باب المراقبة
قال الله تعالى { الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين } وقال الله تعالى { وهو معكم أين ما كنتم } وقال تعالى { إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء } وقال تعالى { إن ربك لبالمرصاد } وقال تعالى { يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور } والآيات في الباب كثيرة معلومة .
الشَّرْحُ
لما ذكر المؤلف رحمه الله باب الصدق وذكر الآيات والأحاديث الواردة في ذلك أعقب هذا باب المراقبة والمراقبة لها وجهان: الوجه الأول أن تراقب الله عز وجل .
والوجه الثاني: أن الله تعالى رقيب عليك كما قال الله وكان الله على كل شيء رقيباً أما مراقبتك لله أن تعلم أن الله تعالى يعلم كل ما تقوم به من أقوال وأفعال واعتقادات .
كما قال الله تعالى { وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين } يراك حين تقوم أي في الليل حين يقوم الإنسان في مكان خال لا يطلع عليه أحد فالله سبحانه يراه حتى ولو كان في أعظم ظلمة وأحلك ظلمة فإن الله يراه .
وقوله { وتقلبك في الساجدين } أي وأنت تتقلب في الذين يسجدون لله في هذه الساعة يعني تقلبك فيهم أي معهم فإن الله سبحانه يرى الإنسان حين قيامه وحين سجوده .
وذكر القيام والسجود لأن القيام في الصلاة أشرف من السجود بذكره والسجود أفضل من القيام بهيئته .
أما كون القيام أفضل من السجود بذكره فلأن الذكر المشروع في القيام هو قراءة القرآن والقرآن أفضل الكلام .
أما السجود فهو أشرف من القيام بهيئته لأن الإنسان الساجد أقرب ما يكون من ربه عز وجل كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ولهذا أمرنا أن نكثر من الدعاء في السجود كذلك من مراقبتك لله أن تعلم أن الله يسمعك بأي قول قلت كما قال الله { أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون } ومع هذا فإن الذي تتكلم به خيراً أم شراً معلناً أم مسراً فإنه يكتب لك أو عليك كما قال الله تبارك وتعالى { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } فاعلم هذا وإياك أن تخرج من لسانك قولاً تحاسب عليه يوم القيامة .
اجعل دائماً لسانك يقول الحق أو ليصمت كما قال النبي عليه الصلاة والسلام من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت وراقب الله في سرك وفي قلبك .
انظر ماذا في قلبك ؟ من الشرك بالله والرياء وانحرافات والحقد على المؤمنين وبغضاء وكراهية ومحبة للكافرين وما أشبه ذلك من الأشياء التي لا يرضاها الله عز وجل .
راقب قلبك فإن الله يقول { ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسك } قبل أن ينطق به .
فراقب الله في هذه المواضع الثلاثة في فعلك وفي قولك وفي قلبك حتى يتم لك المراقبة ولهذا لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان قال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك اعبد الله كأنك تراه وتشاهده رأى عين فإن لم تكن تراه فانزل إلى المرتبة الثانية فإنه يراك فالأول عبادة رغبة وطمع والثاني عبادة رهبة وخوف ولهذا قال فإن لم تكن تراه فإنه يراك فلابد أن يراقب الإنسان ربه وأن تعلم أن الله رقيب عليك أي شيء تقوله أو تفعله أو تضمره في سرك فالله تعالى عليم به وقد ذكر المؤلف من الآيات ما يدل على هذا فبدأ بالآية التي ذكرناها وهي قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم { وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين إنه هو السميع العليم } وقال تعالى { إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء } شيء نكرة في سياق النفي في قوله { ولا يخفى } فتعم كل شيء فكل شيء لا يخفى على الله في الأرض ولا في السماء وقد فصل الله هذا في قوله تبارك وتعالى { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } قال العلماء إذا كانت الأوراق الساقطة يعلمها فكيف بالأوراق النامية التي ينبتها ويخلقها فهو بها أعلم عز وجل .
أما قوله { ولا حبة في ظلمات الأرض } حبة نكرة في سياق النفي في قوله { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة } فهي نكرة في سياق النفي المؤكد إذا يشمل كل ورقة صغيرة كانت أو كبيرة .
ولنفرض أن حبة صغيرة في ظلمات الأرض وظلمات الأرض خمسة أنواع لنفرض أن حبة صغيرة منغمسة في طين البحر فهي في خمس ظلمات .
