تابع 3
الشَّرْحُ
لما ذكر المؤلف رحمه الله باب الصدق وذكر الآيات والأحاديث
الواردة في ذلك أعقب هذا باب المراقبة والمراقبة لها وجهان:
الوجه الأول أن تراقب الله عز وجل .
والوجه الثاني: أن الله تعالى رقيب عليك كما قال الله
وكان الله على كل شيء رقيباً أما مراقبتك لله أن تعلم
أن الله تعالى يعلم كل ما تقوم به من أقوال وأفعال واعتقادات .
كما قال الله تعالى
{ وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين }
يراك حين تقوم أي في الليل
حين يقوم الإنسان في مكان خال لا يطلع عليه أحد
فالله سبحانه يراه حتى ولو كان في أعظم ظلمة وأحلك ظلمة
فإن الله يراه .
وقوله { وتقلبك في الساجدين } أي وأنت تتقلب في الذين
يسجدون لله في هذه الساعة يعني تقلبك فيهم أي معهم
فإن الله سبحانه يرى الإنسان حين قيامه وحين سجوده .
وذكر القيام والسجود
لأن القيام في الصلاة أشرف من السجود بذكره
والسجود أفضل من القيام بهيئته .
أما كون القيام أفضل من السجود بذكره
فلأن الذكر المشروع في القيام هو قراءة القرآن
والقرآن أفضل الكلام .
أما السجود فهو أشرف من القيام بهيئته
لأن الإنسان الساجد أقرب ما يكون من ربه عز وجل
كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال
أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد
ولهذا أمرنا أن نكثر من الدعاء في السجود كذلك من مراقبتك لله
أن تعلم أن الله يسمعك بأي قول قلت كما قال الله
{ أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون }
ومع هذا فإن الذي تتكلم به خيراً أم شراً معلناً أم مسراً فإنه يكتب لك
أو عليك كما قال الله تبارك وتعالى
{ ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد }
فاعلم هذا وإياك أن تخرج من لسانك قولاً تحاسب عليه يوم القيامة .
اجعل دائماً لسانك يقول الحق أو ليصمت
كما قال النبي عليه الصلاة والسلام
من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت
وراقب الله في سرك وفي قلبك .
انظر ماذا في قلبك ؟
من الشرك بالله والرياء وانحرافات والحقد على المؤمنين
وبغضاء وكراهية ومحبة للكافرين
وما أشبه ذلك من الأشياء التي لا يرضاها الله عز وجل .
راقب قلبك فإن الله يقول
{ ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسك }
قبل أن ينطق به .
فراقب الله في هذه المواضع الثلاثة
في فعلك وفي قولك وفي قلبك حتى يتم لك المراقبة
ولهذا لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان
قال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك
اعبد الله كأنك تراه وتشاهده رأى عين
فإن لم تكن تراه فانزل إلى المرتبة الثانية فإنه يراك
فالأول عبادة رغبة وطمع
والثاني عبادة رهبة وخوف
ولهذا قال فإن لم تكن تراه فإنه يراك
فلابد أن يراقب الإنسان ربه وأن تعلم أن الله رقيب عليك
أي شيء تقوله أو تفعله أو تضمره في سرك فالله تعالى عليم به
وقد ذكر المؤلف من الآيات ما يدل على هذا
فبدأ بالآية التي ذكرناها وهي قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم
{ وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم
وتقلبك في الساجدين إنه هو السميع العليم }
وقال تعالى { إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء }
شيء نكرة في سياق النفي في قوله { ولا يخفى }
فتعم كل شيء
فكل شيء لا يخفى على الله في الأرض ولا في السماء
وقد فصل الله هذا في قوله تبارك وتعالى
{ وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر
وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض
ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين }
قال العلماء إذا كانت الأوراق الساقطة يعلمها
فكيف بالأوراق النامية التي ينبتها ويخلقها فهو بها أعلم عز وجل .
أما قوله { ولا حبة في ظلمات الأرض }
حبة نكرة في سياق النفي في قوله
{ وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة }
فهي نكرة في سياق النفي المؤكد
إذا يشمل كل ورقة صغيرة كانت أو كبيرة .
ولنفرض أن حبة صغيرة في ظلمات الأرض
وظلمات الأرض خمسة أنواع
لنفرض أن حبة صغيرة منغمسة في طين البحر
فهي في خمس ظلمات .
الظلمة الأولى ظلمة الطين المنغمسة فيه .
