يَـَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ الّذِينَ اتّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مّنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفّارَ أَوْلِيَآءَ وَاتّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مّؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصّلاَةِ اتّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاّ يَعْقِلُونَ
هذا تنفير من موالاة أعداء الإسلام وأهله من الكتابيين والمشركين، الذين يتخذون أفضل ما يعمله العاملون: وهي شرائع الإسلام المطهرة المحكمة، المشتملة على كل خير دنيوي وأخروي، يتخذونها هزواً يستهزئون بها، ولعباً يعتقدون أنها نوع من اللعب في نظرهم الفاسد، وفكرهم البارد، كما قال القائل
وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم
وقوله تعالى: {من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار} من ههنا لبيان الجنس كقوله {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} وقرأ بعضهم: والكفار بالخفض عطفاً، وقرأ آخرون بالنصب على أنه معمول، {لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} تقديره ولا {الكفار أولياء} أي لا تتخذوا هؤلاء ولا هؤلاء أولياء، والمراد بالكفار ههنا المشركون، وكذلك وقع في قراءة ابن مسعود فيما رواه ابن جرير {لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا}
وقوله {واتقوا الله إن كنتم مؤمنين} أي اتقوا الله أن تتخذوا هؤلاء الأعداء لكم ولدينكم أولياء إن كنتم مؤمنين بشرع الله الذي اتخذه هؤلاء هزواً ولعباً، كما قال تعالى: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شي إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير}
وقوله: {وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزواً ولعباً} أي وكذلك إذا أذنتم داعين إلى الصلاة التي هي أفضل الأعمال لمن يعقل ويعلم من ذوي الألباب {اتخذوها} أيضاً {هزواً ولعباً ذلك بأنهم قوم لا يعقلون} معاني عبادة الله وشرائعه، وهذه صفات أتباع الشيطان الذي «إذا سمع الأذان أدبر وله حصاص، أي ضراط، حتى لا يسمع التأذين فإذا قضي التأذين، أقبل فإذا ثوب للصلاة أدبر، فإذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء وقلبه، فيقول: اذكر كذا اذكر كذا، لما لم يكن يذكر حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى، فإذا وجد أحدكم ذلك، فليسجد سجدتين قبل السلام» متفق عليه، وقال الزهري: قد ذكر الله التأذين في كتابه فقال {وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزواً ولعباً ذلك بأنهم قوم لا يعقلون} رواه ابن أبي حاتم
وقال أسباط عن السدي في قوله {وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزواً ولعباً} قال: كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي: أشهد أن محمداً رسول الله قال: حرق الكاذب، فدخلت خادمة ليلة من الليالي بنار وهو نائم، وأهله نيام، فسقطت شرارة فأحرقت البيت، فاحترق هو وأهله، رواه ابن جرير و ابن أبي حاتم وذكر محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة عام الفتح ومعه بلال، فأمره أن يؤذن، وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، فقال عتاب بن أسيد، لقد أكرم الله أسيداً أن لا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه، وقال الحارث بن هشام: أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته، فقال أبو سفيان: لا أقول شيئاً لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى، فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال «قد علمت الذي قلتم» ثم ذكر ذلك لهم، فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول: أخبرك
وقال الإمام أحمد: حدثنا روح بن عبادة، حدثنا ابن جريج، أخبرنا عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة أن عبد الله بن محيريز أخبره وكان يتيماً في حجر أبي محذورة، قال: قلت لأبي محذورة: يا عم إني خارج إلى الشام، وأخشى أن أسأل عن تأذينك، فأخبرني أن أبا محذورة قال له: نعم، خرجت في نفر وكنا في بعض طريق حنين مقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين، فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق، فأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسمعنا صوت المؤذن ونحن متنكبون، فصرخنا نحكيه ونستهزىء به فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إلينا إلى أن وقفنا بين يديه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع» ؟ فأشار القوم كلهم إليّ وصدقوا، فأرسل كلهم وحبسني، وقال «قم فأذن» فقمت ولا شيء أكره إليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مما يأمرني به، فقمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فألقى عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين هو بنفسه، قال «قل الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله» ثم دعاني حين قضيت التأذين فأعطاني صرة فيها شيء من فضة ثم وضع يده على ناصية أبي محذورة، ثم أمَرّها على وجهه، ثم بين ثدييه، ثم على كبده، حتى بلغت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم سرة أبي محذورة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بارك الله فيك وبارك عليك» فقلت: يا رسول الله مرني بالتأذين بمكة، فقال «قد أمرتك به»، وذهب كل شيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهة، وعاد ذلك كله محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقدمت على عتاب بن أسيد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذنت معه بالصلاة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخبرني ذلك من أدركت من أهلي ممن أدرك أبا محذورة على نحو ما أخبرني عبد الله بن محيريز عن أبي محذورة واسمه سمرة بن معير بن لوذان، أحد مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم الأربعة، وهو مؤذن أهل مكة، وامتدت أيامه رضي الله عنه وأرضاه
قُلْ يَـَأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنّآ إِلاّ أَنْ آمَنّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ * قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطّاغُوتَ أُوْلَـَئِكَ شَرّ مّكَاناً وَأَضَلّ عَن سَوَآءِ السّبِيلِ * وَإِذَا جَآءُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنّا وَقَدْ دّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ * وَتَرَىَ كَثِيراً مّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرّبّانِيّونَ وَالأحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ
يقول تعالى: قل يا محمد لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من أهل الكتاب: {هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل} أي هل لكم علينا مطعن أو عيب إلا هذا ؟ وهذا ليس بعيب ولا مذمة، فيكون الاستثناء منقطعاً، كما في قوله تعالى: {وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد}، وكقوله: {وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله} وفي الحديث المتفق عليه «ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيراً فأغناه الله»، وقوله {وأن أكثركم فاسقون} معطوف على {أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل} أي وآمنا بأن أكثركم فاسقون، أي خارجون عن الطريق المستقيم
ثم قال {قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله} أي هل أخبركم بشر جزاء عند الله يوم القيامة مما تظنونه بنا ؟ وهم أنتم الذين هم متصفون بهذه الصفات المفسرة بقوله {من لعنه الله} أي أبعده من رحمته {وغضب عليه} أي غضباً لا يرضى بعده أبداً {وجعل منهم القردة والخنازير} كما تقدم بيانه في سورة البقرة، وكما سيأتي إيضاحه في سورة الأعراف، وقد قال سفيان الثوري، عن علقمة بن مرثد، عن المغيرة بن عبد الله، عن المعرور بن سويد، عن ابن مسعود قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير: أهي مما مسخ الله ؟ فقال «إن الله لم يهلك قوماً، أو لم يمسخ قوماً فيجعل لهم نسلاً ولا عقباً، وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك» وقد رواه مسلم من حديث سفيان الثوري ومسعر، كلاهما عن مغيرة بن عبد الله اليشكري به، وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا داود بن أبي الفرات، عن محمد بن زيد، عن أبي الأعين العبدي، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير: أهي من نسل اليهود ؟ فقال «لا إن الله لم يلعن قوماً قط فيمسخهم، فكان لهم نسل ولكن هذا خلق كان، فلما غضب الله على اليهود فمسخهم جعلهم مثلهم»، ورواه أحمد من حديث داود بن أبي الفرات به، وقال ابن مردويه: حدثنا عبد الباقي، حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا الحسن بن محبوب، حدثنا عبد العزيز بن المختار عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الحيات مسخ الجن كما مسخت القردة والخنازير» هذا حديث غريب جداً
وقوله تعالى: {وعبد الطاغوت} قرىء: وعَبَدَ الطاغوتَ على أنه فعل ماض، والطاغوت منصوب به، أي وجعل منهم من عَبَدَ الطاغوت، وقرىء: وعَبَدَ الطَاغوتِ بالإضافة على أن المعنى وجعل منهم خدم الطاغوت، أي خدامه وعبيده، وقرىء: وعُبُدَ الطاغوتِ على أنه جمع الجمع عبد وعبيد، وعبد مثل ثمار وثُمُرْ، حكاها ابن جرير عن الأعمش، وحكى عن بريدة الأسلمي أنه كان يقرؤها وعابد الطاغوت، وعن أبي وابن مسعود: وعبدوا، وحكى ابن جرير عن أبي جعفر القارىء أنه كان يقرؤها: وعُبِدَ الطاغوتُ على أنه مفعول ما لم يسم فاعله، ثم استبعد معناها، والظاهر أنه لا بعد في ذلك، لأن هذا من باب التعريض بهم، أي وقد عبد الطاغوت فيكم وأنتم الذين فعلتموه، وكل هذه القراءات يرجع معناها إلى أنكم يا أهل الكتاب الطاعنين في ديننا والذي هو توحيد الله وإفراده بالعبادات دون ما سواه، كيف يصدر منكم هذا، وأنتم قد وجد منكم جميع ما ذكر ؟ ولهذا قال {أولئك شر مكاناً} أي مما تظنون بنا {وأضل عن سواء السبيل} وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرف الاَخر مشاركة، كقوله عز وجل: {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقر وأحسن مقيلاً}