الظلمة الأولى ظلمة الطين المنغمسة فيه .
الثانية ظلمة الماء في البحر .
الثالثة ظلمة الليل .
الرابعة ظلمة السحاب المتراكم .
الخامسة ظلمة المطر النازل .
خمس ظلمات فوق هذه الحبة الصغيرة والله عز وجل يعلمها .
وقوله { ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } مكتوب مبين ظاهر معلوم عند رب العالمين عز وجل .
إذا من كان هذا سعة علمه فعلى المؤمن أن يراقب الله سبحانه وتعالى وأن يخشاه في السر كما يخشاه في العلانية بل الموفق الذي يجعل خشية الله في السر أعظم وأقوى من خشيته في العلانية لأن خشية الله في السر أقوى في الإخلاص لأنه ليس عندك أحد لأن خشية الله في العلانية ربما يقع في قلبك الرياء ومراءاة الناس .
فاحرص يا أخي المسلم على مراقبة الله عز وجل وان تقوم بطاعته امتثالاً لأمره واجتناباً لنهيه ونسأل الله العون على ذلك لأن الله إذا لم يعنا فإننا مخذولون كما قال تعالى { إياك نعبد وإياك نستعين } فإذا وفق العبد للهداية والاستعانة في إطار الشريعة فهذا هو الذي أنعم الله عليه { إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم } لابد أن تكون العبادة في نفس هذا الصراط المستقيم وإلا كانت ضررا على العبد .
فهذه ثلاثة أمور، هي منهج الذين أنعم الله عليهم وقوله تعالى { وهو معكم أين ما كنتم } الضمير { هو } يعود على الله أي الله سبحانه مع عباده أينما كانوا في بر أو بحر أو جو أو في ظلمة أو في ضياء وفي أي حال هو معكم أينما كنتم .
وهذا يدل على كمال إحاطته عز وجل بنا علماً وقدرة وسلطاناً وتدبيراً وغير ذلك .
ولا يعني أنه سبحانه وتعالى معنا في نفس المكان الذي نحن فيه لأن الله فوق كل شيء كما قال الله { الرحمن على العرش استوى } وقال { وهو القاهر فوق عباده } وقال { أأمنتم من في السماء } وقال { وهو العلي العظيم } وقال { سبح اسم ربك الأعلى } إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على أنه فوق كل شيء لكنه عز وجل ليس كمثله شيء في جميع نعوته وصفاته هو علي في دنوه قريب في علوه جل وعلا كما قال الله تعالى { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان } ولكن يجب أن نعلم أنه ليس في الأرض لأننا لو توهمنا هذا لكان فيه إبطال لعلو الله سبحانه وتعالى وأيضاً فإن الله سبحانه لا يسعه شيء من مخلوقاته { وسع كرسيه السماوات والأرض } الكرسي محيط بالسماوات والأرض كلها والكرسي هو موضع قدمي الرحمن عز وجل والعرش أعظم وأعظم كما جاء في الحديث إن السماوات السبع والأرضيين السبع بالنسبة للكرسي كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض حلقة كحلقة المغفر صغيرة ألقيت في فلاة من الأرض أي مكان متسع نسبة هذه الحلقة إلى الأرض الفلاة ليس بشيء .
قال وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة فما بالك بالخالق جل وعلا .
الخالق لا يمكن أن يكون في الأرض لأنه سبحانه أعظم من أن يحيط به شيء من مخلوقاته واعلم أن المعية التي أضافها الله إلى نفسه تنقسم بحسب السياق والقرائن فتارة يكون مقتضاها الإحاطة بالخلق علماً وقدرة وسلطاناً وتدبيراً وغير ذلك مثل هذه الآية: { وهو معكم أين ما كنتم } ومثل قوله { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم } وتارة يكون المراد بها التهديد والإنذار كما في قوله { يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطاً } فإن هذا تهديد وإنذار لهم أن يبتوا ما لا يرضى من القول يكتمونه عن الناس يظنون أن الله لا يعلم والله سبحانه عليم بكل شيء .
وتارة يراد بها النصر والتأييد والتثبيت وما أشبه مثل قوله تعالى { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } ومثل قوله { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم } والآيات في هذا كثيرة .
