَ إِمْلاقٍ. .} [الإسراء: 31]
أي: خَوْفاً من الفقر، فالفقر إذن لم يَأْتِ بعد، بل هو مُحْتمل الحدوث في مستقبل الأيام، فالرزق موجود وميسور، فالذي يقتل أولاده في هذه الحالة غير مشغول برزقه، بل مشغول برزق أولاده في المستقبل؛ لذلك جاء الترتيب هكذا: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ. .} [الإسراء: 31]
أولاً: لأن المولود يُولَد ويُولَد معه رزقه، فلا تنشغلوا بهذه المسألة؛ لأنها ليستْ من اختصاصكم.
ثم: {وَإِيَّاكُم. .} [الإسراء: 31]
أي: أن رِزْق هؤلاء الأبناء مُقدَّم على رزقكم أنتم، ويمكن أن يُفْهَم المعنى على أنه: لا تقتلوا أولادكم خَوْفاً من الفقر، فنحن نرزقكم من خلالهم، ومن أجلهم.
ونهتمّ بتوضيح هذه المسألة؛ لأن أعداء الدين الذين يُنقِّبون في القرآن عن مَأْخذ يروْنَ تعارضاً أو تكراراً بين هذه الآية التي معنا وبين آية أخرى تقول: {وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ. .} [الأنعام: 151]
ونقول لهؤلاء: لقد استقبلتم الأسلوب القرآني بغير الملَكَة العربية في فَهْمه، فأسلوب القرآن ليس صناعة جامدة، بل هو أسلوب بليغ يحتاج في فَهْمه وتدبُّره إلى ذَوْق وحِسٍّ لُغويٍّ.
وإذا استقبلتم كلام الله استقبالاً سليماً فلن تجدوا فيه تعارضاً ولا تكراراً، فليست الأولى أبلغَ من الثانية، ولا الثانية أبلغَ من الأولى، بل كل آية بليغة في موضوعها؛ لأن الآيتين وإنْ تشابهتَا في
(14/8492)
النظرة العَجْلَى لكنْ بينهما فَرْق في المعنى كبير، فآية الإسراء تقول: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم. .} [الإسراء: 31]
وقد أوضحنا الحكمة من هذا الترتيب: نرزقهم وإياكم.
أما في آية الأنعام: {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ. .} [الأنعام: 151]
فلا بُدَّ أن نلاحظَ أن للآية صدراً وعَجُزاً، ولا يصح أن تفهم أحدهما دون الآخر، بل لا بُدَّ أن تجمع في فَهْم الآية بين صدرها وعجزها، وسوف يستقيم لك المعنى ويُخرجك من أي إشكال.
وما حدث من هؤلاء أنهم نظروا إلى عَجُزَيْ الآيتين، وأغفلوا صَدريهما، ولو كان الصدر واحداً في الآيتين لكان لهم حق فيما ذهبوا إليه، ولكنّ صَدْري الآيتين مختلفان:
الأولى: {خَشْيَةَ إِمْلاقٍ. .} [الإسراء: 31]
والأخرى:
{مِّنْ إمْلاَقٍ. .} [الأنعام: 151]
والفرْق واضح بين التعبيرين: فالأول: الفقر غير موجود؛ لأن الخشية من الشيء دليل أنه لم يحدث، ولكنه مُتوقَّع في المستقبل، وصاحبه ليس مشغولاً برزقه هو، بل برزق مَنْ يأتي من أولاده.
أما التعبير الثاني: {مِّنْ إمْلاَقٍ. .} [الأنعام: 151]
فالفقر موجود وحاصل فعلاً، والإنسان هنا مشغول برزقه هو لا برزق المستقبل، فناسب هنا أنْ يُقدِّم الآباء في الرزق عن الأبناء.
وما دام الصَّدْر مختلفاً، فلا بُدَّ أن يختلف العَجُز، فأيْنَ التعارضُ
(14/8493)
إذن؟ وهناك مِلْحَظٌ آخر في الآية الكريمة، وهو أن النهي مُخَاطَبٌ به الجمع: {وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ. .} [الإسراء: 31]
فالفاعل جمع، والمفعول به جمع، وسبق أن قلنا: إن الجمع إذا قُوبل بالجمع تقتضي القسمة آحاداً، فالمعنى: لا يقتل كل واحد منكم ولده. كما يقول المعلم للتلاميذ: أخرجوا كُتبكم، والمقصود أنْ يُخرج كل تلميذ كتابه.
