والعربي القُحُّ الذي ما عرف غير الصحراء حينما رأى بَعْر البعير وآثار الأقدام استدلَّ بالأثر على صاحبه، فقال في بساطة العرب: البَعْرة تدلّ على البعير، والقدم تدلّ على المسير، سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير؟
(14/8420)
إذن: بالفطرة التكوينية التي جعلها الله في الإنسان يمكن له أن يهتدي إلى أن للكون خالقاً، وإنْ لم يعرف مَنْ هو، مجرد أن يعرف القوة الخفية وراء هذا الكون.
وحينما يأتي رسول من عند الله يساعده في الوصول إلى ما يبحث عنه، ويدلّه على ربه وخالقه، وأن هذه القوة الخفية التي حيَّرتْك هي (الله) خالقك وخالق الكون كله بما فيه ومَن فيه.
وهو سبحانه واحد لا شريك له، شهد لنفسه أنه لا إله إلا هو ولم يعارضه أحد ولم يَدَّعِ أحد أنه إله مع الله، وبذلك سَلِمَتْ له سبحانه هذه الدعوى؛ لأن صاحب الدعوة حين يدَّعيها تسلم له إذا لم يوجد معارض لها.
وهذه الفطرة الإيمانية في الإنسان هي التي عنَاهَا الحق سبحانه في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى. .} [الأعراف: 172]
وهذا هو العَهْد الإلهي الذي أخذه الله على خَلْقه وهم في مرحلة الذَّرِّ، حيث كانوا جميعاً في آدم عليه السلام فالأنْسَال كلها تعود إليه، وفي كل إنسان إلى يوم القيامة ذرة من آدم، هذه الذرة هي التي شهدتْ هذا العهد، وأقرَّتْ أنه لا إله إلا الله، ثم ذابتْ هذه الشهادة في فطرة كل إنسان؛ لذلك نسميها الفطرة الإيمانية.
ونقول للكافر الذي أهمل فطرته الإيمانية وغفل عنها، وهي تدعوه
(14/8421)
إلى معرفة الله: كيف تشعر بالجوع فتطلب الطعام؟ وكيف تشعر بالعطش فتطلب الماء؟ أرأيت الجوع أو لمسْتَه أو شَمَمْته؟ إنها الفطرة والغريزة التي جعلها الله فيك، فلماذا استخدمت هذه، وأغفلت هذه؟
والعجيب أن ينصرف الإنسان العاقل عن ربه وخالقه في حين أن الكون كله من حوله بكل ذراته يُسبِّح بحمد ربّه، فذراتُ الكون وذراتُ التكوين في المؤمن وفي الكافر تُسبِّح بحمد ربها، كما قال تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ. .} [الإسراء: 44] فكيف بك يا سيد الكون تغفل عن الله والذرات فيك مُسبّحة، فإن كانت ذرات المؤمن حدث بينه وبين ذرات تكوينه انسجام واتفاق، وتجاوب تسبيحه مع تسبيح ذراته وأعضائه وتوافقت إرادته الإيمانية مع إيمان ذراته، فترى المؤمن مُنْسجماً مع نفسه مع تكوينه المادي.
ويظهر هذا الانسجام بين إرادة الإنسان وبين ذرّاته وأعضائه في ظاهرة النوم، فالمؤمن ذرّاته وأعضائه راضية عنه تُحبه وتُحب البقاء معه لا تفارقه؛ لأن إرادته في طاعة الله، فترى المؤمن لا ينام كثيراً مجرد أن تغفل عينه ساعةً من ليل أو نهار تكفيه ذلك؛ لأن أعضاءه في انسجام مع إرادته، وهؤلاء الذين قال الله فيهم: {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ. .} [الذاريات: 17]
وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تنام عينه ولا ينام قلبه، لأنه في انسجام تام مع إرادته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
(14/8422)
وما أشبه الإنسان في هذه القضية بسيد شرس سيء الخُلق، لديه عبيد كثيرون، يعانون من سُوء معاملته، فيلتمسون الفرصة للابتعاد عنه والخلاص من معاملته السيئة.
على خلاف الكافر، فذراته مؤمنة وإرادته كافرة، فلا انسجام ولا توافق بين الإرادة والتكوين المادي له، لذا ترى طبيعته قلقة، ليس هناك تصالح بينه وبين ذراته، لأنها تبغضه وتلعنه، وتود مفارقته.