وهذا القسم الثالث من أقسام المعية تارة يضاف إلى المخلوق بالوصف وتارة يضاف إلى المخلوق بالعين .
فقوله: { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } هذا مضاف إلى المخلوق بالوصف فأي إنسان يكون كذلك فالله معه .
وتارة يكون مضافا إلى المخلوق بعين الشخص مثل قوله تعالى { إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } هذا مضاف إلى الشخص بعينه .
هذه معية للرسول عليه الصلاة والسلام وأبي بكر رضي الله عنه وهما في الغار لما قال أبو بكر للرسول يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى قدميه لأبصرنا لأن قريشا كانت تطلب الرسول صلى الله عليه وسلم بكل جد .
ما من جبل إلا صعدت عليه وما من واد إلا هبطت فيه وما من فلاة إلا بحثت وجعلت لمن يأتي بالرسول وأبي بكر مائتا بعير مئتي للرسول ومائة لأبي بكر ونقب الناس وهم يطلبونهما ولكن الله معهما، حتى وقفوا على الغار يقول أبو بكر لو نظر أحدهم إلى قدميه لأبصرنا فيقول له الرسول صلى الله عليه وسلم لا تحزن إن الله معنا فما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟ والله ظننا أن لا يغلبهما أحد وإلا يقدر عليهما أحد وفعلا هذا الذي حصل ما رأوهما مع عدم المانع ما كان عش كما يقولون ولا حمامة وقعت على الغار ولا شجرة نبتت على فم الغار، ما كان إلا عناية الله عز وجل لأن الله معهما .
وكما في قوله سبحانه لموسى وهارون لما أمر الله موسى وأرسله إلى فرعون هو وهارون { قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى } الله أكبر { إنني معكما أسمع وأرى } إذا كان الله معهما هل يمكن أن يضرهما فرعون وجنوده ؟ لا يمكن هذه معية خاصة مقيدة بالعين { إنني معكما أسمع وأرى } إلخ ..
المهم أنه يجب علينا أن نؤمن بأن الله مع الخلق لكنه فوق عرشه ولا يساميه أحد في صفاته ولا يدانيه أحد في صفاته ولا يمكن أن تورد على ذهنك أو على غيرك كيف يكون الله معنا وهو في السماء ؟ نقول الله عز وجل لا يقاس بخلقه مع أن العلو والمعية لا منافاة بينهما حتى في المخلوق فول سألنا سائل أين موضع القمر ؟ جـ قلنا في السماء كما قال الله { وجعل القمر فيهن نورا } وإذا قال أين موضع النجم ؟ جـ - قلنا في السماء واللغة العربية يقول المتكلمون فيها مازلنا نسير والقمر معنا ومازلنا نسير والنجم معنا مع أن القمر في السماء والنجم في السماء لكن هو معنا لأنه ما غاب عنا فالله معنا وهو على عرشه سبحانه فوق جميع الخلق .
ما الذي تقتضي هذه الآية بالنسبة للأمر المسلكي المنجهي ؟ جـ: تقتضي هذه الآية بأنك إذا آمنت بأن الله معك فإنك تتقيه وتراقبه لأنه لا يخفى عليه عز وجل حالك مهما كنت لو كنت في بيت مظلم وما فيه أحد ولا حولك أحد فإن الله تعالى معك لكن ليس في نفس المكان لكنه محيط بك عز وجل لا يخفى عليه شيء من أمرك فتراقب الله وتخاف الله وتقوم بطاعته وتترك مناهيه والله الموفق قوله { إن ربك لبالمرصاد } وهذه الآية ختم الله بها ما ذكره من عقوبة عاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد { وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد } فبين عز وجل أنه بالمرصاد لكل طاغية وأن كل طاغية فإن الله يقصم ظهره ويبيده ولا يبقى له باقية .
فعاد إرم ذات العماد أي ذات البيوت العظيمة المبنية على العمد القوية أعطاهم الله قوة شديدة فاستكبروا في الأرض وقالوا من أشد منا قوة ؟ إلى هذا الحد فقال الله عز وجل { أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة } فبين الله أنه هو أشد منهم قوة واستدل لذلك بدليل عقلي وهو أن الله هو الذي خلقهم ولهذا قال { أو لم يروا أن الله الذي خلقهم } ولم يقل أو لم يروا أن الله هو أشد منهم قوة لأنه من المعلوم بالعقل علما ضرورياً أن الخالق أقوى من المخلوق فالذي خلقهم هو أشد منهم قوة { كانوا بآياتنا يجحدون } فأصابهم الله عز وجل فأرسل الله عليهم الريح العقيم في صباح يوم من الأيام أقبلت الريح ريح عظيمة تحمل من الرمال والأتربة ما صار كأنه سحاب مركوم .
{ فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا } حكمة من الله عز وجل لم تأتهم الريح هكذا بل جاءتهم وهم يؤملون أنها غيث ليكون وقعها أشد .
فكون العذاب يأتي في حال يتأمل فيها الإنسان كشف الضرر يكون أعظم وأعظم مثل ما لو منيت شخصاً بدراهم ثم سحبتها منه صار أشد وأعظم: { فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به } لأنهم كانوا يتحدون نبيهم إن كان عندك عذاب فأت به إن كنت صادقاً .
{ ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم } والعياذ بالله هاجت عليهم سبع ليال وثمانية أيام لأنها بدأت من الصباح وانتهت بالغروب فصارت سبع ليال وثمانية أيام حسوما متتابعة قاطعة لدابرهم تحسمهم حسما حتى أنها تحمل الواحد منهم إلى عنان السماء ثم ترمي به فصاروا كأنهم أعجاز نخل خاوية أي مثل أصول النخل الخاوية ملتوين على ظهورهم والعياذ بالله كهيئة السجود لأنهم يريدون أن يتخلصوا من هذه الريح بعد أن تحملهم وتضرب بهم الأرض ولكن لم ينفعهم هذا .
قال الله تعالى { فأرسلنا عليهم ريحا صرصراً في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون } والعياذ بالله .
أما ثمود الذين جابوا الصخر بالواد هم أيضاً نفس الشيء عندهم عتو وطغيان وتحد لنبيهم حتى قالوا له { قد كنت فينا مرجواً قبل هذا } أي كنا نرجوك ونظنك عاقلاً، أما الآن فأنت سفيه لأنه ما من رسول أرسل إلا قال له قومه ساحر أو مجنون كما قال الله { كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون } .
فأنظرهم ثلاثة أيام { فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب } فلما تمت الثلاثة والعياذ بالله ارتجفت بهم الأرض، وصيح بهم فأصبحوا كهشيم المحتظر أي مثل سعف النخل إذا طالت عليه المدة صار كأنه هشيم محترق من الشمس والهواء صاروا كهشيم المحتظر وماتوا عن آخرهم .
أما فرعون وما أدراك ما فرعون فهو ذلك الرجل الجبار المتكبر الذي طغى وأنكر الله عز وجل وقال لموسى ما رب العالمين وقال قومه ما لكم من إله غيري .
نعوذ بالله وقال لهامان وزيره { ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى } يقوله تهكماً والعياذ بالله { وإني لأظنه كاذباً } وكذب في قوله وإني لأظنه كاذباً لأنه يعلم أنه صادق كما قال الله تعالى في مناظرته مع موسى قال له موسى { لقد علمت } التاء للخطاب فهي مفتوحة { لقد علمت } يا فرعون { ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً } وما قال ما علمت بل سكت في مقام التحدي والمناظرة ذلك يدل على الانقطاع وعدم الجواب .
وقال الله عنه وعن قومه { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوا } فرعون وجنوده يعلمون أن موسى صادق لكنهم مستكبرون جاحدون ماذا حصل لهم ؟ حصل لهم هزائم أعظمها الهزيمة التي حصلت للسحرة .
جمع جميع السحرة في بلاده باتفاق مع موسى عليه الصلاة والسلام وموسى هو الذي عين الموعد أمام فرعون مع أن موسى أمام فرعون يعتبر ضعيفاً لولا أن الله نصره وأيده قال لهم موسى { موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى } يوم الزينة يوم العيد لأن الناس يتزينون فيه ويلبسون الزينة وقوله { وأن يحشر } يجمع { الناس ضحى } لا في الليل في الخلفاء .
