قوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله...} [لقمان: 20] أي: وجوداً وصفاتاً {بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ} [لقمان: 20] يعني: أن الجدل يصحّ إنْ كان بعلم وهدى وكتاب منير، فإنْ كان بغير ذلك فلا يُعَدُّ جدلاً إنما مراء لا طائلَ من ورائه.
ومعنى الهدى: أي الاستدلال بشيء على آخر، كالعربي الذي ضَلَّ في الصحراء، فلما رأى على الرمال بَعْراً وأثراً لأقدام استأنس بها، وعلم أنه على طريق مطروق ولابد أن يمرَّ به أحد، فلما عرضتْ له قضية الإيمان استدل عليها بما رأى فقال: البعرة تدل على البعير، والقدم تدل على المسير، سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، نجوم تزهر، وبحار تزخر.. أَلاَ يدل ذلك على اللطيف الخبير.
فالإنسان حين ينظر في الكون وفي آياته لابد أنْ يصل من خلالها إلى الخالق عز وجل، فما كان لها أنْ تتأتى وحدها، ثم إنه لم يدَّعها أحدٌ لنفسه ممَّنْ ينكرون وجود الله، وقلنا: إن أتفه الأشياء التي نراها لا يمكن ان توجد هكذا بدون صانع، فمثلاً الكوب الذي نشرب فيه، هل رأينا مثلاً شجرة تطرح لنا أكواباً؟
إذن: لابد أن لها صانعاً فكر في الحاجة إليها، فصنعها بعد أنْ كان الإنسان يشرب الماء عباً، أو نزحاً بالكفن وما توصلنا إلى هذا الكوب الرقيق النظيف إلا بعد بحث العلماء في عناصر الوجود، أيها يمكن أنْ يعطيني هذه الزجاجة الشفافة، فوجدوا أنها تُصنَع من الرمل بعد صَهْره تحت درجة حرارة عالية، فهذا الكوب الذي يمكن أنْ نستغني عنه أخذ منا خبرة وقدرة وعلماً.. إلخ.
فما بالك بالشمس التي تنير الكون كله منذ خلق الله هذا الكون دون أنْ تكلّ أو تملَّ أو تتخلف يوماً واحداً، وهي لا تحتاج إلى صيانة ولا إلى قطعة غيار، أليست جديرة بأن نسأل عمَّنْ خلقها وأبدعها على هذه الصورة، خاصة وانها فوق قدرتنا ولا تنالها إمكاناتنا.
هذه هي الآيات التي نأخذها بالأدلة، لكن هذه الأدلة لا تُوصِّلنا إلا إلى أن لهذا الكون بآياته العجيبة خالقاً مبدعاً، لكن العقل لا يصل بي إلى هذا الخالق: مَنْ هو، وما اسمه، إذن: لابد من بلاغ عن الله على يد رسول يبلغنا مَنْ هذا الخالق وما اسمه وما مطلوباته، وماذا أعدّ لمن أطاعه، وماذا أعدَّ لمن عصاه.
وفَرْق بين التعقُّل والتصوُّر، والذي أتعب الفلاسفة أنهم خلطوا بينهما، فالتعقل أن أنظر في آيات الكون، وأرى أن لها موجداً، أمّا التصور فبأنْ أتصور هذا الموجِد: شكله، اسمه، صفاته.. إلخ وهذه لا تتأتى بالعقل، إنما بالرسول الذي يأتي من قِبَل الإله الموجد.
وسبق أن ضربنا مثلاً- ولله تعالى المثل الأعلى- قلنا: لو أننا نجلس في مكان مغلق، وطرق الباب طارق، فكلنا يتفق على أن طارقاً بالباب لا خلاف في هذه، لكن نختلف في تصوُّره، فواحد يتصور انه رجل، وآخر يقول: طفل، وآخر يتصوَّره امرأة، وواحد يتصوره بشيراً، وآخر يتصوره نذيراً.. إلخ.
إذن: اتفقنا في التعقُّل، واختلفنا في التصور، ولكي تعرف مَن الطارق فعلينا أن نقول: من الطارق؟ ليعلن هو عن نفسه ويخبرنا مَنْ هو؟ ولماذا جاء؟ ويُنهي لنا في هذا الخلاف.
كذلك الحق تبارك وتعالى هو الذي يخبرنا عن نفسه، لكن كيف يتم ذلك؟ من خلال رسول من البشر يستطيع أنْ يتجلى الله عليه بالخطاب، بأن يكون مُعدّاً لتلقِّي هذا الخطاب، لا أنْ يخاطب كل الناس.
وقد مثَّلْنا لذلك أيضاً(بلمبة) الكهرباء الصغيرة أو(الراديو) الذي لا يتحمل التيار المباشر، يل يحتاج إلى(ترانس) أو منظم يعطيه الكهرباء على قَدْره وإلا حُرق، فحتى في الماديات لابد من قوي يستقبل ليعطي الضعيف.