ولولا أن الخالق سبحانه جعلها مُنْقادةً له لما طاوعتْه، وإنها لتنتظر يوم القيامة يوم أنْ تفكّ من إرادته، وتخرج من سجنه، لتنطق بلسان مُبين، وتشهد عليه بما اقترف في الدنيا من كفر وجحود؛ لذلك ترى الكافر ينام كثيراً، وكأن أعضاءه تريد أن ترتاح من شره.
ولا بُدّ أن نعلم أن ذرات الكون وذرات الإنسان في تسبيحها للخالق سبحانه، أنه تسبيح فوق مدارك البشر؛ لذلك قال تعالى: {ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ. .} [الإسراء: 44]
فلا يفقهه ولا يفهمه إلا مَنْ منحه الله القدرة على هذا، كما منح هذه الميزة لداود عليه السلام فقال: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ والطير وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 79]
وهنا قد يقول قائل: ما الميزة هنا، والجبال والطير تُسبّح الله بدون داود؟
والميزة هنا لداود عليه السلام أن الله تعالى أسمعه تسبيح الجبال وتسبيح الطير، وجعلها تتجاوب معه في تسبيحه وكأنه (
(14/8423)
كورس) أو نشيد جماعي تتوافق فيه الأصوات، وتتناغم بتسبيح الله تعالى، ألم يقل الحق سبحانه في آية أخرى: {ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ والطير. .} [سبأ: 10]
أي: رَجِّعي معه وردِّدي التسبيح.
ومن ذلك أيضاً ما وهبه الله تعالى لنبيه سليمان عليه السلام من معرفة منطق الطير أي لغته، فكان يسمع النملة وهي تخاطب بني جنسها ويفهم ما تريد، وهذا فضل من الله يهبه لمَنْ يشاء من عباده، لذلك لما فهم سليمان عليه السلام لغة النملة، وفهم ما تريده من تحذير غيرها تبسم ضاحكاً: {وَقَالَ رَبِّ أوزعني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ. .} [النمل: 19]
إذن: لكل مخلوق من مخلوقات الله لغة ومنطق، لا يعلمها ولا يفهمها إلا مَنْ يُيسِّر الله له هذا العلم وهذا الفهم.
وحينما نقرأ عن هذه القضية نجد بعض كُتَّاب السيرة مثلاً يقولون: سبَّح الحصى في يد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نقول لهم: تعبيركم هذا غير دقيق، لأن الحصى يُسبِّح في يده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما يُسبِّح في يد أبي جهل، لكن الميزة أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سمع تسبيح الحصى في يده، وهذه من معجزاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
(14/8424)
والحق سبحانه يريد أنْ يلفتنا إلى حقيقة من حقائق الكون، وهي كما أن لك حياة خاصة بك، فاعلم أن لكل شيء دونك حياة أيضاً، لكن ليستْ كحياتك أنت، بدليل قول الحق سبحانه: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ. .} [القصص: 88]
فكل ما يُطلق عليه شيء مهما قَلَّ فهو هالك، والهلاك ضد الحياة؛ لأن الله تعالى قال: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ. .} [الأنفال: 42] فدلَّ على أن له حياة تُناسبه.
ونعود إلى قوله الحق سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]
فإن اهتدى الإنسان بفطرته إلى وجود الخالق سبحانه، فمن الذي يُعْلِمه بمرادات الخالق سبحانه منه، إذن: لا بُدَّ من رسول يُبلِّغ عن الله، ويُنبِّه الفطرة الغافلة عن وجوده تعالى.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القول فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} .
(14/8425)
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)
الحق تبارك وتعالى في هذه الآية يعطينا مثالاً لعاقبة الخروج عن منهج الله تعالى؛ لأنه سبحانه حينما يُرسل رسولاً ليُبلِّغ منهجه إلى خَلْقه، فلا عُذْرَ للخارجين عنه؛ لأنه منهج من الخالق الرازق المنعم، الذي يستحق منا الطاعة والانقياد. وكيف يتقلب الإنسان في نعمة ربه ثم يعصاه؟ إنه رَدٌّ غير لائق للجميل، وإنكار للمعروف الذي
(14/8425)
يسوقه إليك ليل نهار، بل في كل نَفَسٍ من أنفاسك.
ولو كان هذا المنهج من عند البشر لكان هناك عُذْر لمَنْ خرج عنه، ولذلك يقولون: «من يأكل لقمتي يسمع كلمتي» .
