تفسير سورة المائدة
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا أبو معاوية شيبان عن ليث، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد، قالت: إني لاَخذة بزمام العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ نزلت عليه المائدة كلها، وكادت من ثقلها تدق عضد الناقة. وروى ابن مردويه من حديث صباح بن سهل، عن عاصم الأحول، قال: حدثتني أم عمرو عن عمها أنه كان في مسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت عليه سورة المائدة، فاندق عنق الراحلة من ثقلها. وقال أحمد أيضاً: حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثني حيي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو، قال: أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله، فنزل عنها، تفرد به أحمد. وقد روى الترمذي عن قتيبة، عن عبد الله بن وهب، عن حيي، عن أبي عبد الرحمن، عن عبد الله بن عمرو، قال: آخر سورة أنزلت سورة المائدة والفتح، ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وقد روي عن ابن عباس أنه قال: آخر سورة أنزلت {إذا جاء نصر الله والفتح}. وقد روى الحاكم في مستدركه من طريق عبد الله بن وهب بإسناده نحو رواية الترمذي، ثم قال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. وقال الحاكم أيضاً: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا يحيى بن نصر، قال: قرىء على عبد الله بن وهب، أخبرني معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية، عن جبير بن نفير، قال: حججت فدخلت على عائشة فقالت لي: يا جبير، تقرأ المائدة ؟ فقلت: نعم، فقالت: أما إنها آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه، ثم قال: صحيح على شرط الشيخين، لم يخرجاه، ورواه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح، وزاد: وسألتها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: القرآن. ورواه النسائي من حديث ابن مهدي
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ
يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعَامِ إِلاّ مَا يُتْلَىَ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلّي الصّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ * يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلآ آمّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّن رّبّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرّ وَالتّقْوَىَ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا عبد الله بن المبارك، حدثنا مسعر، حدثني معن وعوف، أو أحدهما، أن رجلاً أتى عبد الله بن مسعود، فقال: اعهد إلي، فقال: إذا سمعت الله يقول {يا أيها الذين آمنوا} فارعها سمعك، فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه. وقال: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم، حدثنا الوليد، حدثنا الأوزاعي عن الزهري، قال: إذا قال الله {يا أيها الذين آمنوا} افعلوا، فالنبي صلى الله عليه وسلم منهم، وحدثنا أحمد بن سنان، حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا الأعمش عن خيثمة قال: كل شيء في القرآن {يا أيها الذين آمنوا} فهو في التوراة يا أيها المساكين. فأما ما رواه عن زيد بن إسماعيل الصائغ البغدادي، حدثنا معاوية يعني ابن هشام، عن عيسى بن راشد، عن علي بن بذيمة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ما في القرآن آية {يا أيها الذين آمنوا} إلا أن علياً سيدها وشريفها وأميرها، وما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد إلا قد عوتب في القرآن إلا علي بن أبي طالب، فإنه لم يعاتب في شيء منه، فهو أثر غريب، ولفظه فيه نكارة، وفي إسناده نظر
وقال البخاري: عيسى بن راشد هذا مجهول، وخبره منكر، قلت: وعلي بن بذيمة وإن كان ثقة إلا أنه شيعي غال، وخبره في مثل هذا فيه تهمة فلا يقبل، وقوله: فلم يبق أحد من الصحابة إلا عوتب في القرآن إلا علياً، إنما يشير به إلى الاَية الاَمرة بالصدقة بين يدي النجوى، فإنه قد ذكر غير واحد أنه لم يعمل بها أحد إلا علي، ونزل قوله {أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم} الاَية، وفي كون هذا عتاباً نظر، فإنه قد قيل: إن الأمر كان ندباً لا إيجاباً، ثم قد نسخ ذلك عنهم قبل الفعل، فلم يصدر من أحد منهم خلافه، وقوله: عن علي أنه لم يعاتب في شيء من القرآن فيه نظر أيضاً، فإن الاَية التي في الأنفال التي فيها المعاتبة على أخذ الفداء، عمت جميع من أشار بأخذه ولم يسلم منها إلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فعلم بهذا وبما تقدم ضعف هذا الأثر، والله أعلم، وقال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا الليث، حدثني يونس قال: قال محمد بن مسلم: قرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران، وكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم فيه «هذا بيان من الله ورسوله {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} فكتب الاَيات منها حتى بلغ {إن الله سريع الحساب}»
