فاتحة الكتاب
(مالك يوم الدين "4" إياك نعبد وإياك نستعين"5")
إذا كانت كل نعم الله تستحق الحمد .. فإن "مالك يوم الدين" تستحق الحمد الكبير .. لأنه لو لم يوجد يوم للحساب، لنجا الذي ملأ الدنيا شروراً. دون أن يجازى على ما فعل .. ولكان الذي التزم بالتكليف والعبادة وحرم نفسه من متع دنيوية كثيرة إرضاء لله قد شقي في الحياة الدنيا .. ولكن لأن الله تبارك وتعالى هو "مالك يوم الدين" .. فقد أعطى الاتزان للوجود كله .. هذه الملكية ليوم الدين هي التي حمت الضعيف والمظلوم وأبقت الحق في كون الله .. أن الذي منع الدنيا أن تتحول إلي غابة .. يفتك فيها القوي بالضعيف والظالم بالمظلوم .. أن هناك آخرة وحساباً، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي سيحاسب خلقه..
والإنسان المستقيم استقامته تنفع غيره .. لأنه يخشى الله ويعطي كل ذي حقه ويعفو ويسامح .. إذن كل من حوله قد استفاد من خلقه الكريم ومن وقوفه مع الحق والعدل..
أما الإنسان العاصي فيشقى به المجتمع لأنه لا أحد يسلم من شره ولا أحد إلا يصيبه ظلمه .. ولذلك فإن "مالك يوم الدين " هي الميزان .. تعرف أنت أن الذي يفسد في الأرض تنتظره الآخرة .. لن يفلت مهما كانت قوته ونفوذه، فتطمئن اطمئنانا كاملاً إلي أن عدل الله سينال كل ظالم.
على أن "مالك يوم الدين" لها قراءتان .. "مالك يوم الدين" .. وملك يوم الدين. والقراءتان صحيحتان .. والله تبارك وتعالى وصف نفسه في القرآن الكريم بأنه: "مالك يوم الدين" .. ومالك الشيء هو المتصرف فيه وحده .. ليس هناك دخل لأي فرد آخر .. أنا أملك عباءتي .. وأملك متاعي، وأملك منزلي، وأنا المتصرف في هذا كله أحكم فيه بما أراه..
فمالك يوم الدين .. معناها أن الله سبحانه وتعالى سيصرف أمور العباد في ذلك اليوم بدون أسباب .. وأن كل شيء سيأتي من الله مباشرة .. دون أن يستطيع أحد أن يتدخل ولو ظاهراً..
ففي الدنيا يعطى الله الملك ظاهرا لبعض الناس .. ولكن في يوم القيامة ليس هناك ظاهر .. فالأمر مباشر من الله سبحانه وتعالى .. ولذلك يقول الله في وصف يوم الدين:
{كلا بل تكذبون بالدين "9" }
(سورة الانفطار)
فكأن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان في الدنيا لتمضي بها الحياة .. ولكن في الآخرة لا توجد أسباب. الملك في ظاهر الدنيا من الله يهبه لمن يشاء .. واقرأ قوله تعالى:
{قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير "26" }
(سورة آل عمران)
ولعل قوله تعالى: "تنزع" تلفتنا إلي أن أحدا في الدنيا لا يريد أن يترك الملك .. ولكن الملك يجب أن ينتزع منه انتزاعا رغما عن إرادته .. والله هو الذي ينزع الملك ممن يشاء..