والحق سبحانه يُعد من خَلْقه مَنْ يتلقى عنه، ويُبلِّغ الناس، فيكلم الله الملائكة، والملائكة تكلم الرسل من البشر؛ لذلك يقول سبحانه: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً...} [الشورى: 51].
وإلا لو كلَّم الله جميع البشر، فما الحاجة للرسل؟ لذلك لما سُئِل الإمام علي رضي الله عنه: أعرفتَ ربك بمحمد، أم عرفتَ محمداً بربك؟ فقال: لو عرفتُ ربي بمحمد لكان محمد أوثقَ عندي من ربي، ولو عرفتُ محمداً بربي، فما الحاجة إذن للرسل، لكن عرفتُ ربي بربي، وجاء محمد، فبلَّغني مراد ربي منى. إذن: لابد من هذه الواسطة.
والحق سبحانه يعطينا في القرآن مثالاً يوضح هذه المسألة في قوله تعالى عن سيدنا موسى: {قَالَ رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ..} [الأعراف: 143] فبماذا أجابه ربه؟ {قَالَ لَن تَرَانِي...} [الأعراف: 143] ولم يقل سبحانه: أنا لا أُرىَ، والمعنى: لو أعددتُكَ الإعدادَ المناسب لهذه الرؤية لرأيتَ بدليل أننا سنُعَدُّ في الآخرة على هيئة نرى فيها الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22-23].
وفي المقابل يقول عن الكفار الذين سيُحرمون هذه الرؤية {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15].
ثم لما تجلى الحق سبحانه للجبل، وهو الجنس الأقوى من موسى مادةً وصلابة أندكَّ الجبل، ونظر موسى إلى الجبل المتجلَّي عليه فخرَّ صَعقاً، فما بالك لو نظر إلى المتجلِّي سبحانه؟
إذن: الحق سبحانه حينما يريد أنْ يخاطب أحداً من خَلْقه، أو يتجلى عليه يُعِدُّه لذلك، ويُربِّيه على عينه، كما قال عن موسى: {وَلِتُصْنَعَ على عيني} [طه: 39] وقال في موضع آخر: {واصطنعتك لِنَفْسِي} [طه: 41] ثم يقوم هذا المربي الذي رباه الله بتربية الخَلْق.
وقد ربى محمد صلى الله عليه وسلم أمته في ثلاث وعشرين سنة، ولو أن الله تعالى خاطب كل إنسان بالمنهج لاستغرقتْ تربية الناس وقتاً طويلاً؛ لذلك يصطفي الله الرسل، ويعطيهم من الخصائص ما يُمكِّنهم من تربية الأمم بعد أنْ ربَّاهم الله، واصطنعهم على عينه.
إذن: كان ولابد من إرسال الرسل للبلاغ عن الله: مَنْ هو، ما اسمه، ما صفاته؟ ما مطلوباته؟ ماذا أعدَّ لمن اطاعه؟ وماذا أعد لمن عصاه.. إلخ. لذلك فأول دليل على بطلان الشرك أنْ تقول للذي يشرك الشمس أو القمر أو الأصنام مع الله في العبادة: وماذا قالت لك هذه الأشياء؟ ما مطلوباتها؟ ما مرادها منك؟ وإلا، فلماذا تعبدها والعبادة في أوضح معانيها: طاعة العابد لأمر المعبود ونهيه؟
فإنْ قُلْتَ: إذن لماذا قَبِلَتْ عقول هؤلاء القوم أنْ يعبدوا هذه الأشياء؟ نقول: لأن التديُّنَ طبيعة في النفس البشرية ومركوز في الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وسبق أنْ أوضحنا أن كلاً منا فيه ذرة حية من أبيه- عليه السلام- لم يطرأ عليها الفناء، وإلا لما وُجِد الإنسان، وهذه الذرة في كل منا هي التي شهدتْ الفطرة، وشهدتْ الخلقَ، وشهدتْ العهد الذي أخذه الله علينا جميعاً {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ...} [الأعراف: 172].
فإنْ حافظتَ على إشراقية هذه الذرة فيك، ولم تُعرِّضها لما يطمس نورها- ولا يكون ذلك إلا بالسير على منهج خالقك وبناء لبنات جسمه مما أحل الله- إنْ فعلتَ ذلك أنار الله وجهك وبصيرتك.
لذلك جاء في الحديث أن العبد يشكو: يقول (دعوتُ فلم يُستجب لي، لكن أنِّى يستجاب له، ومطعمه من حرام، ومشربه من حرام، وملبسه من حرام؟) كيف وقد طمس الذرة النورانية فيه، وغفل عن قانون صيانتها؟ واقرأ قوله تعالى: {فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى} [طه: 123-124].
فالمعيشة الضنك والعياذ بالله تأتي حين تنطمس النورانية الإيمانية، وحين لا تحافظ على إشراقية هذه الذرة التي شهدتْ خَلْق الله، وشهدتْ له بالربوبية، ولو حافظت عليها لظلّتْ كل التعاليم واضحة أمامك، وما غفلت عن منهج ربك هذه الغفلة التي جرَّتْ عليك المعيشة الضنك، واقرأ قول الله تعالى: {يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً...} [الأنفال: 29] أي: نوراً يهديكم وتُفرِّقون به بين الحق والباطل.