كما أن هذا المنعم سبحانه لم يفاجئك بالتكليف، بل كلفك في وقَت مناسب، في وقت استوت فيه ملكاتُكَ وقدراتُكَ، وأصبحتَ بالغاً صالحاً لحمل هذا التكليف، فتركك خمسة عشر عاماً تربع في نعمه وتتمتع بخيره، فكان الأَوْلَى بك أن تستمع إلى منهج ربك، وتُنفِّذه أمراً ونهياً؛ لأنه سبحانه أوجدك من دم وأمدَّك من عُدم.
والمتأمل في قضية التكليف يرى أن الحق سبحانه أمر بعضنا أن يُكلِّف بعضاً، كما قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا. .} [طه: 132]
وقد شرح لنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذه القضية فقال: «مُرُوا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر» .
وهذا التكليف وإنْ كان في ظاهره من الأهل لأولادهم، إلا أنه في حقيقته من الله تعالى فهو الآمر للجميع، ولكن أراد الحق سبحانه أن يكون التكليف الأول في هذه السن من القريب المباشر المحسّ أمام الطفل، فأبوه هو صاحب النعمة المحسّة حيث يوفر لولده الطعام والشراب، وكل متطلبات حياته، فإذا ما كلفه أبوه كان أَدْعَى إلى الانصياع والطاعة؛ لأن الولد في هذه السن المبكرة لا تتسع مداركه لمعرفة المنعم الحقيقي، وهو الله تعالى.
(14/8426)
لذلك أمر الأب أن يعوّد ولده على تحمُّل التكليف وأن يعاقبه إنْ قصَّر؛ لأن الآمر بالفعل هو الذي يُعاقب على الإهمال فيه. حتى إذا بلغ الولد سِنًّ التكليف الحقيقي من المنعم الأعلى سبحانه كان عند الولد أُنْس بالتكليف وتعودُّ عليه، وبذَلك يأتي التكليف الإلهي خفيفاً على النفس مألوفاً عندها.
أما إن أخذتَ نِعم الله وانصرفتَ عن منهجه فطغيْتَ بالنعمة وبغيتَ فانتظر الانتقام، انتظر أَخْذه سبحانه وسنته التي لا تتخلف ولا تُردُّ عن القوم الظالمين في الدنيا قبل الآخرة.
واعلم أن هذا الانتقام ضروري لحفظ سلامة الحياة، فالناس إذا رأوا الظالمين والعاصين والمتكبرين يرتعُونَ في نعَم الله في أمن وسلامة، فسوف يُغريهم هذا بأن يكونوا مثلهم، وأنْ يتخذوهم قدوة ومثلاً، فيهم الفساد والظلم وينهار المجتمع من أساسه.
أما إنْ رَأوْا انتقام الحق سبحانه من هؤلاء، وشاهدوهم أذلاّء منكسِرينَ، فسوف يأخذون منهم عبرة وعظة، والعاقل مَنِ اعتبر بغيره، واستفاد من تجارب الآخرين.
فالانتقام من الله تعالى لحكمة أرادها سبحانه وتعالى، وكم رأينا من أشخاص وبلاد حاقَ بهم سوء أعمالهم حتى أصبحوا عِبرةً ومُثْلة ومَنْ لم يعتبر كان عبرة حتى لمَنْ لم يؤمن، وبذلك تعتدل حركة الحياة، حيث يشاهد الجميع ما نزل بالمفسدين من خراب ودمار، وإذا استقرأت البلاد في نواحي العالم المختلفة لتيسَّر لك الوقوف على هذه السُّنة الإلهية في بلاد بعينها، ولاستطعْتَ أن تعزو ما حدث لها إلى أسباب واضحة من الخروج عن منهج الحق سبحانه.
(14/8427)
وصدق الله حين قال: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل: 112]
وإياك أن تظن أن الحق سبحانه يمكن أن يهمل الفسقة والخارجين عن منهجه، فلابد أن يأتي اليوم الذي يأخذهم فيه أخْذَ عزيز مُقْتدر، وإلاَّ لكانت أُسْوة سيئة تدعو إلى الإفساد في حركة الحياة.