وقوله تعالى: {وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به} وهذه صفة المنافقين منهم أنهم يصانعون المؤمنين في الظاهر وقلوبهم منطوية على الكفر، ولهذا قال {وقد دخلوا} أي عندك يا محمد {بالكفر} أي مستصحبين الكفر في قلوبهم، ثم خرجوا وهو كامن فيها لم ينتفعوا بما قد سمعوا منك من العلم، ولا نجعت فيهم المواعظ ولا الزواجر ولهذا قال {وهم قد خرجوا به} فخصهم به دون غيرهم، وقوله تعالى: {والله أعلم بما كانوا يكتمون} أي والله عالم بسرائرهم وما تنطوي عليه ضمائرهم، وإن أظهروا لخلقه خلاف ذلك، وتزينوا بما ليس فيهم، فإن الله عالم الغيب و الشهادة أعلم بهم منهم، وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء وقوله {وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت} أي يبادرون إلى ذلك من تعاطي المآثم والمحارم والاعتداء على الناس وأكلهم أموالهم بالباطل، {لبئس ما كانوا يعملون}، أي لبئس العمل كان عملهم، وبئس الاعتداء اعتداؤهم
وقوله تعالى: {لو لا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون} يعني هلا كان ينهاهم الربانيون والأحبار عن تعاطي ذلك، والربانيون هم العلماء العمال أرباب الولايات عليهم، والأحبار هم العلماء فقط {لبئس ما كانوا يصنعون} يعني من تركهم ذلك، قاله علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال لهؤلاء حين لم ينهوا ولهؤلاء حين علموا، قال: وذلك الأمر كان، قال: ويعملون ويصنعون واحد، رواه ابن أبي حاتم، وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا ابن عطية، حدثنا قيس عن العلاء بن المسيب، عن خالد بن دينار، عن ابن عباس، قال: ما في القرآن آية أشد توبيخاً من هذه الاَية {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون} قال: كذا قرأ وكذا قال الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها، إنا لا ننهىَ، رواه ابن جرير
وقال ابن أبي حاتم، ذكره يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، حدثنا محمد بن مسلم بن أبي الوضاح، حدثنا ثابت أبو سعيد الهمداني قال لقيته بالري فحدث عن يحيى بن يعمر قال: خطب علي بن أبي طالب فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إنما هلك من كان قبلكم بركوبهم المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار، فلما تمادوا في المعاصي أخذتهم العقوبات فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم، واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقاً ولا يقرب أجلاً، وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا شريك عن أبي إسحاق عن المنذر بن جرير، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي هم أعز منه وأمنع، ولم يغيروا إلا أصابهم الله منه بعذاب» تفرد به أحمد من هذاالوجه، ورواه أبو داود عن مسدد، عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن المنذر بن جرير، عن جرير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون أن يغيروا عليه، فلا يغيرون إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا» وقد رواه ابن ماجه عن علي بن محمد، عن وكيع عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبيد الله بن جرير، عن أبيه به، قال الحافظ المزي: وهكذا رواه شعبة عن أبي إسحاق به
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ وَلَيَزِيدَنّ كَثِيراً مّنْهُم مّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الْمُفْسِدِينَ * وَلَوْ أَنّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتّقَوْاْ لَكَفّرْنَا عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنّاتِ النّعِيمِ * وَلَوْ أَنّهُمْ أَقَامُواْ التّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رّبّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مّنْهُمْ أُمّةٌ مّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ
يخبر تعالى عن اليهود ـ عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة ـ بأنهم وصفوا الله عز وجل وتعالى عن قولهم علواً كبيراً بأنه بخيل، كما وصفوه بأنه فقير وهم أغنياء وعبروا عن البخل بأن قالوا {يد الله مغلولة}. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبد الله الطهراني، حدثنا حفص بن عمر العدني، حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة قال: قال ابن عباس {مغلولة} أي بخيلة، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله {وقالت اليهود يد الله مغلولة} قال: لا يعنون بذلك أن يد الله موثقة، ولكن يقولون: بخيل يعني أمسك ما عنده تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً، وكذا روي عن مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي والضحاك، وقرأ {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً} يعني أنه ينهى عن البخل وعن التبذير، وهو زيادة الإنفاق في غير محله، وعبر عن البخل بقوله {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك} وهذا هو الذي أراد هؤلاء اليهود عليهم لعائن الله، وقد قال عكرمة: إنها نزلت في فنحاص اليهودي، عليه لعنة الله، وقد تقدم أنه الذي قال {إن الله فقير ونحن أغنياء} فضربه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وقال محمد بن إسحاق: حدثنا محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رجل من اليهود يقال له شاس بن قيس إن ربك بخيل لا ينفق، فأنزل الله {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء} وقد ردّ الله عز وجل عليهم ما قالوه وقابلهم فيما اختلقوه وافتروه وائتفكوه، فقال {غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا} وهكذا وقع لهم، فإن عندهم من البخل والحسد والجبن والذلة أمر عظيم، كما قال تعالى: {أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيراً أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله} الاَية، وقال تعالى: {ضربت عليهم الذلة} الاَية
ثم قال تعالى: {بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء} أي بل هو الواسع الفضل، الجزيل العطاء، الذي ما من شيء إلا عنده خزائنه، وهو الذي ما بخلقه من نعمة فمنه وحده لا شريك له، الذي خلق لنا كل شيء مما نحتاج إليه، في ليلنا ونهارنا، وحضرنا وسفرنا، وفي جميع أحوالنا، كما قال {وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار} والاَيات في هذا كثيرة، وقد قال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه ـ قال ـ: وعرشه على الماء وفي يده الأخرى الفيض يرفع ويخفض. وقال : يقول الله تعالى: «أنفق، أنفق عليك» أخرجاه في الصحيحين، البخاري في التوحيد عن علي بن المديني، ومسلم فيه عن محمد بن رافع، كلاهما عن عبد الرزاق به
وقوله تعالى: {وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً} أي يكون ما آتاك الله يا محمد من النعمة نقمة في حق أعدائك من اليهود وأشباههم، فكما يزداد به المؤمنون تصديقاً وعملاً صالحاً وعلماً نافعاً، يزداد به الكافرون الحاسدون لك ولأمتك طغياناً، وهو المبالغة والمجاوزة للحد في الأشياء، وكفراً أي تكذيباً، كما قال تعالى: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد} وقال تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً}، وقوله تعالى: {وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة} يعني أنه لا تجتمع قلوبهم بل العداوة واقعة بين فرقهم بعضهم في بعض دائماً، لأنهم لا يجتمعون على حق، وقد خالفوك وكذبوك، وقال إبراهيم النخعي: {وألقينا بينهم العداوة والبغضاء}، قال: الخصومات والجدال في الدين، رواه ابن أبي حاتم
وقوله {كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله} أي كلما عقدوا أسباباً يكيدونك بها، وكلما أبرموا أموراً يحاربونك بها، أبطلها الله ورد كيدهم عليهم، وحاق مكرهم السيء بهم {ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين} أي من سجيتهم أنهم دائماً يسعون في الإفساد في الأرض، والله لا يحب من هذه صفته، ثم قال جلا وعلا: {ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا} أي لو أنهم آمنوا بالله ورسوله واتقوا ما كانوا يتعاطونه من المآثم والمحارم {لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم} أي لأزلنا عنهم المحذور وأنلناهم المقصود، {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم} قال ابن عباس وغيره: هو القرآن، {لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} أي لو أنهم عملوا بما في الكتب التي بأيديهم عن الأنبياء على ما هي عليه من غير تحريف ولا تبديل ولا تغيير، لقادهم ذلك إلى اتباع الحق والعمل بمقتضى ما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم ، فإن كتبهم ناطقة بتصديقه والأمر باتباعه حتماً لا محالة
وقوله تعالى: {لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} يعني بذلك كثرة الرزق النازل عليهم من السماء والنابت لهم من الأرض، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {لأكلوا من فوقهم} يعني لأرسل السماء عليهم مدراراً، {ومن تحت أرجلهم} يعني يخرج من الأرض بركاتها، وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة والسدي، كما قال تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} الاَية
وقال تعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس} الاَية، وقال بعضهم معناه {لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} يعني من غير كد ولا تعب ولا شقاء ولا عناء. وقال ابن جرير: قال بعضهم: معناه لكانوا في الخير كما يقول القائل: هو في الخير من فرقه إلى قدمه، ثم رد هذا القول لمخالفته أقوال السلف
