وقوله تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً..} [لقمان: 20] أسبغ: أتمّ وأكمل، ومنها قوله تعالى عن سيدنا داود: {أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ...} [سبأ: 11] أي: دروعاً ساترة محكمة تقي لابسها من ضربات السيوف وطعنات الرماح، والدروع تُجعل على الأعضاء الهامة من الجسم كالقلب والرئتين، وقد علَّم الله تعالى داود أن يصنع الدروع على هيئة الضلوع، ليست ملساء، إنما فيها نتوءات تتحطم عليها قوة الضربة، ولا تتزحلق فتصيب مكاناً آخر.
ورُوِي أن لقمان رأى دواد- عليه السلام- يعجن الحديد بين يديه فتعجب، لكنه لم يبادر بالسؤال عما يرى وأمهله إلى أن انتهى من صنعته للدرع، فأخذه ولبسه وقال: نِعْمَ لَبُوس الحرب أنت، فقال لقمان: الصمت حُكْمٌ وقليل فاعله فظلت حكمة تتردد إلى آخر الزمان.
فمعنى أسبغ علينا النعمة: أتمها إتماماً يستوعب كل حركة حياتكم، ويمدكم دائماً بمقوِّمات هذه الحياة بحيث لا ينقصكم شيء، لا في استبقاء الحياة، ولا في استبقاء النوع؛ لأن الذي خلق سبحانه يعلم كل ما يحتاجه المخلوق.
أما إذا رأيتَ قصوراً في ناحية، فالقصور من ناحية الخَلْق في أنهم لم يستنبطوا من معطيات الكون، أو استنبطوا خيرات الكون، لكن بخلوا بها وضنُّوا على غيرهم، وهذه هي آفة العالم في العصر الحديث، حيث تجد قوماً قعدوا وتكاسلوا عن البحث وعن الاستنباط، وآخرين جدُّوا، لكنهم بخلوا بثمرات جدهم، وربما فاضتْ عندهم الخيرات حتى ألقَوْها في البحر، وأتلفوها في الوقت الذي يموت فيه آخرون جوعاً وفقراً.
إذن: فآفة العالم ليس في أنه لا يجد، إنما في أنه لا يحسن استغلال ما يجد من خيرات، ومن مُقوِّمات لله تعالى في كونه. فقوله تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً..} [لقمان: 20] هذه حقيقة لا ينكرها أحد، فهل تنكرون أنه خلقكم، وخلق لكم من أنفسكم أزواجاً منها تتناسلون؟
هل تنكرون أنه خلق السماوات بما فيها من الكواكب والمجرَّات، وخلق الليل فيه منامكم، والنهار وفيه سعيكم على معايشكم؟ ثم في أنفسكم وما خلقه فيكم من الحواس الظاهرة وغير الظاهرة، وجعل لكل منها مجالاً ومهمة تؤديها دون أنْ تشعر أنت بما أودعه الله في جسمك من الآيات والمعجزات، وكل يوم يطلع علينا العلم بجديد من نِعَم الله علينا في أنفسنا وفي الكون من حولنا.
فمعنى {ظَاهِرَةً..} [لقمان: 20] أي: التي ظهرتْ لنا: {وَبَاطِنَةً..} [لقمان: 20] لم نصل إليها بعد، ومن نِعَم الله علينا ما ندركه، ومنها ما لا ندركه.
تأمل في نفسك مثلاً الكليتين وكيف يعمل بداخلك وتصفي الدم من البولينا، فتنقيه وأنت لا تشعر بها، وأول ما فكر العلماء في عمل بديل لها حال فشلها صمموا جهازاً يملأ حجرة كبيرة، كانت نصف هذا المسجد من المعدات لتعمل عمل الكليتين، ثم تبين لهم أن الكُلْية عبارة عن مليون خلية لا يعمل منها إلا مائة بالتناوب.
