فاتحة الكتاب
(بسم الله الرحمن الرحيم)
{قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ "16"}
(سورة يونس)
لذلك أنت تقرأ القرآن بسم الله .. لأنه جل جلاله هو الذي يسره لك كلاما وتنزيلا وقراءة .. ولكن هل نحن مطالبون أن نبدأ فقط تلاوة القرآن بسم الله؟ إننا مطالبون أن نبدأ كل عمل بسم الله .. لأننا لابد أن نحترم عطاء الله في كونه. فحين نزع الأرض مثلا .. لابد أن نبدأ بسم الله .. لأننا لم نخلق الأرض التي نحرها .. ولا خلقنا البذرة التي نبذرها. ولا أنزلنا الماء من السماء لينمو الزرع.
أن الفلاح الذي يمسك الفأس ويرمي البذرة قد يكون أجهل الناس بعناصر الأرض ومحتويات البذرة وما يفعله الماء في التربة لينمو الزرع .. إن كل ما يفعله الإنسان هو أنه يعمل فكره المخلوق من الله في المادة المخلوقة من الله .. بالطاقة التي أوجدها الله في أجسادنا ليتم الزرع.
والإنسان لا قدرة له على إرغام الأرض لتعطيه الثمار .. ولا قدرة له على خلق الحبة لتنمو وتصبح شجرة. ولا سلطان له على إنزال الماء من السماء .. فكأنه حين يبدأ العمل بسم الله، يبدؤه بسم الله الذي سخر له الأرض .. وسخر له الحب، وسخر له الماء، وكلها لا قدرة له عليها .. ولا تدخل في طاقته ولا في استطاعته .. فكأنه يعلن أنه يدخل على هذه الأشياء جميعا بسم من سخرها له ..
والله تبارك وتعالى سخر لنا الكون جميعا وأعطانا الدليل على ذلك. فلا تعتقد أن لك قدرة أو ذاتية في هذا الكون .. ولا تعتقد أن الأسباب والقوانين في الكون لها ذاتية. بل هي تعمل بقدرة خالقها. الذي إن شاء أجراها وإن شاء أوقفها.
الجمل الضخم والفيل الهائل المستأنس قد يقودهما طفل صغير فيطيعانه. ولكن الحية صغيرة الحجم لا يقوى أي إنسان على أن يستأنسها. ولو كنا نفعل ذلك بقدراتنا .. لكان استئناس الحية أو الثعبان سهلا لصغر حجمها .. ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يجعلها مثلا لنعلم أنه بقدراته هو قد أخضع لنا ما شاء، ولم يخضع لنا ما شاء. ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى:
{أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً فهم لها مالكون "71" وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون "72" } (سورة يس) وهكذا نعرف أن خضوع هذه الأنعام لنا هو بتسخير الله لها وليس بقدرتنا.
يأتي الله سبحانه وتعالى إلي أرض ينزل عليها المطر بغزارة. والعلماء يقولون إن هذا يحدث بقوانين الكون. فيلفتنا الله تبارك وتعالى إلي خطأ هذا الكلام. بأن تأتي مواسم جفاف لا تسقط فيها حبة مطر واحدة لنعلم أن المطر لا يسقط بقوانين الكون ولكن بإرادة خالق الكون .. فإذا كانت القوانين وحدها تعمل فمن الذي عطلها؟ ولكن إرادة الخالق فوق القوانين أن شاءت جعلتها تعمل وإن شاءت جعلتها لا تعمل .. إذن فكل شيء في الكون بسم الله .. هو الذي سخر وأعطى .. وهو الذي يمنح ويمنع. حتى في الأمور التي للإنسان فيها نوع من الاختيار .. واقرأ قول الحق تبارك وتعالى:
{لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور "49" أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيماً إنه عليم قدير "50"}
(سورة الشورى)
والأصل في الذرية أنها تأتي من اجتماع الذكر والأنثى .. هذا هو القانون .. ولكن القوانين لا تعمل إلا بأمر الله .. لذلك يتزوج الرجل والمرأة ولا تأتي الذرية لأنه ليس القانون هو الذي يخلق .. ولكنها إرادة خالق القانون .. إن شاء جعله يعمل .. وإن شاء يبطل عمله .. والله سبحانه وتعالى لا تحكمه القوانين ولكنه هو الذي يحكمها.
وكما أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يجعل القوانين تفعل أو لا تفعل .. فهو قادر على أن يخرق القوانين .. خذ مثلا قصة زكريا عليه السلام .. كان يكفل مريم ويأتيها بكل ما تحتاجه .. ودخل عليها ليجد عندها ما لم يحضره لها ..
وسألها وهي القديسة العابدة الملازمة لمحرابها..
{قال يا مريم أني لك هذا "37" }
(سورة آل عمران)
الحق سبحانه وتعالى يعطينا هذه الصورة .. مع أن مريم بسلوكها وعبادتها وتقواها فوق كل الشبهات .. ولكن لنعرف أن الذي يفسد الكون .. هو عدم السؤال عن مصدر الأشياء التي تتناسب مع قدرات من يحصل عليها..
الأم ترى الأب ينفق ما لا يتناسب مع مرتبه .. وترى الابنة ترتدي ما هو اكبر كثيرا من مرتبها أو مصروفها .. ولو سألت الأم أو الابنة من أين لك هذا؟ لما فسد المجتمع .. ولكن الفساد يأتي من أننا نغمض أعيننا عن المال الحرام.
بماذا ردت مريم عليها السلام؟
{قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب "37"}
(سورة آل عمران)
إذن فطلاقة قدرة الله لا يحكمها قانون .. لقد لفتت مريم زكريا عليهما السلام إلي طلاقة القدرة .. فدعا زكريا ربه في قضية لا تنفع فيها إلا طلاقة القدرة .. فهو رجل عجوز وامرأته عجوز وعاقر ويريد ولدا .. هذه قضية ضد قوانين الكون .. لأن الإنجاب لا يتم إلا وقت الشباب، فإذا كبر الرجل وكبرت المرأة لا ينجبان .. فما بالك إذا كانت الزوجة أساسا عاقرا .. لم تنجب وهي شابة وزوجها شاب .. فكيف تنجب وهي عجوز وزوجها عجوز .. هذه مسألة ضد القوانين التي تحكم البشر .. ولكن الله وحده القادر على أن يأتي بالقانون وضده .. ولذلك شاء أن يرزق زكريا بالولد وكان .. ورزق زكريا بابنه يحيى.
إذن كل شيء في هذا الكون باسم الله .. يتم باسم الله وبإذن من الله .. الكون تحكمه الأسباب نعم ولكن إرادة الله فوق كل الأسباب.
أنت حين تبدأ كل شيء باسم الله .. كأنك تجعل الله في جانبك يعينك .. ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه علمنا أن نبدأ كل شيء باسم الله .. لأن الله هو الاسم الجامع لصفات الكمال سبحانه وتعالى