وهنا نتساءل هل الملك في الدنيا والآخرة ليس لله؟ .. نقول الأمر في كل وقت لله .. ولكن الله تبارك وتعالى استخلف بعض خلقه أو مكنهم من الملك في الأرض .. ولذلك نجد في القرآن الكريم قوله تعالى:
{ألم تر إلي الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين "258" }
(سورة البقرة)
والذي حاج إبراهيم في ربه كافر منكر للألوهية .. ومع ذلك فإنه لم يأخذ الملك بذاته .. بل الله جل جلاله هو الذي أتاه الملك .. إذن الله تبارك وتعالى هو الذي استخلف بعض خلقه ومكنهم من ملك الأرض ظاهريا .. ومعنى ذلك أنه ملك ظاهر للناس فقط .. أن بشرا أصبح ملكا .. ولكن الملك ليس نابعا من ذات من يملك .. ولكنه نابع من أمر الله .. ولو كان نابعا من ذاتية من يملك لبقى له ولم ينزع منه .. والملك الظاهر يمتحن فيه العباد، فيحاسبهم الله يوم القيامة .. كيف تصرفوا؟ وماذا فعلوا؟ .. ويمتحن فيه الناس هل سكتوا على الحاكم الظالم؟ .. وهل استحبوا المعصية؟
أم أنهم وقفوا مع الحق ضد الظلم؟ .. والله سبحانه وتعالى لا يمتحن الناس ليعلم المصلح من المفسد .. ولكنه يمتحنهم ليكونوا شهداء على أنفسهم .. حتى لا يأتي واحد منهم يوم القيامة ويقول: يا رب لو أنك أعطيتني الملك لا تبعت طريق الحق وطبقت منهجك.
وهنا يأتي سؤال .. إذا كان الله سبحانه وتعالى يعلم كل شيء فلماذا الامتحان؟ .. نقول أننا إذا أردنا أن نضرب مثلا يقرب ذلك إلي الأذهان .. ولله المثل الأعلى .. نجد أن الجامعات في كل أنحاء الدنيا تقيم الامتحانات لطلابها .. فهل أساتذة الجامعة الذي علموا هؤلاء الطلاب يجهلون ما يعرفه الطالب ويريدون أن يحصلوا منه على العلم؟ .. طبعا لا .. ولكن ذلك يحدث حتى إذا رسب الطالب في الامتحان .. وجاء يجادل واجهوه بإجابته فيسكت .. ولو لم يعقد الامتحان لادعي كل طالب أنه يستحق مرتبة الشرف.
إذا قال الحق تبارك وتعالى: "مالك يوم الدين" .. أي الذي يملك هذا اليوم وحده يتصرف فيه كما يشاء .. وإذا قيل: "مالك يوم الدين" فتصرفه أعلى على المالكين لأن المالك لا يتصرف إلا في ملكه .. ولكن الملك يتصرف في ملكه وملك غيره .. فيستطيع أن يصدر قوانين بمصادرة أو تأميم ما يملكه غيره.
الذين قالوا: "مالك يوم الدين" اثبتوا لله سبحانه وتعالى أنه مالك هذا اليوم يتصرف فيه كما يشاء دون تدخل من أحد ولو ظاهرا: والذين يقرأون ملك .. يقولون أن الله سبحانه وتعالى في ذلك اليوم يقضي في أمر خلقه حتى الذين ملكهم في الدنيا ظاهرا .. ونحن نقول عندما يأتي يوم القيامة لا مالك ولا ملك إلا الله.
الله تبارك وتعالى يريد أن يطمئن عباده .. أنهم إذا كانوا قد ابتلوا بمالك أو ملك يطغى عليهم فيوم القيامة لا مالك ولا ملك إلا الله جل جلاله .. عندما تقول مالك أو ملك يوم الدين .. هناك يوم وهناك الدين .. اليوم عندنا من شروق الشمس إلي شروق الشمس .. هذا ما نسيمه فكليا يوما .. واليوم في معناه ظرف زمان تقع فيه الأحداث .. والمفسرون يقولون: "مالك يوم الدين" أي مالك أمور الدين لأن ظرف الزمان لا يملك .. نقول أن هذا بمقاييس ملكية البشر، فنحن لا نملك الزمن .. الماضي لا نستطيع أن نعيده، والمستقبل لا نستطيع أن نأتي به .. ولكن الله تبارك وتعالى هو خالق الزمان .. والله جل جلاله لا يحده زمان ولا مكان .. كذلك قوله تعالى: "مالك يوم الدين" لا يحده زمان ولا مكان .. واقرأ قوله سبحانه:
{ويستعجلوك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون "47"}
(سورة الحج)
وقوله تعالى:
{تعرج الملائكة والروح إليه في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنةٍ "4" }
(سورة المعارج)
وإذا تأملنا هاتين الآيتين نعرف معنى اليوم عند الله تبارك وتعالى .. ذلك أن الله جل جلاله هو خالق الزمن .. ولذلك فإنه يستطيع أن يخلق يوما مقداره ساعة .. ويوما كأيام الدنيا مقداره أربع وعشرون ساعة .. ويوم مقداره ألف سنة .. ويوما مقداره خمسون ألف سنة ويوما مقداره مليون سنة .. فذلك خاضع لمشيئة الله.