قال تعالى: {وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القول فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء: 16]
الآفة أن الذين يستقبلون نصَّ القرآن يفهمون خطأ أن {فَفَسَقُواْ} مترتبة على الأمر الذي قبلها، فيكون المعنى أن الله تعالى هو الذي أمرهم بالفسق، وهذا فهم غريب لمعنى الآية الكريمة، وهذا الأمر صادر من الحق سبحانه إلى المؤمنين، فتعالوا نَرَ أوامر الله في القرآن: {وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين. .} [البينة: 5]
{أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البلدة. .} [النمل: 91]
{وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين} [يونس: 72]
فأمْر الله تعالى لا يكون إلا بطاعة وخير، ولا يأمر سبحانه بفسق أو فحشاء، كما ذكر القرآن الكريم، وعلى هذا يكون المراد من الآية: أمرنا مترفيها بطاعتنا وبمنهجنا، ولكنهم خالفوا وعَصَوْا وفسقوا؛ لذلك حَقَّ عليهم العذاب.
(14/8428)
والأمر: طَلَب من الأعلى، وهو الله تعالى إلى الأدنى، وهم الخَلْق طلب منهم الطاعة والعبادة، فاستغلُّوا فرصة الاختيار ففسقوا وخالفوا أمر الله.
قوله: {وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً. .} [الإسراء: 16]
من الخطأ أن نفهم المعنى على أن الله أراد أولاً هلاكهم ففسقوا؛ لأن الفهم المستقيم للآية أنهم فسقوا فأراد الله إهلاكهم. و {قَرْيَةً} أي أهل القرية.
وقوله: {فَحَقَّ عَلَيْهَا القول. .} [الإسراء: 16]
أي: وجب لها العذاب، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الذين فسقوا. .} [يونس: 33]
وقد أوجب الله لها العذاب لتسلَم حركة الحياة، وليحمي المؤمنين من أذى الذين لا يؤمنون بالآخرة.
وقوله تعالى: {فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً. .} [الإسراء: 16]
أي: خربناها، وجعلناها أثراً بعد عَيْن، وليستْ هذه هي الأولى، بل إذا استقرأتَ التاريخ خاصة تاريخ الكفرة والمعاندين فسوف تجد قرى كثيرة أهلكها الله ولم يبقى منها إلا آثاراً شاخصة شاهدة عليهم، كما قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القرون مِن بَعْدِ نُوحٍ وكفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً} .
(14/8429)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)
فأيْن عاد وثمود وقوم لوط وقوم صالح؟ إذن: فالآية قضية قولية، لها من الواقع ما يُصدِّقها.
وقوله: {مِن بَعْدِ نُوحٍ. .} [الإسراء: 17]
دَلَّ على أن هذا الأخذ وهذا العذاب لم يحدث فيما قبل نوح؛ لأن الناس كانوا قريبي عَهْد بخَلْق الله لآدم عليه السلام كما أنه كان يلقنهم معرفة الله وما يضمن لهم سلامة الحياة، أما بعد نوح فقد ظهر الفساد والكفر والجحود، فنزل بهم العذاب. الذي لم يسبق له مثيل.
قال تعالى: {والفجر وَلَيالٍ عَشْرٍ والشفع والوتر واليل إِذَا يَسْرِ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ العماد التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد الذين طَغَوْاْ فِي البلاد فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} [الفجر: 1 - 14]
ولنا وَقْفة سريعة مع هذه الآيات من سورة الفجر، فقد خاطب الحق سبحانه رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} [الفجر: 6]
و {أَلَمْ تَرَ} بمعنى: ألم تعلم؛ لأن النبي لم ير ما فعله الله بعاد، فلماذا عدل السياق القرآني عن: تعلم إلى تَرَ؟
(14/8430)
قالوا: لأن إعلام الله لرسوله أصدق من عينه ورؤيته، ومثلها قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل} [الفيل: 1]
حيث وُلِد رسول الله في عام الفيل، ولم يكن رأى شيئاً.
وفي آيات سورة (الفجر) ما يدلُّنا على أن حضارة عاد التي لا نكاد نعرف عنها شيئاً كانت أعظمَ من حضارة الفراعنة التي لفتتْ أنظار العالم كله؛ ذلك لأن الحق تبارك وتعالى قال عن عاد: {التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد} [الفجر: 8]
أي: لا مثيلَ لها في كل حضارات العالم، في حين قال عن حضارة الفراعنة: {وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد} [الفجر: 10] مجرد هذا الوصف فقط. وقوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القرون. .} [الإسراء: 17]
كَمْ: تدل على كثرة العدد.
والقرون: جمع قرن، وهو في الاصطلاح الزمني مائة عام، ويُطلَق على القوم المقترنين معاً في الحياة، ولو على مبدأ من المبادئ، وتوارثه الناس فيما بينهم.