والحق سبحانه يوضح لنا ما يطمس الفطرة الإيمانية، وهما أمران: الغفلة والتي قال الله عنها: {أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172] والقدوة التي قال الله عنها: {إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ...} [الأعراف: 173].
فالذي يطمس الفطرة الإيمانية الغفلة عن المنهج، هذه الغفلة تُوجِد جيلاً لا يتمسك بمنهج الحق، وبذلك تكون العقبة في الجيل الأول الغفلة، لكن في الأجيال اللاحقة الغفلة والقدوة السيئة، وهكذا كلما تنقضي الأجيال تزداد الغفلة، وتزداد القدوة السيئة؛ لذلك يوالي الحق سبحانه إرسال الرسل ليزيح عن الخَلْق هذه الغفلة، وليوجد لهم من جديد قدوةً حسنة، ليقارنوا بين منهج الحق ومنهج الخَلْق.
فمَنْ أراد أنء يجادل في الله فليجادل بعلم وبهدى وبكتاب منير مُنزَّلٍ من عند الله، ووَصْف الكتاب بأنه منير يدلُّنا على أن الكتاب المنسوب إلى الله تعالى لابُدَّ أن يكون منيراً؛ لكنه قد يفقد هذا النور بما يطرأ عليه من تحريف وتبديل ونسيان وكتمان.. إلخ.
وقد أوضح الله تعالى هذه المراحل في قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ...} [الأنعام: 44].
ثم: {يَكْتُمُونَ ما أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى..} [البقرة: 159].
وإن كان الإنسان يُعذَر في النسيان، فلا يُعذَر في الكتمان، ثم الذي نجا من النسيان ومن الكتمان وقع في التحريف {يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ..} [المائدة: 13] ولَيْتهم اقتصروا على ذلك، إنما اختلفوا من عند أنفسهم كلاماً، ثم نسبوه إلى الله: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله...} [البقرة: 79] فأنواع الطمس هذه أربعة ظهرت كلها في اليهود.
إذن: فالكتب التي بأيديهم لا تصلح للجدل في الله؛ لأنها تفقد العلم والحجة والهدى، ولا تُعَدُّ من الكتاب المنير المشرق الذي يخلو من التضبيبات والفجوات، فجوات النسيان والكتمان، والتحريف والاختلاق.
فمَنْ يريد أنْ يجادل في الله فليجادل بناء على علم بدهىٍّ أو هدى استدلالي، أو كتاب منير. والكتب المنزلَّة كثيرة، منها صحف إبراهيم وموسى، ومنها زُبُر الأولين، والزبور نزل على سيدنا داود، والتوراة على موسى، والإنجيل على عيسى- عليهم جميعاً السلام- وهذه كلها كتب من عند الله، لكن هل طرأ عليها حالة عدم الإنارة؟
نقول: نعم، لأنها انطمست بشهوات البشر فيها وبأهوائهم التي شوَّهتها وأخرجتها عن الإشراقية والنورانية التي كانت لها، وهذا نتيجة السلطة الزمنية وهي أقسى شيء في تغيير المناهج.
هذه السلطة الزمنية هي التي منعتْ اليهود أن يؤمنوا برسول الله، وهم يعلمون بعثته في بلاد العرب، ويعلمون موعده وأوصافه، وأنه صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل؛ لذلك يقول القرآن عنهم: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ...} [الأنعام: 20].
ويقول عنهم: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146] لذلك، سيدنا عبدالله بن سلام يقول عن سيدنا رسول الله: والله لقد عرفتُه حين رأيته كمعرفتي لابني، ومعرفتي لمحمد أشد.
ويحكي القرآن عن أهل الكتاب أنهم كانوا يستفتحون برسول الله على الكفار فيقولون لهم: لقد أظل زمان نبي جديد نسبقكم إليه، ونقتلكم به قتل عاد وإرم {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين} [البقرة: 89].
لماذا؟ لأنهم يعلمون أنه سيسلبهم المكانة التي كانت لهم، والريادة التي أخذوها في العلم والاقتصاد والحرب.. إلخ، لقد كانوا يُعِدُّون واحداً منهم ليُنصِّبوه ملكاً عليهم في المدينة ليلة هاجر إليها رسول الله، فلما دخلها رسول الله لم تًعُد لأحد مكانة الريادة بعد رسول الله، فرفض هذا الملك الجديد.
إذن: فكل الكتب السماوية لحقها التحريف والتغيير، فلم يضمن لها الحق سبحانه الصيانات التي تحميها كما حمى القرآن، وما ذاك إلا ليظهر شرف النبي الخاتم، فالكتب السابقة للقرآن جاءت كتبَ أحكام، ولم تكن معجزة في ذاتها، فالرسل السابقون كانت لهم معجزات منفصلة عن الكتب وعن المنهج