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد، حدثنا يونس بن بكير، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه، قال: هذا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا الذي كتبه لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن يفقه أهلها ويعلمهم السنة، ويأخذ صدقاتهم، فكتب له كتاباً وعهداً، وأمره فيه بأمره، فكتب «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من الله ورسوله {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} عهد من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن، أمره بتقوى الله في أمره كله، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون»
قوله تعالى: {أوفوا بالعقود} قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: يعني بالعقود العهود، وحكى ابن جرير الإجماع على ذلك، قال: والعهود ما كانوا يتعاقدون عليه من الحلف وغيره. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} يعني العهود، يعني ما أحل الله وما حرم وما فرض وما حد في القرآن كله، ولا تغدروا ولا تنكثوا، ثم شدد في ذلك فقال تعالى: {والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل} إلى قوله {سوء الدار} وقال الضحاك: {أوفوا بالعقود} قال: ما أحل الله وحرم، وما أخذ الله من الميثاق على من أقر بالإيمان بالنبي والكتاب أن يوفوا بما أخذ الله عليهم من الفرائض من الحلال والحرام. وقال زيد بن أسلم {أوفوا بالعقود} قال: هي ستة: عهد الله، وعقد الحلف، وعقد الشركة، وعقد البيع، وعقد النكاح وعقد اليمين. وقال محمد بن كعب: هي خمسة منها حلف الجاهلية، وشركة المفاوضة. وقد استدل بعض من ذهب إلى أنه لا خيار في مجلس البيع بهذه الاَية {أوفوا بالعقود} قال: فهذه تدل على لزوم العقد وثبوته فيقتضي نفي خيار المجلس، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، وخالفهما في ذلك الشافعي وأحمد والجمهور، والحجة في ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «البيعان بالخيار مالم يتفرقا» وفي لفظ آخر للبخاري «إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار مالم يتفرقا» وهذا صريح في إثبات خيار المجلس المتعقب لعقد البيع، وليس هذا منافياً للزوم العقد، بل هو من مقتضياته شرعاً، فالتزامه من تمام الوفاء بالعقود
وقوله تعالى: {أحلت لكم بهيمة الأنعام} هي الإبل والبقر والغنم، قاله أبو الحسن وقتادة وغير واحد، قال ابن جرير: وكذلك هو عند العرب، وقد استدل ابن عمر وابن عباس وغير واحد بهذه الاَية على إباحة الجنين إذا وجد ميتاً في بطن أمه إذا ذبحت، وقد ورد في ذلك حديث في السنن رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من طريق مجالد عن أبي الوداك جبير بن نوفل، عن أبي سعيد قال: قلنا: يا رسول الله ننحر الناقة ونذبح البقرة أو الشاة في بطنها الجنين، أنلقيه أم نأكله ؟ فقال «كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه» وقال الترمذي: حديث حسن، قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عتاب بن بشير، حدثنا عبيد الله بن أبي زياد القداح المكي عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال «ذكاة الجنين ذكاة أمه» تفرد به أبو داود
وقوله {إلا ما يتلى عليكم} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني بذلك الميتة والدم ولحم الخنزير، وقال قتادة: يعني بذلك الميتة ومالم يذكر اسم الله عليه والظاهر ـ والله أعلم ـ أن المراد بذلك قوله {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع} فإن هذه وإن كانت من الأنعام إلا أنها تحرم بهذه العوارض، ولهذا قال {إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب} يعني منها فإنه حرام لا يمكن استدراكه وتلاحقه، ولهذا قال تعالى: {أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم} أي إلا ما سيتلى عليكم من تحريم بعضها في بعض الأحوال
وقوله تعالى: {غير محلي الصيد وأنتم حرم} قال بعضهم: هذا منصوب على الحال والمراد بالأنعام ما يعم الإنسي من الإبل والبقر والغنم، ويعم الوحشي كالظباء والبقر والحمر، فاستثنى من الإنسي ما تقدم، واستثنى من الوحشي الصيد في حال الإحرام، وقيل: المراد أحللنا لكم الأنعام، إلا ما استثني منها لمن التزم تحريم الصيد، وهو حرام لقوله {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم} أي أبحنا تناول الميتة للمضطر بشرط أن يكون غير باغ ولا متعد، وهكذا هنا أي كما أحللنا الأنعام في جميع الأحوال فحرموا الصيد في حال الإحرام، فإن الله قد حكم بهذا، وهو الحكيم في جميع ما يأمر به وينهى عنه، ولهذا قال الله تعالى: {إن الله يحكم ما يريد} ثم قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله} قال ابن عباس: يعني بذلك مناسك الحج. وقال مجاهد: الصفا والمروة، والهدي والبدن من شعائر الله، وقيل: شعائر الله محارمه، أي لا تحلوا محارم الله التي حرمها تعالى، ولهذا قال تعالى: {ولا الشهر الحرام} يعني بذلك تحريمه والاعتراف بتعظيمه، وترك ما نهى الله عن تعاطيه فيه من الابتداء بالقتال وتأكيد اجتناب المحارم، كما قال تعالى: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير} وقال تعالى: {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً} الاَية، وفي صحيح البخاري عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو العقدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آخر وقت، كما هو مذهب طائفة من السلف