ويوم الدين موجود في علم الله سبحانه وتعالى. بأحداثه كلها بجنته وناره .. وكل الخلق الذين سيحاسبون فيه .. وعندما يريد أن يكون ذلك اليوم ويخرج من علمه جل جلاله إلي علم خلقه .. سواء كانوا من الملائكة أو من البشر أو الجان يقول: كن .. فالله وحده هو خالق هذا اليوم .. وهو وحده الذي يحدد كل أبعاده .. واليوم نحن نحدده ظاهرا بأنه أربع وعشرون ساعة .. ونحدده بأنه الليل والنهار .. ولكن الحقيقة أن الليل والنهار موجودان دائما على الأرض .. فعندما تتحرك الأرض، كل حركة هي نهاية نهار في منطقة وبداية نهار في منطقة أخرى .. وبداية ليل في منطقة ونهاية ليل في منطقة أخرى .. ولذلك في كل لحظة ينتهي يوم ويبدأ يوم .. وهكذا فإن الكرة الأرضية لو أخذتها بنظرة شاملة لا ينتهي عليها نهار أبدا .. ولا ينتهي عنها ليل أبدا .. إذن فاليوم نسبي بالنسبة لكل بقعة في الأرض .. ولكنه في الحقيقة دائم الوجود على كل الكرة الأرضية.
والله سبحانه وتعالى يريد أن يطمئن عباده .. أنهم إذا أصابهم ظلم في الدنيا .. فإن هناك يوم لا ظلم فيه .. وهذا اليوم الأمر فيه لله وحده بدون أسباب .. فكل إنسان لو لم يدركه العدل والقصاص في الدنيا فإن الآخرة تنتظره .. والذي أتبع منهج الله وقيد حركته في الحياة يخبره الله سبحانه وتعالى أن هناك يوم سيأخذ فيه أجره وعظمة الآخرة أنها تعطيك الجنة .. نعيم لا يفوتك ولا تفوته.
ولقد دخل أحد الأشخاص على رجل من الصالحين .. وقال له: أريد أن أعرف .. أأنا من أهل الدنيا أم من الآخرة؟ .. فقال له الرجل الصالح .. أن الله أرحم بعباده، فلم يجعل موازينهم في أيدي أمثالهم .. فميزان كل إنسان في يد نفسه .. لماذا؟ .. لأنك تستطيع أن تعرف أأنت من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة.
قال الرجل كيف ذلك؟ فرد العبد الصالح: إذا دخل عليك من يعطيك مالا .. ودخل عليك من يأخذ منك صدقة .. فبأيهما تفرح؟ .. فسكت الرجل .. فقال العبد الصالح: إذا كنت تفرح بمن يعطيك مالا فأنت من أهل الدنيا .. وإذا كنت تفرح بمن يأخذ منك صدقة فأنت من أهل الآخرة .. فإن الإنسان يفرح بمن يقدم له ما يحبه .. فالذي يعطيني مالا يعطيني الدنيا .. والذي يأخذ مني صدقة يعطيني الآخرة .. فإن كنت من أهل الآخرة .. فأفرح بمن يأخذ منك صدقة .. أكثر من فرحك بمن يعطيك مالا.