وقالوا: إن الفشل الكُلَوي عبارة عن عدم تنبه المائة خلية المناط بها العمل في الوقت المناسب يعني المائة الأولى أدَّتْ مهمتها وتوقفت دون أنْ تنبه المائة الأخرى، ومن هندسة الجسم البشري أن خلق الله للإنسان كليتين، حتى إذا تعطلت إحداهما قامت الأخرى بدورها.
أما النعم الباطنة فمنه ما يُكتشف في مستقبل الأيام من آيات ونِعَم، فمنذ عدة سنوات أو عدة قرون لم نكُنْ نعرف شيئاً عن الكهرباء مثلاً، ولا عن السيارات وآلات النقل وعصر العجلة والبخار.
إلخ.
كلها نِعَم ظاهرة لنا الآن، وكانت مستورة قبل ذلك أظهرها النشاط العلمي والبحث والاستنباط من معطيات الكون، وحين تحسب ما أظهره العلم من نِعَم الله تجده حوالي 3% ونسبة 97% عرفها الإنسان بالصدفة.
وقلنا: إن أسرار الله ونعمه في كونه لا تتناهى، وليس لأحد أن يقول: إن ما وضعه الله في الأرض من آيات وأسرار أدى مهمته؛ لأنه باقٍ ببقاء الحياة الدنيا، ولا يتوقف إلا إذا تحقَّق قوله تعالى: {حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس...} [يونس: 24].
وفي الآخرة سنرى من آيات الله ومن عجائب مخلوقاته شيئاً آخر، وكأن الحق تعالى يقول لنا: لقد رأيتُم آياتي في الدنيا واستوعبتموها، فتعالوا لأُريكم الآيات الكبرى التي أعددتها لكم في الآخرة.
ففي الآخرة سأنشئكم نشأة أخرى، بحيث تأكلون ولا تتغوَّطون ولا تتألمون، وتمر عليكم الأعوام ولا تشيبون، ولا تمرضون، ولا تموتون، لقد كنتم في الدنيا تعيشون بأسبابي، أما في الآخرة فأنتم معي مع المسبِّب سبحانه، فلا حاجة لكم للأسباب، لا لشمس ولا لقمر ولا.. إلخ.
لذلك نقول: من أدب العلماء أنْ يقولوا اكتشفنا لا اخترعنا؛ لأن آيات الله ونِعَمه مطمورة في كونه تحتاج لمن يُنقِّب عنها ويستنتجها مما جعله الله في كونه من معطيات ومقدمات.
وسبق أنْ قلنا: إن كل سرٍّ من أسرار الله في كونه له ميلاد كميلاد الإنسان، فإذا حان وقته أظهره الله، إما ببحث العلماء وإلا جاء مصادفة تكرُّماً من الله تعالى على خَلْقه الذين قَصُرَت جهودهم عن الوصول إلى أسراره تعالى في كونه.
وفي هذا إشارة مقدمة لنْ نؤمن بالغيب الذي أخبرنا الله به، فما دُمْنا قد رأينا نِعَمه التي كانت مطمورة في كونه فينبغي علينا أنْ نؤمنَ بما يخبرنا به من الغيب، وأنْ نأخذَ من المُشاهَد دليلاً على ما غاب.
واقرأ في هذه المسألة قول الله تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ...} [البقرة: 255] أي: شاء سبحانه أنْ يوجد هذا الغيب، وأن يظهر للناس بعد أنْ كان مطموراً، فإنْ صادف بحثاً جاء مع البحث، وإنْ لم يصادف جاء مصادفة وبلا أسباب، بدليل أنه نسب إحاطة العلم لهم.
أما الغيب الذي ليس له مُقدِّمات توصل إليه، ولا يطلع عليه إلا الله فهو المعنيّ بقوله تعالى: {عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ...} [الجن: 26-27].
وقال سبحانه: {ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً..} [لقمان: 20] لأن الظاهرة تلفتنا إلى الإيمان بالله واجب الوجود الأعلى، والباطنة يدخرها الله لمن يأتي بعد، ثم يدخر ادخاراً آخر، بحيث لا يظهر إلا حين نكون مع الله في جنة الله.