فإنْ قال قائل: إن الآية تنهي أنْ يقتلَ الأب ولده خَوْفاً من الفقر، لكنها لا تمنع أنْ يقتل الأبُ ولد غيره مجاملةً له، وهو الآخر يقتل ولد غيره مجاملة له.
نقول: لا. . لأن معنى الآية ألاَّ يقتل كل الآباء كل الأولاد، فينسحب المعنى على أولادي وأولاد غيري، وهذا هو المراد بمقابلة الجمع بالجمع. أما لو قُلْنا: إن المعنى: تجاملني وتقتل لي ابني، وأجاملك وأقل لك ابنك، فهذا لا يستقيم؛ لأن المقابلة هنا ليس مقابلة جمع بجمع.
وقوله تعالى: {إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} [الإسراء: 31]
خِطْئاً مثل خطأ، وهو الإثم والذنب العظيم. وتأتي بالكسر وبالفتح كما نقول: خُذوا حِذْركم، وخذوا حَذرَكم.
وكلمة: {خِطْئاً. .} [الإسراء: 31]
الخاء والطاء والهمزة تدل على عدم موافقة الصواب، لكن مرة يكون عدم موافقة الصواب لأنك لم تعرف الصواب، ومرة أخرى لم توافق الصواب لأنك عرفتَ الصواب، ولكنك تجاوزْتَه.
(14/8494)
فالمعلِّم حينما يُصوِّب للتلاميذ أخطاءهم أثناء العام الدراسي نجده يُوضِّح للتلميذ ما أخطأ فيه، ثم يُصوّب له هذا الخطأ، وهو لم يفعل ذلك إلا بعد أن أعلمَ تلميذه بالقاعدة التي يسير عليها، ولكن التلميذ قد يغفل عن هذه القاعدة فيقع في الخطأ.
وهنا لا مانع أنْ نُصوِّب له خَطَأه ونُرشده؛ لأنه ما يزال في زمن الدرس والتعلُّم والترويض والتدريب.
لكن الأمر يختلف إنْ كانت هذه الأسئلة في امتحان آخر العام، فالمعلِّم يُبيِّن الخطأ، ولكنه لا يُصحِّحه، بل يُقدِّره بالدرجات التي تُحسَب على التلميذ، وتنتهي المسألة بالنجاح لِمَنْ أصاب، وبالفشل لمن أخطأ؛ لأن آخر العام أصبح لديه قواعد مُلْزمة، عليه أنْ يسيرَ عليها.
وكلمة (خطْئاً أو خطأ) مأخوذة من خطا خطوة، وتعني الانتقال بالحركة، فإذا كان الصواب هو الشيء الثابت الذي استُقِرَّ عليه وتعارف الناس عليه، ثم تجاوزتَه وانتقلتَ عنه إلى غيره، فهذا هو الخطأ أي: الخطوة التي جعلتك تتجاوز الصواب.
ومنه قوله تعالى:
{وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان. .} [البقرة: 168]
لأنه ينقلكم عن الشيء الثابت المستقر في شريعة الله.
(14/8495)
والشيء الثابت هنا هو أن الخالق سبحانه خلق الإنسان وكرَّمه ليكون خليفة له في الأرض ليعمرها، ويقيم فيها بمنهج الخالق سبحانه، فكيف يستخلفك الخالق سبحانه، وتأتي أنت لتقطع هذا الاستخلاف بما تُحدِثه من قَتْل الأولاد، وهم بذُور الحياة في المستقبل؟
حتى لو أخذنا بقول مَنْ ذهب إلى أن {أَوْلادَكُمْ} المراد بها البنون دون البنات، وسَلَّمنا معه جدلاً أنك تُميت البنات، وتُبقى على الذكور، فما الحال إذا كَبِر هؤلاء الذكور وطلبوا الزواج؟ {وكيف يستمر النسل بذكر دون أنثى؟}
إذن: هذا فََهْمٌ لا يستقيم مع الآية الكريمة، لأن النهي هنا عن قتل الأولاد، وهم البنون والبنات معاً.
