1543 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر متفق عليه .
وقد سبق بيانه مع حديث أبي هريرة بنحوه في باب الوفاء بالعهد .
الشَّرْحُ
سبق لنا الكلام على جملتين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا ومن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب الخصلة الثالثة: وإذا عاهد غدر يعني إذا أعطى عهدًا على أي شيء من الأشياء غدر به ونقض العهد، وهذا يشمل المعاهدة مع الكفار، والمعاهدة مع المسلم في بعض الأشياء ثم يغدر بذلك، فالمعاهدة مع الكفار إذا عاهدنا الكفار على ترك الحرب بيننا وبينهم مدة معينة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش حين عاهدهم في صلح الحديبية على ترك القتال لمدة عشر سنوات، فإذا عاهدنا هؤلاء المشركين فلنا معهم ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن ينقضوا العهد، فحينئذ يبطل العهد الذي بيننا وبينهم، كما قال الله تعالى: وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون كما فعلت قريش في العهد الذي بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديبية ؛ فإنها لم تمض ثماني سنوات إلا ونقضت قريش من العهد حيث أعانوا حلفاءهم على حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم .
الحالة الثانية: أن يستقيموا على العهد، فحينئذ يجب علينا أن نستقيم على العهد وأن نبقى حتى تنتهي المدة ؛ لقول الله تعالى: { فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين } الحالة الثالثة: أن نخشى أن ينقضوا العهد، يعني لم ينقضوه فعلاً ولم يظهر لنا استقامة تامة، فنخشى أن ينقضوا العهد، فهنا ننبذ إليهم العهد، ونقول لهم صراحة: إنه لا عهد بيننا وبينكم، دليل ذلك قول الله تعالى { وأما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين } أما العهود التي بين المسلمين ؛ بأن تعاهد شخصًا على أن تفعل كذا، أو لا تفعل، أو على أن تكتم سره، أو ما أشبه ذلك فيجب الوفاء به، يجب وجوبًا، واختلف العلماء رحمهم الله تعالى فيما إذا وعدت شخصًا موعدًا فهل يجوز أن تخلفه بلا ضرورة أو لا ؟ مثل أن تقول: سآتيك غدًا، لدعوة، دعاك على غداء أو عشاء أو ما أشبه ذلك، فهل يجوز أن تخلف الموعد ؟ من العلماء من يقول: إنك إذا أخلفت الموعد لا تأثم، ولكن الصحيح أنك تأثم، إلا لعذر شرعي، فإذا وعدت أخاك موعدًا يجب أن توفي به لأنك وعدته، وإخلاف الموعد من علامات ماذا ؟ النفاق، فهل ترضى أن تكون منافقًا ؟ كل واحد لا يرضى، فالصواب الذي دلت عليه السنة وجوب الوفاء بالوعد، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ؛ لأن إخلافه من النفاق لكن إذا كان لك عذر، أو لم تعط موعدًا صريحًا بأن قلت لصاحبك: آتيك إن شاء الله تعالى إذا لم يكن لي عذر، فهنا إذا كان لك عذر فلا بأس، أنت في حل لأنك لم تعطه موعدًا صريحًا، وكذلك أيضًا إذا أخلفت لعذر، مثل أن يكون تمام الوعد يحتاج إلى سيارة، وخرجت وتعطلت السيارة ولم تتمكن من الوصول إليه في موعده فإن هذا عذر بلا شك تعذر به .
أما الخصلة الرابعة فهي: إذا خاصم فجر نسأل الله العافية، إذا وقعت خصومة بينه وبين غيره فجر، والفجور في الخصومة ينقسم إلى قسمين: الأول: أن يجحد ما كان عليه .
والثاني: أن يدعي ما ليس له .