وقد حاول العلماء أن يُعدِّدوا النعم والآيات الظاهرة والباطنة، فالظاهرة ما يعطيه لنا في الدنيا ظاهراً، والباطنة ما أخبرنا الله بها، فمثلاً حين تريد الجهاد في سبيل الله تُعِدُّ لذلك عُدَّته من سلاح وجنود.. إلخ وتأخذ بالأسباب، فيؤيدك الله بجنود من عنده لم ترَوْها، كما قال سبحانه: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ...} [الأنفال: 12].
والرسول صلى الله عليه وسلم يخبرنا ببعض هذه النعم الباطنة، فيقول: (للمؤمن ثلاثة هي له وليست له- يعني ليست من عمله- أما الأولى: أن المؤمنين يصلون عليه، وأما الثانية فجعل الله له ثلث ماله يوصي به- يعني: لا يتركه للورثة إنما يتصرف هو فيه، وكان المنطق أن تستفيد بما لك وأنت حيٌّ، فإذا ما انتهيت فليس لك منه شيء وينتقل إلى الورثة يوزعه الله تعالى بينهم بالميراث الذي شرعه، فمن النعم أن يباح لك التصرف في ثلث ما لك توصي به لتُكفّر به عن سيئاتك وتُطَهر به ذنوبك- أما الثالثة: أن الله تعالى ستر مساويك عن خَلْقه، ولو فضحك بها لنبذك أهلك وأحبابك وأقرباؤك).
إن من أعظم النعم علينا أن يحجب الله الغيب عن خَلْق الله، ولو خيَّرتَ أيَّ إنسان: أتحب أن تعرف غَيْب الناس ويعرفوا غيبك؟ فلا شكَّ في أنه لن يرضى بذلك أبداً.
والنبي صلى الله عليه وسلم يوضح هذه المسألة في قوله: (لو تكاشفتم ما تدافنتم) يعني: لو ظهر المستور من غيب الإنسان، واطلع الناس على ما في قلبه لتركوه إنْ مات لا يدفنونه، ولقالوا دَعُوه للكلاب تأكله، جزاءً له على ما فعل.
لكن لما ستر الله غيوب الناس وجدنا حتى عدو الإنسان يُسرع بحمله ودفنه، كما قال القائل: محا الموت أسباب العداوة بيننا. لكن من غباء الإنسان أن ينبشَ عن عيوب الآخرين، وأنْ يتتبعَ عوراتهم، فهل ترضى أنْ يعاملك الناس بالمثل، فيتتبعون عوراتك، ويبحثون عن عيوبك؟
ثم إن سيئة واحدة يعرفها الناس عنك كفيلة بأن تُزهَّدهم في كل حسناتك، والله تعالى يريد أنْ ينتفع الناس بعضهم ببعض ليثرى حركة الحياة.
ثم يقول تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ} [لقمان: 20].
المجادلة: الحوار في أمر، لكل طرف فيه جنود، وكل منهم لا يؤمن برأي الآخر، والجدل لا يكون إلا في سبيل الوصول إلى الحقيقة، ويسمونه الجدل الحتمي، وهذا يكون موضوعياً لا لَددَ فيه، ويعتمد على العلم والهدى والكتاب المنير، وفيه نقابل الرأي بالرأي ليثمر الجدال.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ...} [العنكبوت: 46] أما الجدل الذي يريد فيه كل طرف أنْ يُعلي رأيه ولو بالباطل فهو مماراة وسفسطة لا توصل إلى شيء.
والجدل مأخوذ من الجَدْل أي الفَتْل، والشيء حين يُفتل على مثله يقويه، كذلك الرأي في الجدل يُقوِّي الرأي الآخر، فإذا ما انتهيا إلى الصواب تكاتفا على إظهاره وتقويته، فالجدل المراد به تقوية الحق وإظهاره.
فإنْ كان الجدل غير ذلك فهو مماراة يحرص فيها كل طرف على أن يعلي رأيه ولو بالباطل.