وقد ذكر ابن أبي حاتم عند قوله {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل} حديث علقمة عن صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «يوشك أن يرفع العلم» فقال زياد بن لبيد: يا رسول الله، وكيف يرفع العلم وقد قرأنا القرآن وعلمناه أبناءنا ؟ فقال «ثكلتك أمك يا ابن لبيد إن كنت لأراك من أفقه أهل المدينة، أو ليست التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى، فما أغنى عنهم حين تركوا أمر الله» ثم قرأ {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل} هكذا أورده ابن أبي حاتم معلقاً من أول إسناده مرسلاً في آخره. وقد رواه الإمام أحمد بن حنبل متصلاً موصولاً، فقال: حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش عن سالم بن أبي الجعد، عن زياد بن لبيد أنه قال ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، فقال «وذاك عند ذهاب العلم» قال: قلنا: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن، ونقرئه أبناءنا، وأبناؤنا يقرؤونه أبناءهم إلى يوم القيامة ؟ فقال «ثكلتك أمك يا ابن أم لبيد، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء» هكذا رواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع بإسناده نحوه، هذا إسناد صحيح
وقوله تعالى: {منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون} كقوله {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} وكقوله عن أتباع عيسى {فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم} الاَية، فجعل أعلى مقاماتهم الاقتصاد وهو أوسط مقامات هذه الأمة وفوق ذلك رتبة السابقين، كما في قوله عز وجل: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير جنات عدن يدخلونها} الاَية، والصحيح أن الأقسام الثلاثة من هذه الأمة كلهم يدخلون الجنة، وقد قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا أحمد بن يونس الضبي، حدثنا عاصم بن عدي حدثنا أبو معشر، عن يعقوب بن يزيد بن طلحة، عن زيد بن أسلم، عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال «تفرقت أمة موسى على إحدى وسبعين ملة: سبعون منها في النار، وواحدة في الجنة، وتفرقت أمة عيسى على ثنتين وسبعين ملة: واحدة في الجنة، وإحدى وسبعون منها في النار، وتعلو أمتي على الفرقتين جميعاً واحدة في الجنة، وثنتان وسبعون في النار» قالوا: من هم يا رسول الله ؟ قال «الجماعات الجماعات». قال يعقوب بن زيد: كان علي بن أبي طالب إذا حدث بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا فيه قرآناً، قال {ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم} إلى قوله تعالى: {منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون} وتلا أيضاً قوله تعالى: {وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهذا حديث غريب جداً من هذا الوجه وبهذا السياق، وحديث افتراق الأمم إلى بضع وسبعين مروي من طرق عديدة، وقد ذكرناه في موضع آخر ولله الحمد والمنة
يَـَأَيّهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ وَإِن لّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ
يقول تعالى مخاطباً عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم باسم الرسالة، وآمراً له بإبلاغ جميع ما أرسله الله به، وقد امتثل عليه أفضل الصلاة والسلام ذلك، وقام به أتم القيام، قال البخاري عند تفسير هذه الاَية: حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان عن إسماعيل، عن الشعبي عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: من حدثك أن محمداً كتم شيئاً مما أنزل الله عليه فقد كذب، الله يقول {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} الاَية، هكذا رواه هاهنا مختصراً وقد أخرجه في مواضع من صحيحه مطولاً، وكذا رواه مسلم في كتابي الإيمان، والترمذي والنسائي في كتاب التفسير من سننهما من طرق عن عامر الشعبي، عن مسروق بن الأجدع، عنها رضي الله عنها، وفي الصحيحين عنها أيضاً أنها قالت: لو كان محمداً صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من القرآن لكتم هذه الاَية {وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه}
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور الرمادي: حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عباد عن هارون بن عنترة، عن أبيه قال: كنا عند ابن عباس، فجاء رجل فقال له: إن ناساً يأتونا فيخبروننا أن عندكم شيئاً لم يبده رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس فقال ابن عباس: ألم تعلم أن الله تعالى قال: {يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك} والله ما ورثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء في بيضاء، وهذا إسناد جيد، وهكذا في صحيح البخاري من رواية أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي قال: قلت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن ؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في هذه الصحيفة ؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر
وقال البخاري: قال الزهري: من الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم، وقد شهدت له أمته بإبلاغ الرسالة وأداء الأمانة، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل في خطبته يوم حجة الوداع، وقد كان هناك من أصحابه نحو من أربعين ألفاً، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يومئذ «أيها الناس إنكم مسؤولون عني، فما أنتم قائلون ؟» قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فجعل يرفع أصبعه إلى السماء وينكسها إليهم ويقول «اللهم هل بلغت» ؟. قال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير، حدثنا فضيل يعني ابن غزوان، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع. «يا أيها الناس» أي يوم هذا ؟ قالوا: يوم حرام، قال أي بلد هذا ؟ قالوا: بلد حرام، قال أي شهر هذا ؟ قالوا: شهر حرام، قال: «فإن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا» ثم أعادها مراراً، ثم رفع أصبعه إلى السماء فقال «اللهم هل بلغت ؟» مراراً. قال: يقول ابن عباس: والله لوصية إلى ربه عز وجل، ثم قال «ألا فليبلغ الشاهد الغائب: لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» وقد روى البخاري عن علي بن المديني، عن يحيى بن سعيد، عن فضيل بن غزوان به نحوه
وقوله تعالى: {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} يعني وإن لم تؤد إلى الناس ما أرسلتك به، فما بلغت رسالته، أي وقد علم ما يترتب على ذلك لو وقع وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} يعني إن كتمت آية مما أنزل إليك من ربك لم تبلغ رسالته، قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا قبيصة بن عقبة، حدثنا سفيان عن رجل، عن مجاهد قال: لما نزلت {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} قال: يا رب، كيف أصنع وأنا وحدي يجتمعون عليّ ؟ فنزلت {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} ورواه ابن جرير من طريق سفيان وهو الثوري به
وقوله تعالى: {والله يعصمك من الناس} أي بلغ أنت رسالتي وأنا حافظك وناصرك ومؤيدك على أعدائك ومظفرك بهم، فلا تخف ولا تحزن فلن يصل أحد منهم إليك بسوء يؤذيك، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول هذه الاَية يحرس، كما قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا يحيى قال: سمعت عبد الله بن عامر بن ربيعة يحدث أن عائشة رضي الله عنها كانت تحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سهر ذات ليلة وهي إلى جنبه قالت: فقلت ما شأنك يا رسول الله ؟ قال «ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة» قالت: فبينا أنا على ذلك، إذ سمعت صوت السلاح، فقال «من هذا ؟» فقال: أنا سعد بن مالك. فقال: «ما جاء بك ؟» قال: جئت لأحرسك يا رسول الله. قالت
فسمعت غطيط رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه، أخرجاه في الصحيحين من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري به، وفي لفظ: سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة مقدمه المدينة يعني على أثر هجرته بعد دخوله بعائشة رضي الله عنها، وكان ذلك في سنة ثنتين منها
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا إبراهيم بن مرزوق البصري، نزيل مصر، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا الحارث بن عبيد يعني أبا قدامة عن الجريري، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه الاَية {والله يعصمك من الناس} قالت: فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة وقال «يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله عز وجل» وهكذا رواه الترمذي عن عبد بن حميد، وعن نصر بن علي الجهضمي، كلاهما عن مسلم بن إبراهيم به، ثم قال: وهذا حديث غريب، وهكذا رواه ابن جرير والحاكم في مستدركه من طريق مسلم بن إبراهيم به، قال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وكذا رواه سعيد بن منصور عن الحارث بن عبيد أبي قدامة عن الجريري، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة به، ثم قال الترمذي: وقد روى بعضهم هذا عن الجريري عن ابن شقيق، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه الاَية، ولم يذكر عائشة. قلت: هكذا رواه ابن جرير من طريق إسماعيل بن علية، وابن مردويه من طريق وهيب، كلاهما عن الجريري عن عبد الله بن شقيق مرسلاً، وقد روى هذا مرسلا عن سعيد بن جبير ومحمد بن كعب القرظي، رواهما ابن جرير، والربيع بن أنس، رواه ابن مردويه، ثم قال: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا أحمد بن رشدين المصري، حدثنا خالد بن عبد السلام الصدفي، حدثنا الفضل بن المختار عن عبد الله بن موهب، عن عصمة بن مالك الخظمي قال: كنا نحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل. حتى نزلت {والله يعصمك من الناس} فترك الحرس، حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا حمد بن محمد بن حمد أبو نصر الكاتب البغدادي، حدثنا كردوس بن محمد الواسطي، حدثنا يعلى بن عبد الرحمن عن فضيل بن مرزوق عن عطية، عن أبي سعيد الخدري، قال: كان العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن يحرسه، فلما نزلت هذه الاَية {والله يعصمك من الناس} ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرس. حدثنا علي بن أبي حامد المديني، حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد، حدثنا محمد بن مفضل بن إبراهيم الأشعري، حدثنا أبي، حدثنا محمد بن معاوية بن عمار، حدثنا أبي قال: سمعت أبا الزبير المكي يحدث عن جابر بن عبد الله، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج بعث معه أبو طالب من يكلؤه حتى نزلت {والله يعصمك من الناس} فذهب ليبعث معه، فقال «يا عم إن الله قد عصمني لا حاجة لي إلى من تبعث» وهذا حديث غريب وفيه نكارة، فإن هذه الاَية مدنية، وهذا الحديث يقتضي أنها مكية، ثم قال: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا أبو كريب، حدثنا عبد الحميد الحماني عن النضر، عن عكرمة عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس فكان أبو طالب يرسل إليه كل يوم رجالاً من بني هاشم يحرسونه حتى نزلت عليه هذه الاَية {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} قال: فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه، فقال: «إن الله قد عصمني من الجن والإنس»، ورواه الطبراني عن يعقوب بن غيلان العماني، عن أبي كريب به،
وهذا أيضاً حديث غريب، والصحيح أن هذه الاَية مدنية بل هي من أواخر ما نزل بها، والله أعلم، ومن عصمة الله لرسوله، حفظه له من أهل مكة وصناديدها وحسادها ومعانديها ومترفيها، مع شدة العداوة والبغضة، ونصب المحاربة له ليلاً ونهاراً، بما يخلقه الله من الأسباب العظيمة بقدرته وحكمته العظيمة، فصانه في ابتداء الرسالة بعمه أبي طالب إذ كان رئيساً مطاعاً كبيراً في قريش، وخلق الله في قلبه محبة طبيعية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا شرعية، ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفارها وكبارها، ولكن لما كان بينه وبينهم قدر مشترك في الكفر هابوه واحترموه، فلما مات عمه أبو طالب، نال منه المشركون أذي يسيراً، ثم قيض الله له الأنصار فبايعوه على الإسلام وعلى أن يتحول إلى دارهم وهي المدينة، فلما صار إليها، منعوه من الأحمر والأسود، وكلما هم أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوء كاده الله، ورد كيده عليه، كما كاده اليهود بالسحر فحماه الله منهم، وأنزل عليه سورتي المعوذتين دواء لذلك الداء، ولما سمه اليهود في ذراع تلك الشاة بخيبر، أعلمه الله به وحماه منه، ولهذا أشباه كثيرة جداً يطول ذكرها، فمن ذلك ماذكره المفسرون عند هذه الاَية الكريمة
فقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا أبو معشر عن محمد بن كعب القرظي، وغيره، قالوا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلاً اختار له أصحابه شجرة ظليلة فيقيل تحتها، فأتاه أعرابي فاخترط سيفه، ثم قال: من يمنعك مني ؟ فقال « الله عز وجل» فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف منه، وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه، فأنزل الله عز وجل: {والله يعصمك من الناس}. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا موسى بن عبيدة، حدثني زيد بن أسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أنمار، نزل ذات الرقاع بأعلى نخل، فبينا هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه، فقال غورث بن الحارث من بني النجار: لأقتلن محمداً، فقال له أصحابه: كيف تقتله ؟ قال: أقول له: أعطني سيفك، فإذا أعطانيه، قتلته به، قال: فأتاه. فقال: يا محمد، أعطني سيفك أشيمه، فأعطاه إياه، فرعدت يده حتى سقط السيف من يده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «حال الله بينك وبين ما تريد»، فأنزل الله عز وجل: {يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وقصة غورث بن الحارث مشهورة في الصحيح
وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا أبو عمرو بن أحمد بن محمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن عبد الوهاب، حدثنا آدم، حدثنا حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: كنا إذا صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر تركنا له أعظم شجرة وأظلها، فينزل تحتها، فنزل ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه فيها، فجاء رجل فأخذه، فقال: يا محمد من يمنعك مني ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « الله يمنعني منك ضع السيف» فوضعه، فأنزل الله عز وجل: {والله يعصمك من الناس} وكذا رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه عن عبد الله بن محمد، عن إسحاق بن إبراهيم، عن المؤمل بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة به