وقد يُطلَق القرن على أكثر من مائة عام كما نقول: قرن نوح، قرن هود، قرن فرعون. أي: الفترة التي عاشها.
وقوله: {وكفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً. .} [الإسراء: 17]
(14/8431)
أي: أنه سبحانه غنيّ عن إخبار أحد بذنوب عباده، فهو أعلم بها، لأنه سبحانه لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء: {يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور} [غافر: 19]
فلا يحتاج لمَنْ يخبره؛ لأنه خبير وبصير، هكذا بصيغة المبالغة.
وهنا قد يقول قائل: طالما أن الله تعالى يعلم كل شيء ولا تخفى عليه خافية، فلماذا يسأل الناس يوم القيامة عن أعمالهم؟
نقول: لأن السؤال يَرِدُ لإحدى فائدتين:
الأولى: كأنْ يسألَ الطالب أستاذه عن شيء لا يعلمه، فالهدف أنْ يعلم ما جهل.
والأخرى: كأن يسأل الأستاذ تلميذه في الامتحان، لا ليعلم منه، ولكن ليقرره بما علم.
وهكذا الحق سبحانه ولله المثل الأعلى يسأل عبده يوم القيامة عن أعماله ليقرره بها، وليجعله شاهداً على نفسه، كما قال: {اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء: 14]
وقوله تعالى: {وكفى بِرَبِّكَ. .} [الإسراء: 17]
(14/8432)
كما تقول: كفى بفلان كذا، أي: أنك ترتضيه وتثقُ به، فالمعنى: يكفيك ربك فلا تحتاج لغيره، وقد سبق أنْ أوضحنا أن الله تعالى في يده كل السلطات حينما يقضي: السلطة التشريعية، والسلطة القضائية، والسلطة التنفيذية، وهو سبحانه غنيّ عن الشهود والبينة والدليل.
إذن: كفى به سبحانه حاكماً وقاضياً وشاهداً. ولأن الحق سبحانه خبير بصير بذنوب عباده، فعقابه عَدْل لا ظلمَ فيه.
ثم يقول الحق سبحانه: {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً} .
(14/8433)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)
الحق تبارك وتعالى قبل أن يخلق الإنسان الذي جعله خليفة له في أرضه، خلق له الكون كُلّه بما فيه، وخلق له جميع مُقوّمات حياته، ووالى عليه نِعَمه إيجاداً من عدم، وإمداداً من عُدم، وجعل من مُقوّمات الحياة ما ينفعل له وإنْ لم يُطلب منه، كالشمس والقمر والهواء والمطر. . الخ فهذه من مُقوّمات حياتك التي تُعطيك دون أنْ تتفاعلَ معها.
ومن مُقوّمات الحياة مَا لا ينفعل لك، إلا إذا تفاعلتَ معه،
(14/8433)
كالأرض مثلاً لا تعطيك إلا إذا حرثتها، وبذرت فيها البذور فتجدها قد انفعلتْ لك، وأعطتْك الإنتاج الوفير.
والمتأمل في حضارات البشر وارتقاءاتهم في الدنيا يجدها نتيجة لتفاعل الناس مع مُقوّمات الحياة بجوارحهم وطاقاتهم، فتتفاعل معهم مُقوِّمات الحياة، ويحدث التقدم والارتقاء.
وقد يرتقي الإنسان ارتقاءً آخر، بأن يستفيد من النوع الأول من مُقوّمات الحياة، والذي يعطيه دون أنْ يتفاعل معه، استفادة جديدة، ومن ذلك ما توصّل إليه العلماء من استخدام الطاقة الشمسية استخدامات جديدة لم تكن موجودة من قبل.
إذن: فهذه نواميس في الكون، الذي يُحسِن استعمالها تُعطيه النتيجة المرجوة، وبذلك يُثري الإنسان حياته ويرتقي بها، وهذا ما أَسْمَيناه سابقاً عطاء الربوبية الذي يستوي فيه المؤمن والكافر، والطائع والعاصي.
لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة. .} [الإسراء: 18]
أي: عطاء الدنيا ومتعها ورُقيها وتقدّمها.
{عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ. .} [الإسراء: 18]
أجبْنَاهُ لما يريد من متاع الدنيا.