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {ولا الشهر الحرام} يعني لا تستحلوا القتال فيه، وكذا قال مقاتل بن حيان وعبد الكريم بن مالك الجزري، واختاره ابن جرير أيضاً، وذهب الجمهور إلى أن ذلك منسوخ وأنه يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم، واحتجوا بقوله تعالى: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} والمراد أشهر التسيير الأربعة، قالوا: فلم يستثن شهراً حراماً من غيره، وقد حكى الإمام أبو جعفر الإجماع على أن الله قد أحل قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم وغيرها من شهور السنة، قال: وكذلك أجمعوا على أن المشرك لو قلد عنقه أو ذراعيه بلحاء جميع أشجار الحرم لم يكن ذلك له أماناً من القتل إذا لم يكن تقدم له عقد ذمة من المسلمين أو أمان، ولهذه المسألة بحث آخر له موضع أبسط من هذا
وقوله تعالى: {ولا الهدي ولا القلائد} يعني لا تتركوا الإهداء إلى البيت الحرام، فإن فيه تعظيم شعائر الله، ولا تتركوا تقليدها في أعناقها لتتميز به عما عداها من الأنعام، وليعلم أنها هدي إلى الكعبة فيجتنبها من يريدها بسوء، وتبعث من يراها على الإتيان بمثلها، فإن من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ولهذا لما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بات بذي الحليفة وهو وادي العقيق، فلما أصبح طاف على نسائه وكن تسعاً، ثم اغتسل وتطيب وصلى ركعتين، ثم أشعر هديه وقلده، وأهل للحج والعمرة، وكان هديه إبلاً كثيرة تنيف على الستين من أحسن الأشكال والألوان، كما قال تعالى: {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} وقال بعض السلف إعظامها استحسانها واستسمانها، قال علي بن أبي طالب: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن، رواه أهل السنن
وقال مقاتل بن حيان: وقوله {ولا القلائد} فلا تستحلوها وكان أهل الجاهلية إذا خرجوا من أوطانهم في غير الأشهر الحرم، قلدوا أنفسهم بالشعر والوبر وتقلد مشركو الحرم من لحاء شجره فيأمنون به، رواه ابن أبي حاتم ثم قال: حدثنا محمد بن عمار، حدثنا سعيد بن سليمان، قال: حدثنا عباد بن العوام عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: نسخ من هذه السورة آيتان آية القلائد وقوله {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} وحدثنا المنذر بن شاذان حدثنا زكريا بن عدي حدثنا محمد بن أبي عدي عن ابن عوف قال: قلت للحسن: نسخ من المائدة شيء ؟ قال لا، وقال عطاء: كانوا يتقلدون من شجر الحرم فيأمنون فنهى الله عن قطع شجره وكذا قال مطرف بن عبد الله
وقوله تعالى: {ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلاً من ربهم ورضوانا} أي ولا تستحلوا قتال القاصدين إلى بيت الله الحرام الذي من دخله كان آمناً وكذا من قصده طالباً فضل الله وراغباً في رضوانه فلا تصدوه ولا تمنعوه ولا تهيجوه. قال مجاهد وعطاء وأبو العالية ومطرف بن عبد الله وعبد الله بن عبيد بن عمير والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وقتادة وغير واحد في قوله {يبتغون فضلاً من ربهم} يعني بذلك التجارة، وهذا كما تقدم في قوله {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم}. وقوله {ورضواناً} قال ابن عباس: يترضون الله بحجهم وقد ذكر عكرمة والسدي وابن جرير أن هذه الاَية نزلت في الحطم بن هند البكري كان قد أغار على سرح المدينة فلما كان من العام المقبل اعتمر إلى البيت فأراد بعض الصحابة أن يعترضوا عليه في طريقه إلى البيت فأنزل الله عز وجل {ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً}
وقد حكى ابن جرير الإجماع على أن المشرك يجوز قتله إذا لم يكن له أمان وإن أم البيت الحرام أو بيت المقدس وأن هذا الحكم منسوخ في حقهم، والله أعلم ـ فأما من قصده بالإلحاد فيه والشرك عنده والكفر به فهذا يمنع، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} ولهذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تسع لما أمّر الصديق على الحجيج علياً وأمره أن ينادي على سبيل النيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة، وأن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، وقال ابن أبي طلحة: عن ابن عباس قوله {ولا آمّين البيت الحرام} يعني من توجه قبل البيت الحرام فكان المؤمنون والمشركون يحجون فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحداً من مؤمن أو كافر ثم أنزل الله بعدها {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} الاَية، وقال تعالى: {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله} وقال {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الاَخر} فنفى المشركين من المسجد الحرام. وقال عبد الرزاق حدثنا معمر عن قتادة في قوله {ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام} قال: منسوخ، كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج تقلد من الشجر فلم يعرض له أحد، فإذا رجع تقلد قلادة من شعر فلم يعرض له أحد، وكان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت، فأمروا أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت فنسخها قوله {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله {ولا القلائد} يعني إن تقلدوا قلادة من الحرم فأمّنوهم، قال ولم تزل العرب تعير من أخفر ذلك، قال الشاعر