مثال الأول إنسان مطلوب لشخص بألف ريال، فأقام الطالب دعوى على المطلوب، وأنكر المطلوب، قال: ما عندي لك شيء، والطالب قد وثق منه ولم يشهد عليه، فهنا يقول القاضي للمطلوب: احلف وتبرأ ذمتك، فحلف المطلوب أنه ليس له عندي شيء، فهنا سوف يقضي الحاكم بأن هذا المدعى عليه المطلوب ليس عليه شيء، هذا فجور في الخصومة .
أما القسم الثاني: فأن يدعي ما ليس له، بأن يقول عند القاضي أنا أطالب هذا الرجل بمائة ريال فينكر المطلوب، فيقول الطالب: عندي بينة، ويأتي ببينة سوء يشهدون بأنه له عند فلان ( المطلوب ) مائة ريال، فالقاضي سوف يحكم بالبينة، فإذا حكم لهذا المدعي ببينة الزور، فإن هذا يعتبر ممن خاصم ففجر والعياذ بالله، فلهذا يجب التحرز في الخصومات من الكذب أو الالتواء أو المخادعة، لأن كل هذا من الفجور في الخصومة .
نسأل الله تعالى أن يطهر قلوبنا وقلوبكم من النفاق والشك والشرك والرياء إنه على كل شيء قدير
1544 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من تحلم بحلم لم يره، كلف أن يعقد بين شعيرتين، ولن يفعل، ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون، صب في أذنيه الآنك يوم القيامة، ومن صور صورة، عذب وكلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ رواه البخاري .
تحلم أي: قال أنه حلم في نومه ورأى كذا وكذا، وهو كاذب و الآنك بالمد وضم النون وتخفيف الكاف: وهو الرصاص المذاب .
الشَّرْحُ
قال الحافظ النووي رحمه الله تعالى في كتابه ( رياض الصالحين ) في باب تحريم الكذب فيما نقله عن ابن عباس رضى الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من تحلم بحلم لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين وليس بعاقد يعني من كذب في الرؤيا قال: رأيت في المنام كذا وكذا وهو كاذب، فإنه يوم القيامة مكلف أن يعقد بين شعيرتين، والمعلوم أن الإنسان لو حاول مهما حاول أن يعقد بين شعيرتين فإنه لا يستطيع، ولكن لا يزال يعذب ويقال: لابد أن تعقد بينهما، وهذا وعيد يدل على أن التحلم بحلم لم يره الإنسان من كبائر الذنوب، وهذا يقع من بعض السفهاء، يتحدث ويقول،: رأيت البارحة كذا وكذا ؛ لأجل أن يضحك الناس وهذا حرام عليه، وأشد من ذلك أن يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وقال لي كذا وكذا وما أشبه ذلك، فإنه أشد وأشد، لأنه كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما من تحلم بحلم رآه فهذا لا بأس به ولكن ينبغي للإنسان أن يعلم أن ما يراه الإنسان في منامه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم: يكون خيرًا ويستبشر به الإنسان ويفرح به الإنسان، فهذا لا يحدث به إلا من يحب، لأن الإنسان له حساد كثيرون، فإذا رأى رؤيا حسنة وحدث بها من لا يحب فإنه ربما يكيد له كيدًا، يحول بينه وبين هذا الخير الذي رآه، كما فعل إخوة يوسف صلى الله عليه وسلم فإن يوسف بن يعقوب صلى الله عليه وسلم وعلى أبيه قال لأبيه: يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين يعني رأيت هؤلاء أحد عشر كوكبًا يعني نجومًا والشمس والقمر كلها تسجد لي فقال له { يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدًا إن الشيطان للإنسان عدو مبين } فلا تخبر إنسانًا ليس من أحبائك وأصدقائك الذين لا يودون لك ما يودون لأنفسهم، لا تخبرهم بما ترى من رؤيا الخير .
القسم الثاني: رؤيا شر، هذا القسم الثاني مما يراه الإنسان في المنام، رؤيا شر تزعج وتخوف، هذا لا تخبر به أحدًا أبدًا لا صديقك ولا عدوك، وإذا قمت من منامك فاتفل عن يسارك ثلاثًا وقل: أعوذ بالله من شر الشيطان ومن شر ما رأيت .
