105 - الحادي عشر: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك رواه البخاري .
الشَّرْحُ
قال المؤلف - رحمه الله تعالى - في باب المجاهدة فيما نقله عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك هذا الحديث يتضمن ترغيباً وترهيباً، يتضمن ترغيباً في الجملة الأولى وهو قوله صلى الله عليه وسلم: الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله وشراك النعل: هو السير الذي على ظهر القدم وهو قريب من الإنسان جداً ويضرب به المثل في القرب، وذلك لأنه قد تكون الكلمة الواحدة سبباً في دخول الجنة، فقد يتكلم الإنسان بالكلمة الواحدة من رضوان الله عز وجل لا يظن أنها تبلغ ما بلغت، فإذا هي توصله إلى جنة النعيم .
ومع ذلك فإن الحديث أعم من هذا، فإن كثرة الطاعات واجتناب المحرمات من أسباب دخول الجنة وهو يسير على من يسره الله عليه، فأنت تجد المؤمن الذي شرح الله صدره للإسلام يصلي براحة وطمأنينة وانشراح صدر ومحبة للصلاة، ويزكي كذلك، ويصوم كذلك، ويحج كذلك، ويفعل الخير كذلك، فهو يسير عليه سهل قريب منه، وتجده، يتجنب ما حرمه الله عليه من الأقوال والأفعال وهو يسير عليه .
وأما والعياذ بالله من قد ضاق بالإسلام ذرعاً، وصار الإسلام ثقيلاً عليه فإنه يستثقل الطاعات، ويستثقل اجتناب المحرمات، ولا تصير الجنة أقرب إليه من شراك نعله .
وكذلك النار، وهي الجملة الثانية في الحديث وهي التي فيها التحذير، يقول النبي عليه الصلاة والسلام والنار مثل ذلك أي: أقرب إلى أحدنا من شراك نعله، فإن الإنسان ربما يتكلم بالكلمة لا يلقى لها بالاً وهي من سخط الله فيهوى بها في النار كذا وكذا من السنين، وهو لا يدري، وما أكثر الكلمات التي يتكلم بها الإنسان غير مبال بها، وغير مهتم بمدلولها، فترديه في نار جهنم، نسأل الله العافية .
ألم تروا إلى قصة المنافقين الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك حيث كانوا يتحدثون فيما بينهم يقولون: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ولا أكذب ألسناً ولا أجبن عند اللقاء، يعنون بذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يعني أنهم واسعوا البطون من كثرة الأكل، وليس لهم هم إلا الأكل، ولا أكذب ألسناً، يعني: أنهم يتكلمون بالكذب، ولا أجبن عند اللقاء، أي: أنهم يخافون لقاء العدو ولا يثبتون بل يفرون ويهربون .
هكذا يقول المنافقين في الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
وإذا تأملت وجدت أن هذا ينطبق على المنافقين تماماً لا على المؤمنين، فالمنافقون أشد الناس حرصاً على الحياة، والمنافقون من أكذب الناس ألسناً، والمنافقون من أجبن الناس عند اللقاء .
فهذا الوصف حقيقته في هؤلاء المنافقين .
ومع ذلك يقول الله عز وجل: ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب يعني ما كنا نقصد الكلام، إنما هو خوض الكلام ولعب فقال الله عز وجل { قل } يعني قل يا محمد: { أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين } فبين الله عز وجل أن هؤلاء كفروا بعد إيمانهم باستهزائهم بالله وآياته ورسوله، ولهذا يجب على الإنسان أن يقيد منطقه، وأن يحفظ لسانه حتى لا يذل فيهلك، نسأل الله لنا ولكم الثبات على الحق والسلامة من الإثم .
106 - الثاني عشر: عن أبي فراس ربيعة بن كعب الأسلمي خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أهل الصفة رضي الله عنه قال: كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فآتيه بوضوئه، وحاجته فقال: سلني فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة .
فقال: أو غير ذلك ؟ قلت: هو ذاك .
قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود رواه مسلم .