وقد وصف الحق سبحانه الخطأ هنا بأنه كبير، فقال: {خِطْئاً كَبِيراً} [الإسراء: 31]
ذلك لأنه خطأ من جوانب مُتعدِّدة:
أولهما: أنك بالقتل هدمتَ بنيان الله، ولا يهدم بنيان الله إلا الله.
ثانيها: أنك قطعت سلسلة التناسل في الأرض، وقضيتَ على الخلافة التي استخلفها الله في الأرض.
ثالثها: أنك تعديتَ على غريزة العطف والحنان؛ لأن ولدك بعض مِنْك، وقتله يُجرِّدك من كل معاني الأُبُوة والرحمة، بل والإنسانية.
وهكذا وضع الحق سبحانه لنا ما يضمن بقاء النسل واستمرار
(14/8496)
خلافة الإنسان لله في أرضه، بأنْ نهى كل والد أن يقتلَ ولده، ونهى كل الآباء أنْ يقتلوا كل الأولاد.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً} .
(14/8497)
وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)
بعد أن تحدّث الحق سبحانه عما يحفظ النسل ويستبقي خلافة الله في الأرض، أراد سبحانه أن يحمي هذا النسل من الضياع، ويوفر له الحياة الكريمة. والإنسان منّا حينما يُرزَق بالولد أو البنت يطير به فَرحاً، ويُؤثِره على نفسه، ويُخرج اللقمة من فيه ليضعها في فم ولده، ويسعى جاهداً ليُوفّر له رفاهية العيش، ويُؤمِّن له المستقبل المُرْضِي، وصدق الشاعر حين قال:
إنما أَوْلاَدُنَا أكبادُناَ ... تمشي عَلَى الأَرْضِ
إنْ هَبَّتْ الريحُ على بَعْضهِم ... امتنعَتْ عَيْني عَنِ الغُمْضِ
لكن هذا النظام التكافليّ الذي جعله الحق سبحانه عماداً تقوم عليه الحياة الأسرية سرعان ما ينهار من أساسه إذا ما دَبَّ الشكُّ إلى قلب الأب في نسبة هذا الولد إليه، فتتحوّل حياته إلى جحيم لا يُطَاق، وصراع داخلي مرير لا يستطيع مواجهته أو النطق به؛ لأنه طَعْن في ذاته هو.
لذلك يُحذِّرنا الحق تبارك وتعالى من هذه الجريمة النكْراء؛
(14/8497)
ليحفظ على الناس أنسابهم، ويطمئن كل أب إلى نسبة أبنائه إليه، فيحنو عليهم ويرعاهم، ويستعذب ألم الحياة ومتاعبها في سبيل راحتهم.
فيقول تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى. .} [الإسراء: 32]
والمتأمل في آي القرآن الكريم يجد أن الحق سبحانه حينما يُكلِّمنا عن الأوامر يُذيِّل الأمر بقوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا. .} [البقرة: 229]
والحديث هنا عن أحكام الطلاق، فقد وضع له الحق سبحانه حدوداً، وأمرنا أن نقف عندها لا نتعداها، فكأنه سبحانه أوصلنا إلى هذا الحد، والممنوع أن نتعداه.
وأما في النواهي، فيُذيلها بقوله: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا. .} [البقرة: 187]
والنهي هنا عن مباشرة النساء حال الاعتكاف، وكأن الحق سبحانه يريد ألاّ نصلَ إلى الحدِّ المنهي عنه، وأنْ يكون بيننا وبينه مسافة، فقال {فَلاَ تَقْرَبُوهَا} لنظلّ على بُعْدٍ من النواهي، وهذا احتياط واجب حتى لا نقتربَ من المحظور فنقع فيه.
وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه» .
(14/8498)
فالحق سبحانه خالق الإنسان، وهو أعلم به لا يريد له أنْ يقتربَ من المحظور؛ لأن له بريقاً وجاذبية كثيراً ما يضعف الإنسان أمامها؛ لذلك نهاه عن مجرد الاقتراب، وفَرْقٌ بين الفعل وقُرْبان الفعل، فالمحرّم المحظور هنا هو الفِعْل نفسه، فلماذا إذن حرَّم الله الاقتراب أيضاً، وحذّر منه؟
نقول: لأن الله تعالى يريد أنْ يرحَم عواطفك في هذه المسألة بالذات، مسألة الغريزة الجنسية، وهي أقوى غرائز الإنسان، فإنْ حُمْتَ حولها توشك أن تقعَ فيها، فالابتعاد عنها وعن أسبابها أسلَمُ لك.