ولذلك كان بعض الصالحين إذا دخل عليه من يريد صدقة يقول مرحبا بمن جاء يحمل حسناتي إلي الآخرة بغير أجر .. ويستقبله بالفرحة والترحاب.
قول الحق سبحانه وتعالى: "مالك يوم الدين" .. هي قضية ضخمة من قضايا العقائد .. لأنها تعطينا أن البداية من الله، والنهاية إلي الله جل جلاله .. وبما أننا جميعا سنلقى الله، فلابد أن نعمل لهذا اليوم .. ولذلك فإن المؤمن لا يفعل شيئا في حياته إلا وفي باله الله .. وأنه سيحاسبه يوم القيامة .. ولكن غير المؤمن يفعل ما يفعل وليس في باله الله .. وعن هؤلاء يقول الحق سبحانه:
{والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعةْ يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجده الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب "39"}
(سورة النور)
وهكذا من يفعل شيئا وليس في باله الله .. سيفاجأ يوم القيامة بأن الله تبارك وتعالى الذي لم يكن في باله موجود وأنه جل جلاله هو الذي سيحاسبه.
وقوله تعالى: "مالك يوم الدين" هي أساس الدين .. لأن الذي لا يؤمن بالآخرة يفعل ما يشاء .. فمادام يعتقد أنه ليس هناك آخره وليس هناك حساب .. فمم يخاف؟ .. ومن أجل من يقيد حركته في الحياة..
أن الدين كله بكل طاعاته ولك منهجه قائم على أن هناك حسابا في الآخرة .. وأن هناك يوما نقف فيه جميعا أمام الله سبحانه وتعالى .. ليحاسب المخطئ ويثيب الطائع .. هذا هو الحكم في كل تصرفاتنا الإيمانية .. فلو لم يكن هناك يوم نحاسب فيه .. فلماذا نصلي؟ .. ولماذا نصوم؟ .. ولماذا نتصدق؟..
أن كل حركات منهج السماء قائمة على أساس ذلك اليوم الذي لن يفلت منه أحد .. والذي يجب علينا جميعا أن نستعد له .. أن الله سبحانه وتعالى سمى هذا اليوم بالنسبة للمؤمنين يوم الفوز العظيم .. والذي يجعلنا نتحمل كل ما نكره ونجاهد في سبيل الله لنستشهد .. وننفق أموالنا لنعين الفقراء والمساكين .. كل هذا أساسه أن هناك يوما سنقف فيه بين يدي الله .. والله تبارك وتعالى سماه يوم الدين .. لأنه اليوم الذي سيحاسب فيه كل إنسان على دينه عمل به أم ضيعه .. فمن آمن واتبع الدين سيكافأ بالخلود في الجنة .. ومن أنكر الدين وأنكر منهج الله سيجازى بالخلود في النار..
ومن عدل الله سبحانه وتعالى أن هناك يوما للحساب .. لأن بعض الناس الذين ظلموا وبغوا في الأرض ربما يفلتون من عقاب الدنيا .. هل هؤلاء الذين افلتوا في الدنيا من العقاب هل يفلتون من عدل الله؟ .. أبدا لم يفلتوا .. بل أنهم انتقلوا من عقاب محدود إلي عقاب خالد .. وافلتوا من العقاب بقدرة البشر في الدنيا .. إلي عقاب بقدرة الله تبارك وتعالى في الآخرة .. ولذلك لابد من وجود يوم يعيد الميزان .. فيعاقب فيه كل من أفسد في الأرض وأفلت من العقاب .. بل إن الله سبحانه وتعالى يجعل إنسانا يفلت من عقاب الدنيا .. فلا تعتقد أن هذا خير له بل أنه شر له .. لأنه أفلت من عقاب محدود إلي عقاب أبدي.
والحمد الكبير لله بأنه "مالك يوم الدين" .. وهو وحده الذي سيقضي بين خلقه. فالله سبحانه وتعالى يعامل خلقه جميعا معاملة متساوية .. وأساس التقوى هو يوم الدين.