الشَّرْحُ
قال المؤلف - رحمه الله تعالى - فيما نقل عن ربيعة بن مالك الأسلمي رضي الله عنه، وكان خادماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم والذين يخدمون النبي صلى الله عليه وسلم من الأحرار عدد، منهم: ربيعة بن مالك، ومنهم: ابن مسعود، ولهم الشرف بخدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من أهل الصفة، وأهل الصفة رجال مهاجرون هاجروا إلى المدينة وليس لهم مأوى، فوطنهم النبي عليه الصلاة والسلام في صفة في المسجد النبوي، وكانوا أحياناً يبلغون الثمانين، وأحياناً دون ذلك، وكان الصحابة رضي الله عنهما يأتونهم بالطعام واللبن وغيره مما يتصدقون به عليهم .
فكان ربيعة بن مالك رضي الله عنه يخدم النبي صلى الله عليه وسلم وكان يأتيه بوضوئه وحاجته، الوضوء بالفتح: الماء الذي يتوضأ به، والوضوء بالضم: فعل الوضوء، وأما الحاجة فلم يبينها، ولكن المراد كل ما يحتاجه النبي عليه الصلاة والسلام يأتي به إليه .
فقال له ذات يوم: سل، من أجل أن يكافئه النبي عليه الصلاة والسلام على خدمته إياه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكرم الخلق، وكان يقول: من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فأراد أن يكافئه، فقال له: سل، يعني اسأل ما بدا لك، وقد يتوقع الإنسان أن هذا الرجل سيسأل مالاً، ولكن همته كانت عالية، قال: أسألك مرافقتك في الجنة كما كنت، يعني كأنه يقول كما كنت مرافقاً لك في الدنيا أسألك مرافقتك في الجنة، فقال: أو غير ذلك ؟ يعني أو تسأل غير ذلك مما يمكن أن أقوم به، قال: هو ذاك، يعني لا أسأل إلا ذاك قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأعني على نفسك بكثرة السجود .
وهذا هو الشاهد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: أعني على نفسك بكثرة السجود، وكثرة السجود تستلزم كثرة الركوع، وكثرة الركوع تستلزم كثرة القيام، لأن كل صلاة في كل ركعة منها ركوع وسجودان .
فإذا كثر السجود كثر الركوع وكثر القيام، وذكر السجود دون غيره لأن السجود أفضل هيئة للمصلي، فإن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وإن كان المصلي قريباً من الله قائماً كان أو راكعاً أو ساجداً أو قاعداً، لكن أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد .
وفي هذا: دليل على فضل السجود، واختلف أهل العلم هل الأفضل إطالة القيام أم إطالة الركوع والسجود ؟ فمنهم من قال: الأفضل إطالة القيام، ومنهم من قال: الأفضل إطالة الركوع والسجود، والصحيح: أن الأفضل أن تكون الصلاة متناسبة، وإلا فإن القيام بلا شك أطول من الركوع والسجود في حد ذاته، لكن ينبغي إذا أطال القيام أن يطيل الركوع والسجود، وإذا قصر القيام أن يقصر الركوع والسجود .
وفي هذا: دليل على أن الصلاة مهما أكثر منها فهو خير إلا أنه يستثنى من ذلك أوقات النهي، وأوقات النهي هي من طلوع الفجر إلى ارتفاع الشمس مقدار رمح، وعند قيامها في منتصف النهار حتى تزول، ومن صلاة العصر إلى الغروب، فإن هذه الأوقات الثلاثة لا يجوز للإنسان أن يصلي فيها صلاة تطوع، إلا إذا كان لها سبب، كتحية المسجد، وسنة الوضوء، وما أشبه ذلك .
وفي الحديث: دليل على جواز استخدام الرجل الحر، وأن ذلك لا يعد من المسألة المذمومة، فلو أنك قلت لشخص من الناس ممن يقومون بخدمتك: أعطني كذا .
أعطني كذا، فلا بأس، وكذلك لو قلت لصاحب المنزل أعطني ماءً، صب لي فنجان قهوة فلا بأس، لأن هذا لا يعد من السؤال المذموم، بل هذا من تمام الضيافة، وقد جرت العادة بمثله .