ألم تقتلا الحرجين إذ أعورا لكم
يمران بالأيدي اللحاء المضفرا وقوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} أي إذا فرغتم من إحرامكم وأحللتم منه فقد أبحنا لكم ما كان محرماً عليكم في حال الإحرام من الصيد وهذا أمر بعد الحظر والصحيح الذي يثبت على السير، أنه يرد الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي، فإن كان واجباً رده واجباً وإن كان مستحباً فمستحب أو مباحاً فمباح، ومن قال إنه على الوجوب ينتقض عليه بآيات كثيرة، ومن قال إنه للإباحة يرد عليه آيات أخرى، والذي ينتظم الأدلة كلها هذا الذي ذكرناه، كما اختاره بعض علماء الأصول، والله أعلم. وقوله {ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا} من القراء من قرأ أن صدوكم بفتح الألف من أن، ومعناها ظاهر أي لا يحملنكم بغض قوم قد كانوا صدوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام وذلك عام الحديبية على أن تعتدوا حكم الله فيهم فتقتصوا منهم ظلماً وعدواناً بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في حق كل أحد، وهذه الاَية كما سيأتي من قوله {ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} أي لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل فإن العدل واجب على كل أحد في كل أحد في كل حال، وقال بعض السلف: ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه. والعدل به قامت السموات والأرض وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا سهل بن عفان، حدثنا عبد الله بن جعفر، عن زيد بن أسلم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية وأصحابه حين صدهم المشركون عن البيت وقد اشتد ذلك عليهم فمر بهم أناس من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم فأنزل الله هذه الاَية، والشنآن هو البغض قاله ابن عباس وغيره وهو مصدر من شنأته أشنؤه شنآناً بالتحريك، مثل قولهم جمزان ودرجان ورقلان من جمز ودرج ورقل، وقال ابن جرير: من العرب من يسقط التحريك في شنآن فيقول شنان ولم أعلم أحداً قرأ بها. ومنه قول الشاعر
وما العيش إلا ما تحب وتشتهي
وإن لام فيه ذو الشنان وفندا وقوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} يأمر تعالى عباده المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات وهو البر، وترك المنكرات وهو التقوى وينهاهم عن التناصر على الباطل والتعاون على المآثم والمحارم، قال ابن جرير: الإثم ترك ما أمر الله بفعله والعدوان مجاوزة ما حد الله في دينكم ومجاوزة ما فرض الله عليكم في أنفسكم وفي غيركم، وقد قال الإمام أحمد: حدثنا هشيم، حدثنا عبيد الله بن أبي بكر بن أنس عن جده أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً» قيل: يا رسول الله هذا نصرته مظلوماً فكيف أنصره إذا كان ظالماً ؟ قال «تحجزه وتمنعه من الظلم فذاك نصره» انفرد به البخاري من حديث هشيم به نحوه، وأخرجاه من طريق ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً» قيل: يا رسول الله هذا نصرته مظلوماً، فكيف أنصره ظالماً ؟ قال «تمنعه من الظلم فذاك نصرك إياه» وقال أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا سفيان بن سعيد، عن الأعمش، عن يحيى بن وثاب، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجراً من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» وقد رواه أحمد أيضاً في مسند عبد الله بن عمر، حدثنا حجاج، حدثنا شعبة عن الأعمش، عن يحيى بن وثاب، عن شيخ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم» وهكذا رواه الترمذي من حديث شعبة وابن ماجه من طريق إسحاق بن يوسف كلاهما عن الأعمش به. وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن محمد أبو شيبة الكوفي، حدثنا بكر بن عبد الرحمن، حدثنا عيسى بن المختار عن ابن أبي ليلى، عن فضيل بن عمرو، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الدال على الخير كفاعله» ثم قال: لا نعلمه يروى إلا بهذا الإسناد، قلت: وله شاهد في الصحيح «من دعا إلى هدىً كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً» وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا عمرو بن إسحاق بن إبراهيم بن زريق الحمصي، حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن الحارث عن عبد الله بن سالم عن الزبيدي قال عباس بن يونس: إن أبا الحسن نمران بن صخر، حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من مشى مع ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج من الإسلام»
حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدّيَةُ وَالنّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السّبُعُ إِلاّ مَا ذَكّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