وإن كنت تريد أن تواصل النوم فنم على الجنب الآخر، يعني لا على الجنب الذي رأيت فيه ما تكره فإنها لا تضر، فمن رأى ما يكره يعمل ما يلي: أولاً: إن استيقظ يتفل عن يساره ثلاث مرات ويقول: أعوذ بالله من شر الشيطان ومن شر ما رأيت .
إن أراد أن يواصل النوم ينام على الجنب الثاني إذا قام، فلا يخبر بها أحدًا ؛ لأن ذلك لا يضره، فإذا فعل هذا فإنه لا يضره بإذن الله، وكان الصحابة يرون الرؤيا تمرضهم وتقلقهم فلما حدثهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث فعلوا ما أرشدهم إليه واستراحوا، وكثير من الناس مبتلى يبحث عن الشر لنفسه ؛ يرى الرؤيا يكرهها ثم يحاول أن يقصها على الناس ليعبروها له، وهذا غلط إذا رأيت الرؤيا تكرهها فهذا عندك دواء من أحسن الأدوية بل هو أحسن الأدوية، علمك إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
القسم الثالث: رؤيا أضغاث أحلام، ليس لها رأس ولا قدم، يرى الإنسان أشياء متناقضة ويرى أشياء غريبة، وهذه لا تحدث بها أحدًا ولا تهتم بها، وقد حدث رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا قال: يا رسول الله رأيت في المنام أن رجلاً قد قطع رأسي، فذهب الرأس شاردًا، فذهبت وراءه لاحقًا له .
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تحدث الناس بما يتلعب بك الشيطان في منامك .
وهذا من الشيطان يقطع رأسك ويشرد بها وأنت تلاحقه، هذا ما له أصل، فمثل هذه الأشياء لا تهتم بها ولا تحدث بها أحدًا، أما من رأى الرسول صلى الله عليه وسلم فإذا رأى الرسول صلى الله عليه وسلم على الوصف المعروف الذي وصف السيرة النبوية، ورآه على هيئة حسنة فهذا يدل على خير لهذا الرائي وأنه قد تأسى به أسوة حسنة، وإن رآه على خلاف ذلك فليحاسب نفسه، فإذا رآه مثلاً أنه يحدث الرسول ولكن الرسول معرض عنه أو الرسول قد ولى وتركه ورآه على هيئة غير حسنة، يعني مثلاً من ثيابه أو ردائه أو إزاره أو مل شابه ذلك، فليحاسب نفسه، فإنه مقصر في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم .
أما المسألة الثانية: من تسمع قومًا وهم له كارهون صب في أذنيه الآنك يوم القيامة يعني الذي يتسمع إلى أناس وهم يكرهون أن يسمع فإنه يصب في أذنيه الآنك يوم القيامة .
قال العلماء: الآنك هو الرصاص المذاب والعياذ بالله، والرصاص المذاب بنار جهنم أعظم من نار الدنيا بتسع وستين مرة، وسواء كانوا يكرهون أن يسمع لغرض صحيح أو لغير غرض ؛ لأن بعض الناس يكره أن يسمعه غيره ولو كان الكلام ما فيه خطأ ولا فيه سب، ولكن لا يريد أن أحدًا يسمعه، وهذا يقع فيه بعض الناس، تجده مثلاً إذا رأى اثنين يتكلمون يأخذ المصحف ويجلس قريبًا منهم ثم يبدأ يطالع المصحف كأنه يقرأ، وهو يستمع إليهم وهم يكرهون ذلك، هذا الرجل يصب في أذنيه الآنك يوم القيامة فيعذب هذا العذاب والعياذ بالله .
وأما الشطر الثاني من الحديث وهو التصوير فسيأتي الكلام فيه إن شاء الله في درس قادم
1544 -