وحينما تكلًّم العلماء عن مظاهر الشعور والعلم قسَّموها إلى ثلاث مراحل: الإدراك، ثم الوجدان، ثم النزوع.
فلو فرضنا أنك تسير في بستان فرأيتَ به وردة جميلة، فلحظة أنْ نظرتَ إليها هذا يُسمَّى «الإدراك» ؛ لأنك أدركتَ وجودها بحاسة البصر، ولم يمنعك أحد من النظر إليها والتمتُّع بجمالها.
فإذا ما أعجبتك وراقك منظرها واستقر في نفسك حُبُّها فهذا يسمى «الوجدان» أي: الانفعال الداخلي لما رأيتَ، فإذا مددتَ يدك لتقطفها فهذا «نزوع» أي: عمل فعلي.
ففي أي مرحلة من هذه الثلاث يتحكَّم الشرع؟
الشرع يتحكم في مرحلة النزوع، ولا يمنعك من الإدراك، أو من الوجدان، إلا في هذه المسألة «مسألة الغريزة الجنسية» فلا يمكن فيها فَصْل النزوع عن الوجدان، ولا الوجدان عن الإدراك، فهي
(14/8499)
مراحل ملتحمة ومتشابكة، بحيث لا تقوى النفس البشرية على الفَصْل بينها.
فإذا رأى الرجل امرأة جميلة، فإن هذه الرؤية سرعان ما تُولِّد إعجاباً وميلاً، ثم عِشْقاً وغريزة عنيفة تدعوه أنْ تمتدَّ يده، ويتولد النزوع الذي نخافه، وهنا إما أنْ ينزعَ ويُلبي نداء غريزته، فيقع المحرم، وإما أنْ يعف ويظل يعاني مرارة الحرمان.
والخالق سبحانه أعلم بطبيعة خَلْقه، وبما يدور ويختلج داخلهم من أحاسيس ومشاعر؛ لذلك لم يُحرِّم الزنا فحسب، بل حرَّم كل ما يؤدي إليه بداية من النظر، فقال تعالى: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ. .} [النور: 30]
لأنك لو أدركتَ لوجدتَ، ولو وجدتَ لنزعتَ، فإنْ أخذتََ حظَّك من النزوع أفسدتَ أعراض الناس، وإنْ عففتَ عِشْتَ مكبوتاً تعاني عِشْقاً لن تناله، وليس لك صبر عنه.
إذن: الأسلم لك وللمجتمع، والأحفظ للأعراض وللحرمات أنْ تغُضَّ بصرك عن محارم الناس فترحم أعراضهم وترحم نفسك.
لكن هذه الحقيقة كثيراً ما تغيب عن الأذهان، فيغشّ الإنسانُ نفسه بالاختلاط المحرم، وإذا ما سُئل ادَّعى البراءة وحُسْن النية وأخذ من صلة الزمالة إلى القرابة أو الجوار ذريعة للمخالطة والمعاشرة وهو لا يدري أنه واهم في هذا كله، وأن خالقه سبحانه أدرى به
(14/8500)
وأعلم بحاله، وما أمره بغضِّ بصره إلا لما يترتب عليه من مفاسد ومضار، إما تعود على المجتمع، أو على نفسه.
لذلك قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «النظرة سَهْم مسموم من سهام إبليس، مَنْ تركها من مخافتي أبدلتُه إيماناً يجد حلاوته في قلبه» .
ومن هنا نفهم مراده سبحانه من قوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى. .} [الإسراء: 32]
ولم يقل: لا تزنوا. لأن لهذه الجريمة مقدمات تؤدي إليها فاحذر أنْ تجعلَ نفسك على مقربة منها؛ لأن مَنْ حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ودَعْكَ ممَّنْ يُنادون بالاختلاط والإباحية؛ لأن الباطل مهما عَلاَ ومهما كَثُر أتباعه فلن يكون حقاً في يوم من الأيام.