والحق سبحانه يبين لنا أن من الناس من أِلفَ الجدل في الله على غير علم ولا هُدىً ولا كتاب منير، فيقولون مثلاً في جدالهم: أللكون إله موجود؟ وإنْ كان موجوداً، أهو واحد أم متعدد؟ وإنْ كان موجوداً أيعلم الجزئيات أم الكليات؟ أيزاول مُلْكه كل وقت؟ أم أنه خلق القوانين، ثم تركها تعمل في الكون وتُسيِّره؟ كأن الله تعالى زاول سلطانه في الملْك مرة واحدة.
ومعلوم أن الله تعالى قيُّوم أي: قائم على أمر الخلَقْ كله في كل وقت، والدليل على ذلك هذه المعجزات التي خرقتْ النواميس لتدلّ على صِدْق الرسل في البلاغ عن الله، كما عرفنا في قصة إحراق إبراهيم- عليه السلام- فلو أن المسألة إنجاء إبراهيم من النار لما مكّنهم الله منه، أو مكَنهم منه ومن إلقائه في النار، ثم أرسل على النار سحابة تُطفِئها.
لكن أراد سبحانه أن يشعلوا النار، وأنْ يُلقوا بإبراهيم فيها، ومع ذلك يخرج منها سالماً ليروْا بأعينهم هذه المعجزة الخارقة لقانون النار ليكبتهم الله، ولا يعطيهم الفرصة ليخدعوا الناس، ولو أفلتَ إبراهيم من قبضتهم لوجودا هذه الفرصة ولقالوا: لو أمسكنا به لفعلنا به كذا وكذا.
ومعنى {بِغَيْرِ عِلْمٍ..} [لقمان: 20] العلم أن تعرف قضية وتجزم بها، وهي واقعة وتستطيع أنْ تُدلِّل عليها، فإنْ كانت القضية التي تؤمن بها غير واقعة، فهذا هو الجهل، فالجاهل لا يوضع في مقابل العالم؛ لأن الجاهل لديه علم بقضية لكنها باطلة، وهذا يتعبك في الإقناع؛ لأنه ليس خالي الذهن، فيحتاج أولاً لأنْ تُخرج من ذهنْه القضية الباطلة وتُحلِ محلها القضية الصحيحة، أما الأُميّ فهو خالي الذِّهن من أي قضيةَ.
فإنْ كانت القضية التي تجزم بها واقعة لكن لا تستطيع أنْ تُدلِّل عليها، كالولد الصغير الذي علمناه أن(الله أحد) واستقرتْ في ذهنه هذه المسألة؛ لأن أباه أو معلمه لقَّنه هذه القضية حتى أصبحتْ عقيدة عنده، فالذي يُدلِّل عليها مَنْ لقنّها له إلى أنْ يكبر، ويستطيع هو أن يُدلِّل عليها.
والعلم أنواع، منها وأولها: العلم البدهي الذي نصل إليه بالبديهة دون بحث، فمثلاً حين نرى الإنسان يتنفس نعلم أنه حيٌّ بالبديهة، ونعلم أن الواحد نصف الاثنين، وأن السماء فوقنا، والأرض تحتنا.. إلخ.
وإذا نظرتَ إلى معلومات الأرض كلها تجد أن أم هذه المعلومات البديهة. فعلم الهندسة مثلاً يقوم على نظريات تستخدم الأولى منها مقدمة لإثبات الثانية، والثانية مقدمة لإثبات الثالثة وهكذا.
فحين تعيد تسلسل النظريات الهندسية فإنك لابد عائد إلى النظرية الأولى وهي بديهة تقول: إذا التقى مستقيم بآخر نتج عن هذا الالتقاء زاويتان قائمتان.
إذن: فأعقد النظريات لابد أن تعود إلى أمر بدهي منثور في كون الله، المهم مَنْ يلتفت إليه، وقد قال الحق سبحانه وتعالى: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105].
فقوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله...} [لقمان