ومعنى {والمرجفون...} [الأحزاب: 60] المرجف من الإرجاف، وهو الهزَّة العنيفة التي تزلزل، ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة تَتْبَعُهَا الرادفة} [النازعات: 7] فالمرجفون هم الذين يحاولون زلزلة الشيء الثابت، وزعزعة الكيان المستقر، كذلك كان المنافقون كلما رأو للإسلام قوةً حاولوا زعزتها وهزّها لإضعافه والقضاء عليه.
وهؤلاء هم الذين نسميهم في التعبير السياسي الحديث(الطابور الخامس)، وهم الجماعة الذين يُروِّجحون الإشاعات، ويذيعون الإباطيل التي تُضِعف التيار العام وتهدد استقراره.
وكثيراً ما قعد المنافقون يقولون: إن قبيلة فلان وقبيلة فلان اجتمعوا للهجوم على المدينة والقضاء على محمد ورسالته، وهدفهم من هذه الإشاعات إضعاف وهزيمة الروح المعنوية لدى المسلمين الجدد والمستضعفين منهم.
حتى على مستوى الأفراد، كانوا يذهبون إلى مَنْ يفكر في الإسلام، أو يرون أنه ارتاح إليه، فيقولون له: ألم تعلم أن فلاناً أخذه قومه، أو أخذه سيده وعذَّبه حتى الموت لأنه اتبع محمداً، ذلك ليصرفوا الناس عن دين الله.
إذن: المرجِفُ يعني الذي يمشي بالفتنة والأكاذيب؛ ليصرف أهل الحق عن حقهم، بما يُشيع من بهتان وأباطيل.
لذلك يهددهم الحق سبحانه: لئن لم ينته هؤلاء المنافقون عن الإرجاف في المدينة وتضليل الناس لَيكُونَنَّ لنا معهم شأن آخر، كان هذا وقت مهادنة ومعاهدة بين المسلمين واليهود وأتباعهم من المنافقين، وكأن الله تعالى يقول: لقد سكتنا على جرائمهم إلى أنْ قويَتْ شوكة الإسلام، أما وقد صار للإسلام شوكة فإنْ نقضوا عهدهم معنا فسوف نواجههم.
وعجيب من هؤلاء المرجفين أنْ يظنُّوا أن الله لا يعلم أباطيلهم، ولا يعلمها رسوله، والله تعالى يقول: {أَمْ حَسِبَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ الله أَضْغَانَهُمْ وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول والله يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 29-30].
ومعنى لحن القول: أن يميلوا عن غير معناه، ومن ذلك قولهم في السلام على رسول الله: السام عليكم، والسام هو الموت، وكما لووا ألسنتهم بكلمة(راعنا) فقالوا: راعونا يقصدون الرعونة.
وأغرب من ذلك ما حكاه القرآن عنهم: {وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ...} [المجادلة: 8] فهذا القول منهم دليل على غبائهم. أولاً: لأنهم يتمنوْنَ العذاب.
ثانياً: لأنهم قالوا ذلك في أنفسهم لم يقولوا للناس، ولم يقولوا حتى لبعضهم البعض؛ لأن(يقولون) جمع، و(في أنفسهم) جمع، فكأن كلاً منهم كان يقول ذلك في نفسه.
إذن: ألم يسأل واحد منهم نفسه: مَنِ الذي أعلم رسولَ الله بما في نفسي؟ أَلاَ يدل ذلك على أن محمداً موصول بربه، وأنه لابد فاضحهم، وكاشفٌ مكنونات صدورهم، إذن: هذا غباء منهم.
والمتتبع لتاريخ اليهود والمنافقين في المدينة يجد أن الإسلام لم يأخذهم على غرَّة، إنما أعطاهم العهد وأمنَّهم ووسَّع لهم في المسكن والمعيشة طالما لم يُؤذُوا المسلمين، لكن بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يتناجوْنَ بالإثم والعدوان، فبعث إليهم ونهاهم عن التناجي بالإثم والعدوان، لكنهم عادوا مرة أخرى، كما قال القرآن عنهم {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ...} [المجادلة: 8].
إذن: لم يَبْقَ إلا المواجهة على حَدِّ قول الشاعر:
أَنَاةٌ فإنْ لَمْ تُغْنِ عقَّبَ بَعْدهَا *** وَعيداً فإنْ لم يُغْنٍ أغنَتْ عَزَائمهُ
لذلك يأتي جواب الشرط: {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ والمرجفون فِي المدينة لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ...} [الأحزاب: 60].
فجواب الشرط: {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ...} [الأحزاب: 60] من الإغراء، وهو باب من أبواب الدراسات النحوية اسمه الإغراء، ويقابله التحذير، الإغراء: أنْ تحمل المخاطب وتُحبِّبه في أمر محبوب ليفعله، كما تقول لولدك مثلاً: الاجتهادَ الاجتهادَ.
أما التحذير فأنْ تُخوِّفه من أمر مكروه ليجتنبه، كما تقول: الأسدَ الأسدَ، أو الكسلَ الكسلَ.
فمعنى {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ...} [الأحزاب: 60] أي: نُسلِّطك عليهم، ونُغريك بمواجهتهم والتصدِّي لهم، فكأن هذه المواجهة صارتْ أمراً محبوباً يُغْري به؛ لأنها ستكون جزاءَ ما فزَّعوك وأقلقوك.
وما دمنا سنسلطك عليهم، وما دمتم ستصيرون إلى قوة وشوكة تُغري بعدوها، فلن يستطيعوا البقاء معكم في المدينة.
{ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً} [الأحزاب: 60]