الثانية ظلمة الماء في البحر .
الثالثة ظلمة الليل .
الرابعة ظلمة السحاب المتراكم .
الخامسة ظلمة المطر النازل .
خمس ظلمات فوق هذه الحبة الصغيرة والله عز وجل يعلمها .
وقوله { ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين }
مكتوب مبين ظاهر معلوم عند رب العالمين عز وجل .
إذا من كان هذا سعة علمه فعلى المؤمن أن يراقب الله سبحانه وتعالى
وأن يخشاه في السر كما يخشاه في العلانية
بل الموفق الذي يجعل خشية الله في السر أعظم
وأقوى من خشيته في العلانية
لأن خشية الله في السر أقوى في الإخلاص
لأنه ليس عندك أحد لأن خشية الله في العلانية
ربما يقع في قلبك الرياء ومراءاة الناس .
فاحرص يا أخي المسلم على مراقبة الله عز وجل
وان تقوم بطاعته امتثالاً لأمره واجتناباً لنهيه
ونسأل الله العون على ذلك لأن الله إذا لم يعنا فإننا مخذولون
كما قال تعالى { إياك نعبد وإياك نستعين }
فإذا وفق العبد للهداية والاستعانة في إطار الشريعة
فهذا هو الذي أنعم الله عليه
{ إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم }
لابد أن تكون العبادة في نفس هذا الصراط المستقيم
وإلا كانت ضررا على العبد .
فهذه ثلاثة أمور، هي منهج الذين أنعم الله عليهم
وقوله تعالى { وهو معكم أين ما كنتم }
الضمير { هو } يعود على الله
أي الله سبحانه مع عباده أينما كانوا في بر أو بحر
أو جو أو في ظلمة أو في ضياء وفي أي حال هو معكم أينما كنتم .
وهذا يدل على كمال إحاطته عز وجل بنا
علماً وقدرة وسلطاناً وتدبيراً وغير ذلك .
ولا يعني أنه سبحانه وتعالى معنا في نفس المكان الذي نحن فيه
لأن الله فوق كل شيء
كما قال الله
{ الرحمن على العرش استوى }
وقال { وهو القاهر فوق عباده }
وقال { أأمنتم من في السماء }
وقال { وهو العلي العظيم }
وقال { سبح اسم ربك الأعلى }
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على أنه فوق كل شيء
لكنه عز وجل ليس كمثله شيء في جميع نعوته وصفاته
هو علي في دنوه قريب في علوه جل وعلا
كما قال الله تعالى
{ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان }
ولكن يجب أن نعلم أنه ليس في الأرض
لأننا لو توهمنا هذا لكان فيه إبطال لعلو الله سبحانه وتعالى
وأيضاً فإن الله سبحانه لا يسعه شيء من مخلوقاته
{ وسع كرسيه السماوات والأرض }
الكرسي محيط بالسماوات والأرض كلها
والكرسي هو موضع قدمي الرحمن عز وجل والعرش أعظم وأعظم
كما جاء في الحديث
إن السماوات السبع والأرضيين السبع بالنسبة للكرسي
كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض حلقة
كحلقة المغفر صغيرة ألقيت في فلاة من الأرض
أي مكان متسع نسبة هذه الحلقة إلى الأرض الفلاة ليس بشيء .
قال وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة
فما بالك بالخالق جل وعلا .
الخالق لا يمكن أن يكون في الأرض
لأنه سبحانه أعظم من أن يحيط به شيء من مخلوقاته
واعلم أن المعية التي أضافها الله إلى نفسه
تنقسم بحسب السياق والقرائن فتارة يكون مقتضاها الإحاطة بالخلق
علماً وقدرة وسلطاناً وتدبيراً وغير ذلك مثل هذه الآية:
{ وهو معكم أين ما كنتم }
ومثل قوله
{ ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم
ولا خمسة إلا سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم }
وتارة يكون المراد بها التهديد والإنذار
كما في قوله
{ يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم
إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطاً }
فإن هذا تهديد وإنذار لهم أن يبتوا ما لا يرضى من القول
يكتمونه عن الناس يظنون أن الله لا يعلم
والله سبحانه عليم بكل شيء .
وتارة يراد بها النصر والتأييد والتثبيت
وما أشبه مثل قوله تعالى
{ إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون }
ومثل قوله
{ فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون
والله معكم ولن يتركم أعمالكم } والآيات في هذا كثيرة .
وهذا القسم الثالث من أقسام المعية
تابع ---