ولا بُدَّ لنا أنْ نتنبه إلى أن عطاء الربوبية الذي جعله الله للمؤمن
(14/8434)
والكافر، قد يغفل عنه المؤمن ويترك مُقوّمات الحياة وأسبابها يستفيد منها الكافر ويتفاعل معها ويرتقي بها، ويتقدم على المؤمن، ويمتلك قُوته ورغيف عيشه، بل وجميع متطلبات حياتهم، ثم بالتالي تكون لهم الكلمة العليا والغلبة والقهر، وقد يفتنونك عن دينك بما في أيديهم من أسباب الحياة.
وهذا حال لا يليق بالمؤمن، ومذلة لا يقبلها الخالق سبحانه لعباده، فلا يكفي أن نأخذ عطاء الألوهية من أمر ونهي وتكليف وعبادة، ونغفل أسباب الحياة ومُقوّماتها المادية التي لا قِوامَ للحياة إلا بها.
في حين أن المؤمن أَوْلَى بمقوّمات الحياة التي جعلها الخالق في الكون من الكافر الذي لا يؤمن بإله.
إذن: فمن الدين ألاَّ تمكِّن أعداء الله من السيطرة على مُقوِّمات حياتك، وألاَّ تجعلَهم يتفوقون عليك.
وقوله: {مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ. .} [الإسراء: 18]
أي: أن تفاعل الأشياء معك ليس مُطْلقاً، بل للمشيئة تدخُّلٌ في هذه المسألة، فقد تفعل، ولكن لا تأخذ لحكمة ومراد أعلى، فليس الجميع أمام حكمة الله سواء، وفي هذا دليل على طلاقة القدرة الإلهية.
ومعنى {مَا نَشَآءُ. .} للمعجَّل و {لِمَن نُّرِيدُ} للمعجَّل له.
وما دام هذا يريد العاجلة، ويتطلع إلى رُقيِّ الحياة الدنيا وزينتها، إذن: فالآخرة ليستْ في باله، وليست في حُسْبانه؛ لذلك
(14/8435)
لم يعمل لها، فإذا ما جاء هذا اليوم وجد رصيده صِفْراً لا نصيب له فيها؛ لأن الإنسان يأخذ أجره على ما قدّم، وهذا قدَّم للدنيا وأخذ فيها جزاءه من الشهرة والرقيّ والتقدّم والتكريم.
قال تعالى: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب} [النور: 39]
والسراب ظاهرة طبيعية يراها مَنْ يسير في الصحراء وقت الظهيرة، فيرى أمامه شيئاً يشبه الماء، حتى إذا وصل إليه لم يجدْهُ شيئاً، كذلك إنْ عمل الكافرُ خيراً في الدنيا فإذا أتى الآخرة لم يجدْ له شيئاً من عمله؛ لأنه أخذ جزاءه في الدنيا.
ثم تأتي المفاجأة: {وَوَجَدَ الله عِندَهُ} [النور: 39]
وفي آية أخرى يصفه القرآن بقوله: {مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَيْءٍ ذلك هُوَ الضلال البعيد} [إبراهيم: 18]
فمرة يُشبِّه عمل الكافر بالماء الذي يبدو في السراب، ومرة يُشبِّهه بالرماد؛ لأن الماء إذا اختلط بالرماد صار طيناً، وهو مادة الخِصْب والنماء، وهو مُقوِّم من مُقوِّمات الحياة.
ووصفه بقوله تعالى: {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ
(14/8436)
فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} [البقرة: 264]
والحق تبارك وتعالى في هذه الآية يُجسِّم لنا خَيْبة أمل الكافر في الآخرة في صورة مُحسَّة ظاهرة، فمثَلُ عمل الكافر كحجر أملس أصابه المطر، فماذا تنتظر منه؟ وماذا وراءه من الخير؟
ثم يقول الحق سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً} [الإسراء: 18]
أي: أعددناها له، وخلقناها من أجله يُقاسي حرارتها {مَذْمُوماً} أي: يذمُّه الناس، والإنسان لا يُذَمّ إلا إذا ارتكب شيئاً ما كان يصحّ له أنْ يرتكبه.
و {مَّدْحُوراً} [الإسراء: 18] وبعد أنْ أعطانا الحق سبحانه صورة لمن أراد العاجلة وغفل عن الآخرة، وما انتهى إليه من العذاب، يعطينا صورة مقابلة، صورة لمن كان أعقل وأكيس، ففضَّل الآخرة.
يقول الحق سبحانه: {وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً} .
(14/8437)
وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)