1503- وعنْ أبي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الرَّحْمن بنِ أبي بكر الصِّدِّيقِ رضي اللَّه عنْهُما أنَّ أصْحاب الصُّفَّةِ كانُوا أُنَاساً فُقَرَاءَ وأنَّ النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ مرَّةً « منْ كانَ عِنْدَهُ طَعامُ اثنَينِ ، فَلْيذْهَبْ بِثَالث ، ومَنْ كَانَ عِنْدهُ طعامُ أرْبَعَةٍ ، فَلْيَذْهَبْ بخَامِسٍ وبِسَادِسٍ » أوْ كَما قَالَ ، وأنَّ أبَا بَكْرٍ رضي اللَّه عَنْهُ جاءَ بثَلاثَةٍ ، وَانْطَلَقَ النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم بِعَشرَةٍ ، وَأنَّ أبَا بَكْرٍ تَعَشَّى عِنْد النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ، ثُّمَّ لَبِثَ حَتَّى صلَّى العِشَاءَ ، ثُمَّ رَجَعَ ، فَجَاءَ بَعْدَ ما مَضَى من اللَّيلِ مَا شاءَ اللَّه . قَالَتْ امْرَأَتُهُ : ما حبسَكَ عَنْ أضْيافِكَ ؟ قَالَ : أوَ ما عَشَّيتِهمْ ؟ قَالَتْ : أبوْا حَتَّى تَجِيءَ وَقدْ عرَضُوا عَلَيْهِم قَال : فَذَهَبْتُ أنَا ، فَاختبأْتُ ، فَقَالَ : يَا غُنْثَرُ ، فجدَّعَ وَسَبَّ وَقَالَ : كُلُوا هَنِيئاً ، واللَّه لا أَطْعمُهُ أبَداًِ ، قال : وايمُ اللَّهِ ما كُنَّا نَأْخذُ منْ لُقْمةٍ إلاَّ ربا مِنْ أَسْفَلِهَا أكْثَرُ مِنْهَا حتَّى شَبِعُوا ، وصَارَتْ أكثَرَ مِمَّا كَانَتْ قَبْلَ ذلكَ ، فَنَظَرَ إلَيْهَا أبُو بكْرٍ فَقَال لا مْرَأَتِهِ : يَا أُخْتَ بني فِرَاسٍ مَا هَذا ؟ قَالَتْ : لا وَقُرّةِ عَيني لهي الآنَ أَكثَرُ مِنْهَا قَبْلَ ذَلكَ بِثَلاثِ مرَّاتٍ ، فَأَكَل مِنْهَا أبُو بكْرٍ وَقَال : إنَّمَا كَانَ ذلكَ مِنَ الشَّيطَانِ ، يَعني يَمينَهُ ، ثُمَّ أَكَلَ مِنهَا لٍقمةً ، ثُمَّ حَمَلَهَا إلى النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم فَأَصْبَحَت عِنْدَهُ . وكانَ بَيْننَا وبَيْنَ قَومٍ عهْدٌ ، فَمَضَى الأجَلُ ، فَتَفَرَّقنَا اثني عشَرَ رَجُلاً ، مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُم أُنَاسٌ ، اللَّه أعْلَم كَمْ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ فَأَكَلُوا مِنْهَا أَجْمَعُونَ .
وفي روايَة : فَحَلَفَ أبُو بَكْرٍ لا يَطْعمُه ، فَحَلَفَتِ المرأَةُ لا تَطْعِمَه ، فَحَلَفَ الضِّيفُ ¬ أوِ الأَضْيَافُ ¬ أن لا يَطعَمَه ، أوْ يطعَمُوه حَتَّى يَطعَمه ، فَقَالَ أبُو بَكْرٍ : هذِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ ، فَدَعا بالطَّعامِ فَأَكَلَ وَأَكَلُوا ، فَجَعَلُوا لا يَرْفَعُونَ لُقْمَةً إلاَّ ربَتْ مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرَ مِنْهَا ، فَقَال: يَا أُخْتَ بَني فِرَاس ، ما هَذا ؟ فَقالَتْ : وَقُرَّةِ عَيْني إنهَا الآنَ لأَكْثَرُ مِنْهَا قَبْلَ أنْ نَأْكُلَ ، فَأَكَلُوا ، وبَعَثَ بهَا إلى النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم فذَكَرَ أَنَّه أَكَلَ مِنهَا .