جمع فرعون جميع من عنده من السحرة من عظمائهم وكبرائهم واجتمعوا بموسى عليه الصلاة والسلام وألقوا حبالهم وعصيهم في الأرض فصارت الأرض كلها ثعابين حيات تمشي أرهبت الناس كلهم حتى موسى أوجف في نفسه خيفة فأيده الله وقال له { لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك } ألقى ما في يمنيه وهي العصا فإذا هي تلقف ما يأفكون كل الحبال والعصى وأكلتها هذه العصا سبحان الله العظيم وأنت تعجب أين ذهبت العصا ؟ ليست كبيرة حتى تأكل هذه الدنيا لكن الله عز وجل على كل شيء قدير التهمت الحبال والعصى وكان السحرة أعلم الناس بالسحر بلا شك يعرفون أن الذي حصل لموسى وعصاه ليس بسحر وأنه آية من آيات الله عز وجل { فألقي السحرة سجداً } وانظر إلى كلمة { فألقي } كأن هذا السجود جاء اندفاعا بلا شعور ما قال سجدوا ألقوا ساجدين كأنهم من شدة ما رأوا اندفعوا من غير شعور ولا اختيار حتى سجدوا مؤمنين بالله ورسوله { قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون } توعدهم فرعون واتهمهم وهو الذي جاء بهم قال { إنه لكبيركم الذي علمكم السحر } علمهم السحر وأنت الذي أتيت بهم سبحان الله لكن المكابرة تجعل المرء يتكلم بلا عقل قال { فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف } أقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى { ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى } ما الذي قالوا له { قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات } ما يمكن أن نقدمك على ما رأينا من البينات أنت كذاب لست برب الرب رب موسى وهارون { على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض } انظر إلى الإيمان إذا دخل القلوب رخصت عليهم الدنيا كلها { فاقض ما أنت قاض } أي افعل ما تريد إنما تقضي هذه الحياة الدنيا إذا قضيت علينا أن نفارق الدنيا { وما أكرهتنا عليه من السحر } لأنه قد أكرهم لكي يأتوا ويقابلوا موسى { والله خير وأبقى } اللهم اجعلنا من المؤمنين الموقنين الإيمان إذا دخل القلب واليقين إذا دخل القلب لا يفتنه شيء وإلا في السحرة جنود فرعون كانوا في أول النهار سحرة كفرة وفي آخر النهار مؤمنين برزة يتحدون فرعون لما دخل في قلبهم من الإيمان هذه هزيمة نكراء لفرعون لكن مع ذلك مازال في طغيانه وفي النهاية جمع الناس على أنه سيقضي على موسى فخرج موسى في قومه هربا منه متجها بأمر الله إلى البحر الأحمر ويسمى بحر القلزم متجها إليه مشرقا تكون مصر خلفه غربا لما وصل إلى البحر وإذا فرعون بجنوده العظيمة وجحافله القوية خلفهم والبحر أمامهم { قال أصحاب موسى إنا لمدركون } البحر أمامنا وفرعون وجنوده خلفنا أي نفر { قال كلا إن معي ربي سيهدين } هكذا يقين الرسل عليهم الصلاة والسلام في المقامات الحرجة الصعبة تجد عندهم من اليقين ما يجعل الأمر العسير بل الذي يظن أنه متعذر أمرا يسيرا سهلا فأوحى إليه أن أضرب بعصاك البحر الأحمر فضرب البحر بعصاه ضربة واحدة فانفلق البحر أثنى عشر طريقا لأن بني إسرائيل كانوا أثنى عشرة قبيلة ( سبطا ) والسبط بمعنى القبيلة عند العرب لا إله إلا الله هذا البحر صار أثنى عشر طريقا وكم بقى من مدة لكي ييبس بلحظة يبس { فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى } فعبر موسى بقومه في أمن وأمان الماء بين هذه الطرق مثل الجبال كأنه جبل واقف وأنتم تعلمون أن الماء جوهر سيال لكنه بأمر الله صار واقفا كالجبال حتى إن بعض العلماء قال إن الله سبحانه وتعالى جعل في كل طود من هذه المياه جعل فيها فرجا حتى ينظر بنو إسرائيل بعضهم إلى بعض لئلا يظنوا أن أصحابهم قد غرقوا وهلكوا فلما انتهى موسى وقومه خارجين دخل فرعون وقومه فلما تكاملوا أمر الله البحر أن يعود على حاله فانطبق عليهم وكان بنو إسرائيل من شدة خوفهم من فرعون في نفوسهم أن فرعون لم يغرق فأظهر الله جسد فرعون على سطح الماء قال { فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية } حتى يشاهدوا