وأحذر ما يشيع على الألسنة من قولهم هي بنت عمه، وهو ابن خالها، وهما تربَّيا في بيت واحد، إلى آخر هذه المقولات الباطلة التي لا تُغيّر من وجه الحرام شيئاً، فطالما أن الفتاة تحل لك فلا يجوز لك الخلوة بها.
وفي الحديث النبوي: «لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما» .
(14/8501)
إذن: ما حرَّم الإسلام النظر لمجرد النظر، وما حرّم الخُلْوة في ذاتها ولكن حَرَّمهما؛ لأنهما من دوافع الزنا وأسبابه. فيقول تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى. .} [الإسراء: 32] أبلغ في التحريم وأحوط وأسلم من: لا تزنوا.
ومثال ذلك أيضاً قوله تعالى في تحريم الخمر: {ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]
ومع ذلك يخرج علينا مَنْ يقول: ليس في القرآن آية واحدة تحرم شرب الخمر. . سبحان الله، فأيُّهما أبلغ وأشدّ في التحريم أن نقول لك: لا تشرب الخمر، أم اجتنب الخمر؟
لا تشرب الخمر: نَهْي عن الشُّرْب فقط. إذن: يُبَاحُ لك شراؤها وبيعُها وصناعتها ونقلها. . الخ. أما الاجتناب فيعني: البعد عنها كُلية، وعدم الالتقاء بها في أي مكان، وعلى أية صورة.
فالاجتناب إذن أشدّ من مجرد التحريم.
وكيف نقول بأن الاجتناب أقل من التحريم، وقد قال تعالى في مسألة هامة من مسائل العقيدة: {والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا} [الزمر: 17]
فهل تقول في هذه: إن الاجتناب أقلّ من التحريم؟ وهل عبادة الطاغوت ليست محرمة؟!
ثم يقول تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً. .} [الإسراء: 32]
(14/8502)
الفاحشة: هي الشيء الذي اشتدّ قبْحه. وقد جعل الحق سبحانه الزنا فاحشة؛ لأنه سبحانه وتعالى حينما خلق الزوجين: الذكر والأنثى، وقدَّر أن يكون منهما التناسل والتكاثر قدَّر لهما أصولاً يلتقيان عليها، ومظلّة لا يتم الزواج إلا تحتها، ولم يترك هذه المسألة مشَاعاً يأتيها مَنْ يأتيها؛ ليحفظ للناس الأنساب، ويحمي طهارة النساء، فيطمئن كل إنسان إلى سلامة نسبه ونسب أولاده.
والمراد من الأصول التي يلتقي عليها الزوجان عقد القِران الذي يجعهما بكلمة الله وعلى سنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وهَبْ أن لك بنتاً بلغت سنَّ الزواج، وعلمتَ أن شاباً ينظر إليها، أو يحاول الاقتراب منها، أو ما شابه ذلك، ماذا سيكون موقفك؟ لا شكَّ أن نار الغيرة ستشتعل بداخلك، وربما تعرَّضْتَ لهذا الشاب، وأقمْتَ الدنيا ولم تُقعِدْها.
لكن إذا ما طرق هذا الشاب بابَك، وتقدَّم لخطبة ابنتك فسوف تقابله بالترْحَاب وتسعد به، وتدعو الأهل، وتقيم الزينات والأفراح.
إذن: فما الذي حدث؟ وما الذي تغيَّر؟ وما الفرق بين الأولى والثانية؟
الفرق بينهما هو الفرق بين الحلال والحرام؛ لذلك قيل: «جدع الحلال أنف الغيرة» .
فالذي يغَارُ على بناته من لمسة الهواء تراه عند الزواج يُجَهِز ابنته، ويُسلمها بيده إلى زوجها؛ لأنهما التقيا على كلمة الله، هذه الكلمة المقدسة التي تفعل في النفوس الأعاجيب.
(14/8503)
مجرد أن يقول وليُّ الزوجة: زوجتُكَ، ويقول الزوج: وأنا قبلتُ. تنزل هذه الكلمة على القلوب بَرْداً وسلاماً، وتُحدِث فيها انبساطاً وانشراحاً؛ لأن لهذه الكلمة المقدسة عملاً في التكوين الذاتي للإنسان، ولها أثر في انسجام ذراته، وفي كل قطرة من دمه.