وفي روايةٍ : إنَّ أبَا بَكْرٍ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ : دُونَكَ أَضْيافَكَ ، فَإنِّي مُنْطَلِقٌ إلى النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ، فَافْرُغْ مِنْ قِراهُم قَبْلَ أنْ أجِيءَ ، فَانْطَلَقَ عبْدُ الرَّحمَن ، فَأَتَاهم بمَا عِنْدهُ . فَقَال : اطْعَمُوا ، فقَالُوا : أيْنَ رَبُّ مَنزِلَنَا ؟ قال : اطعموا ، قَالُوا : مَا نَحْنُ بآكِلِين حتَى يَجِيىء ربُ مَنْزِلَنا ، قَال : اقْبَلُوا عَنَّا قِرَاكُم ، فإنَّه إنْ جَاءَ ولَمْ تَطْعَمُوا لَنَلقَيَنَّ مِنْهُ ، فَأَبَوْا ، فَعَرَفْتُ أنَّه يَجِد عَلَيَّ ، فَلَمَّا جاءَ تَنَحَّيْتُ عَنْهُ ، فَقالَ : ماصنعتم ؟ فأَخْبَروهُ ، فقالَ يَا عَبْدَ الرَّحمَنِ فَسَكَتُّ ثم قال : يا عبد الرحمن. فسكت ، فَقَالَ : يا غُنثَرُ أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ إن كُنْتَ تَسمَعُ صوتي لما جِئْتَ ، فَخَرَجتُ ، فَقُلْتُ : سلْ أَضْيَافِكَ ، فَقَالُوا : صَدقَ ، أتَانَا بِهِ . فَقَالَ: إنَّمَا انْتَظَرْتُموني وَاللَّه لا أَطعَمُه اللَّيْلَةَ ، فَقالَ الآخَرون : وَاللَّهِ لا نَطعَمُه حَتَّى تَطعمه ، فَقَالَ : وَيْلَكُم مَالَكُمْ لا تَقْبَلُونَ عنَّا قِرَاكُم ؟ هَاتِ طَعَامَكَ ، فَجاءَ بِهِ ، فَوَضَعَ يَدَه ، فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ ، الأولى مِنَ الشَّيطَانِ فَأَكَلَ وَأَكَلُوا . متفقٌ عليه .
قوله : « غُنْثَر » بغين معجمةٍ مضمومةٍ ، ثم نونٍ ساكِنةٍ ، ثُمَّ ثاءٍ مثلثةٍ وهو : الغَبيُّ الجَاهٍلُ ، وقوله : « فجدَّع » أي شَتَمه وَالجَدْع : القَطع . قوله : « يجِدُ عليَّ » هو بكسر الجيمِ ، أيْ : يَغْضَبُ .
1504 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد كان فيما قبلكم من الأمم ناس محدثون، فإن يك في أمتي أحد، فإنه عمر .
رواه البخاري، ورواه مسلم من رواية عائشة، وفي روايتهما قال ابن وهب: محدثون أي: ملهمون .
1504- وعنْ أبي هُرَيْرَة رضي اللَّه عَنْهُ قَالَ : قال رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : « لَقَدْ كَان فِيما قَبْلَكُمْ مِنَ الأُممِ نَاسٌ محدَّثونَ ، فإن يَكُ في أُمَّتي أَحَدٌ ، فإنَّهُ عُمَرُ » رواه البخاري ، ورواه مسلم من روايةِ عائشةَ ، وفي رِوايتِهما قالَ ابنُ وَهْبٍ : « محدَّثُونَ » أَي : مُلهَمُون.