بأعينهم ويطمئنوا أن الرجل قد هلك فتأمل يا أخي هؤلاء الأمم الثلاثة الذين هم في غاية الطغيان كيف أخذهم الله عز وجل وكان لهم بالمرصاد قوم عاد قالوا من أشد منا قوة فأهلكوا بالريح وهي أصلا لطيفة وسهلة قوم صالح أهلكوا بالرجفة والصيحة فرعون أهلك بالماء والغرق وكان يفتخر بالماء لقوله { أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين } يعني موسى { ولا يكاد يبين فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين } فأغرقه الله تعالى بالماء فهذه جملة ما تشير إليه هذه الآية الكريمة { إن ربك لبالمرصاد } وقوله عن الله عز وجل يقوله عن نفسه { يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور } يعلم يعني الله عز وجل وخائنة الأعين خيانتها فالخائنة مصدر كالعاقبة وما أشبهها ويجوز أن تكون اسم فاعل على أنها من خان يخون فيكون من باب إضافة الصفة إلى موصوفها على كل حال هذه مسألة ما تهم هنا المهم أن للأعين خيانة وذلك أن الإنسان ينظر إلى الشيء ولا تظن أنه ينظر إليه نظرا محرما ولكن الله عز وجل يعلم أنه ينظر نظرا محرما كذلك ينظر إلى الشخص نظر كراهية والشخص المنظور لا يدري أن هذا نظر كراهية ولكن الله يعلم أنه ينظر نظر كراهية كذلك ينظر الشخص إلى شيء محرم ولا يدري الإنسان الذي يرى هذا الناظر لا يدري أنه ينظر إلى الشيء نظر إنكار أو نظر رضا ولكن الله سبحانه هو الذي علم ذلك فهو سبحانه وتعالى يعلم خائنة الأعين ويعلم أيضا ما تخفي الصدور أي القلوب لأن القلوب في الصدور والقلوب هي التي يكون بها العقل ويكون بها الفهم ويكون بها التدبير كما قال الله { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها } وقال { فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } سبحان الله كأن هذه الآية تنزل على حال الناس اليوم بل حال الناس في القديم يعني هل العقل في الدماغ أو العقل في القلب ؟ هذه مسألة أشكلت على كثير من النظار الذين ينظرون إلى الأمور نظرة مادية لا يرجعون فيها إلى قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم وإلا فالحقيقة أن الأمر فيها واضح أن العقل في القلب وأن القلب في الصدر { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها } وقال { فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } ولم يقل القلوب التي في الأدمغة فالأمر فيه واضح جدا أن العقل يكون في القلب ويؤيد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب فما بالك بأمر شهد به كتاب الله والله هو الخالق العالم بكل شيء وشهدت به سنة الرسول صلى الله عليه وسلم إن الواجب علينا إزاء ذلك أن نطرح كل قول يخالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأن نجعله تحت أقدامنا وأن لا نرفع به رأسا إذا القلب هو محل العقل ولا شك ولكن الدماغ محل التصور ثم إذا تصورها وجهزها بعث بها إلى القلب ثم القلب يأمر أو ينهي فكأن الدماغ سكرتير يجهز الأشياء ثم يدفعها إلى القلب ثم القلب يأمر أو ينهي وهذا ليس بغريب { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } وفي هذا الجسم أشياء غريبة تحار فيها العقول وأيضا قلنا هذا لأن النبي عليه الصلاة والسلام إذا صلحت صلح الجسد فلولا أن الأمر للقلب ما كان إذا صلح صلح الجسد وإذا فسد فسد الجسد كله إذا فالقلوب هي محل العقل والتدبير للشخص ولكن لا شك أن لها اتصالا بالدماغ ولهذا إذا اختل الدماغ فسد التفكير وفسد العقل فهذا مرتبط بهذا لكن العقل المدبر في القلب والقلب في الصدر { ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } ثم ذكر المؤلف رحمه الله حديث عمر بن الخطاب هذا الحديث العظيم الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم في آخره أتدرون من السائل ؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم إذا ديننا في هذا الحديث لأنه مشتمل على كل الدين على الإسلام والإيمان والإحسان قال المؤلف رحمه الله
60 -