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، سمعت أبا إسرائيل، يعني الجشمي، سمعت جعدة هو ابن خالد بن الصمة الجشمي رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ورأى رجلاً سميناً، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يومىء إلى بطنه بيده ويقول «لو كان هذا في غير هذا، لكان خيراً لك» قال: وأتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل، فقيل: هذا أراد أن يقتلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : «لم ترع ولو أردت ذلك لم يسلطك الله علي». وقوله {إن الله لا يهدي القوم الكافرين} أي بلغ أنت والله هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء، كما قال تعالى: {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء} وقال {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب}
قُلْ يَـَأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَىَ شَيْءٍ حَتّىَ تُقِيمُواْ التّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مّن رّبّكُمْ وَلَيَزِيدَنّ كَثِيراً مّنْهُمْ مّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ وَالصّابِئُونَ وَالنّصَارَىَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
يقول تعالى: قل يا محمد «يا أهل الكتاب لستم على شيء} أي من الدين حتى تقيموا التوراة والإنجيل، أي حتى تؤمنوا بجميع ما بأيديكم من الكتب المنزلة من الله على الأنبياء، وتعملوا بما فيها، ومما فيها الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان بمبعثه، والاقتداء بشريعته، ولهذا قال ليث بن أبي سليم عن مجاهد: في قوله {وما أنزل إليكم من ربكم}: يعني القرآن العظيم، وقوله {وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً} تقدم تفسيره، {فلا تأس على القوم الكافرين} أي فلا تحزن عليهم، ولا يهيدنّك ذلك منهم، ثم قال {إن الذين آمنوا} وهم المسلمون، {والذين هادوا} وهم حملة التوراة، {والصابئون} لما طال الفصل حسن العطف بالرفع، والصابئون طائفة من النصارى و المجوس ليس لهم دين، قاله مجاهد، وعنه: من اليهود والمجوس، وقال سعيد بن جبير: من اليهود والنصارى، وعن الحسن والحكم: إنهم كالمجوس، وقال قتادة: هم قوم يعبدون الملائكة، ويصلون إلى غير القبلة، ويقرءون الزبور
وقال وهب بن منبه: هم قوم يعرفون الله وحده، وليست لهم شريعة يعملون بها، ولم يحدثوا كفراً، وقال ابن وهب: أخبرني ابن أبي الزناد عن أبيه، قال: الصابئون هم قوم مما يلي العراق، وهم بكوثى، وهم يؤمنون بالنبيين كلهم، ويصومون كل سنة ثلاثين يوماً، ويصلون إلى اليمن كل يوم خمس صلوات، وقيل غير ذلك، وأما النصارى فمعروفون وهم حملة الإنجيل، والمقصود أن كل فرقة آمنت بالله واليوم الاَخر وهو الميعاد والجزاء يوم الدين، وعملت عملاً صالحاً، ولا يكون ذلك كذلك حتى يكون موافقاً للشريعة المحمدية بعد إرسال صاحبها المبعوث إلى جميع الثقلين فمن اتصف بذلك فلا خوف عليهم فيما يستقبلونه، ولا على ما تركوا وراء ظهورهم، ولا هم يحزنون، وقد تقدم الكلام على نظيرتها في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته ههنا
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىَ أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ * وَحَسِبُوَاْ أَلاّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمّواْ ثُمّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ثُمّ عَمُواْ وَصَمّواْ كَثِيرٌ مّنْهُمْ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
يذكر تعالى أنه أخذ العهود والمواثيق على بني إسرائيل على السمع والطاعة لله ولرسوله، فنقضوا تلك العهود والمواثيق واتبعوا آراءهم وأهواءهم، وقدموها على الشرائع، فما وافقهم منها قبلوه وما خالفهم ردوه، ولهذا قال تعالى: {كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون وحسبوا أن لا تكون فتنة} أي وحسبوا أن لايترتب لهم شر على ما صنعوا، فترتب، وهو أنهم عموا عن الحق وصموا فلا يسمعون حقاً ولا يهتدون إليه، ثم تاب الله عليهم، أي مما كانوا فيه، ثم {عموا وصموا} أي بعد ذلك، {كثير منهم والله بصير بما يعملون} أي مطلع عليهم وعليم بمن يستحق ا لهداية ممن يستحق الغواية منهم
لَقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوَاْ إِنّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِيَ إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ إِنّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنّةَ وَمَأْوَاهُ النّارُ وَمَا لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * لّقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوَاْ إِنّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـَهٍ إِلاّ إِلَـَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لّمْ يَنتَهُواْ عَمّا يَقُولُونَ لَيَمَسّنّ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَىَ اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ * مّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرّسُلُ وَأُمّهُ صِدّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيّنُ لَهُمُ الاَيَاتِ ثُمّ انْظُرْ أَنّىَ يُؤْفَكُونَ