الشَّرْحُ
سبق لنا ما يتعلق بقضية أبي بكر الصديق رضي الله عنه فيما أكرمه الله به من الكرامة، ثم أتى المؤلف رحمه الله بحديث لأبي هريرة في كرامة لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: كان فيما كان قبلكم محدثون - يعني: ملهمون للصواب، يقولون قولاً فيكون موافقًا للحق، وهذا من كرامة الله للعبد أن الإنسان إذا قال قولاً، أو أفتى بفتوى، أو حكم بحكم تبين له بعد ذلك أنه مطابق للحق، فعمر رضي الله عنه من أشد الناس توفيقًا للحق، كما سيأتي إن شاء الله تعالى فيما سيذكره المؤلف من أمثلة لذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فإن يكن فيكم محدثون فعمر يعني إن كان فيكم محدثون فعمر، ويحتمل قوله: إن يكن فيكم إنه خطاب لقوم مجتمعين ليس فيهم أبو بكر ويحتمل أنه خطاب إلى الأمة كلها، ومن بينهم أبو بكر رضي الله عنه، فإن كان الأول فلا إشكال، وإن كان الثاني فقد يقول قائل: كيف يكون عمر ملهمًا وأبو بكر ليس كذلك، فيقال: إن أبا بكر رضي الله عنه يوفق للصواب بدون إلهام، بمعنى أنه رضي الله عنه من ذات نفسه بتوفيق الله - عز وجل - يوفق للصواب ويدل على هذا عدة مسائل، يعني يدل على أن أبا بكر أشد توفيقًا للصواب من عمر عدة مسائل: أولاً: في صلح الحديبية لما اشترطت قريش على النبي صلى الله عليه وسلم شروطاً يبدو أنها ثقيلة عظيمة، عمل عمر رضي الله عنه على إبطالها، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يراجعه في ذلك ويقول: كيف نعطي الدنية في ديننا ؟ كيف نشترط على أنفسنا أن من جاءنا منهم مسلمًا، ردنناه إليهم، ومن جاءهم منا لا يردونه ؟ هذا ثقيل , ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ( إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري )، فذهب عمر رضي الله عنه - إلى أبي بكر - رضي الله عنه - يريد أن يستنجد به في إقناع الرسول صلى الله عليه وسلم فكلم أبا بكر فقال له أبو بكر مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم سواء بسواء قال إنه رسول الله وليس بعاصيه وهو ناصره فاستمسك بعرزه، يعني لا يكن عندك شك في أمر، فهذه واحدة، إذن من الموفق إلى الصواب في هذا ؟ أبو بكر لا شك، كذلك أيضًا في موت الرسول صلى الله عليه وسلم، لما شاع الخبر في المدينة أن النبي صلى الله عليه وسلم مات .
قال عمر في الناس وقال إنه لم يمت وإنما صعق وليبعثنه الله، فليقطعن أيدي أقوام وأرجلهم من خلاف، وأنكر أن يكون قد مات، وكان أبو بكر قد خرج ذلك اليوم إلى بستان له خارج المدينة فلما رجع وجد النبي صلى الله عليه وسلم قد مات حقًا، فخرج إلى المسجد وصعد المنبر، وقال كلماته المشهورة التي تكتب بأغلى من ماء الذهب .
قال: أما بعد أيها الناس، من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت، ثم قرأ قول الله تعالى إنك ميت وإنهم ميتون وقوله تعالى: { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } قال عمر: فوالله ما إن تلاها أبو بكر حتى عقرت فما تحملني رجلاي، يعني الإنسان إذا خاف واشتد به الشيء ما يقدر أن يقف، هذه الثانية، الثالثة: إنه لما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم ارتد من ارتد من العرب، كفروا والعياذ بالله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جهز جيشًا أميره أسامة بن زيد، ليقاتل أدنى أهل الشام والجيش كان ظاهر المدينة ولكن لم يسيروا بعد، ولما ارتد العرب جاء عمر لأبي بكر، وقال لا ترسل الجيش، نحن في حاجة، فقال له أبو بكر: والله لا أحلن راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيرهم أبو بكر، فكان الصواب مع أبي بكر - رضي الله عنه - لأن الناس لما سمعوا أن أهل المدينة أرسلوا الجيوش إلى أطراف الشام، قالوا: هؤلاء عندهم قوة ولا يمكن أن نرتد، فامتنع كثير من الناس عن الردة وبقوا في الإسلام، المهم أن أبا بكر رضي الله عنه أبلغ من عمر، رضي الله عنه - في إصابة الصواب لاسيما في المواضع الضنكة الضيقة، وعلى كل حال كلا الرجلين - رضي الله عنهما - كلاهما موفق إلى الصواب، جمعنا الله وإياكم بهما في الجنة، وكلما الإنسان أقوى إيمانًا بالله وأكثر طاعة لله وفقه الله تعالى إلى الحق بقدر ما معه من الإيمان والعلم والعمل الصالح، تجده مثلاً يعمل عملاً يظنه صوابًا بدون ما يكون معه دليل من الكتاب والسنة فإذا راجع أو سأل، وجد أن عمله مطابق للكتاب والسنة، وهذه من الكرامات، فعمر رضي الله عنه قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم إن يكن فيه محدثون فإنه عمر
1505 -