وفيه: دليل أيضاً على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك أن يدخل أحداً الجنة، ولهذا لم يضمن لهذا الرجل أن يعطيه مطلوبه، ولكنه قال له: فأعني على نفسك بكثرة السجود فإذا قام بكثرة السجود التي أوصاه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه حرى بأن يكون مرافقاً للرسول صلى الله عليه وسلم في الجنة .
107 - الثالث عشر: عن أبي عبد الله - ويقال: أبو عبد الرحمن - ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: عليك بكثرة السجود، فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة رواه مسلم .
108 - الرابع عشر: عن أبي صفوان عبد الله بن بسر الأسلمي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير الناس من طال عمره وحسن عمله رواه الترمذي، وقال: حديث حسن .
بسر: بضم الباء وبالسين المهملة .
الشَّرْحُ
قال المؤلف - رحمه الله تعالى - فيما نقله عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: عليك بكثرة السجود عليك يعني إلزم كثرة السجود، فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة وهذا كالحديث السابق حديث ربيعة بن مالك الأسلمي، أنه قال للنبي: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال: فأعني على نفسك بكثرة السجود .
ففيه: دليل على أنه ينبغي للإنسان أن يكثر من السجود، وقد سبق لنا أن كثرة السجود تستلزم كثرة الركوع وكثرة القيام والقعود، لأن كل ركعة فيها سجودان وفيها ركوع واحد، ولا يمكن أن تسجد في الركعة الواحدة ثلاث سجدات أو أربعاً، إذن كثرة السجود تستلزم كثرة الركوع والقيام، والقعود .
ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم ماذا يحصل للإنسان من الأجر فيما إذا سجد وهو أنه يحصل له فائدتان عظيمتان: الفائدة الأولى: أن الله يرفعه بها درجة، يعني منزلة عنده وفي قلوب الناس، وكذلك في عملك الصالح يرفعك الله به درجة .
والثانية: يحط عنك بها خطيئة، والإنسان يحصل له الكمال بزوال ما يكره وحصول ما يحب، فرفع الدرجات مما يحبه الإنسان، والخطايا مما يكره الإنسان، فإذا رفع له درجة وحط عنه بها خطيئة، فقد حصل على مطلوبه ونجا من مرهوبه .
أما حديث عبد الله بن بسر، قال إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خير الناس من طال عمره وحسن عمله وهذا خير الناس لأن الإنسان كلما طال عمره في طاعة الله زاد قرباً إلى الله، وزاد رفعة في الآخرة، لأن كل عمل يعمله فيما زاد فيه عمره فهو يقربه إلى ربه عز وجل، فخير الناس من وفق لهذين الأمرين .
أما طول العمر فإنه من الله وليس للإنسان فيه تصرف، لأن الأعمار بيد الله عز وجل، وأما حسن العمل فإن بإمكان الإنسان أن يحسن عمله، لأن الله تعالى جعل له عقلاء وأنزل الكتب وأرسل الرسل وبين المحجة وأقام الحجة، فكل إنسان يستطيع أن يعمل عملاً صالحاً، على أن الإنسان إذا عمل عملاً صالحاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن بعض الأعمال الصالحة سبب لطول العمر وذلك مثل صلة الرحم .
قال النبي عليه الصلاة والسلام: من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه وصلة الرحم من أسباب طول العمر، فإذا كان خير الناس من طال عمره وحسن عمله، فإنه ينبغي للإنسان أن يسأل الله دائماً أن يجعله ممن طال عمره وحسن عمله، من أجل أن يكون من خير الناس .
وفي هذا: دليل على أن مجرد طول العمر ليس خيراً للإنسان إلا إذا حسن عمله، لأنه أحياناً يكون طول العمر شراً للإنسان وضرراً عليه، كما قال الله تبارك وتعالى: ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين، فهؤلاء الكفار يملي الله لهم - أي يمدهم بالرزق والعافية وطول العمر والبنين والزوجات - لا لخير لهم، ولكنه شر لهم والعياذ بالله، لأنهم سوف يزدادون بذلك إثماً .
ومن ثم كره بعض العلماء أن يدعى للإنسان بطول البقاء، قال لا تقل أطال الله بقاءك إلا مقيداً، قل: أطال الله بقاءك على طاعته، لأن طول البقاء قد يكون شراً للإنسان .
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن طال عمره، وحسن عمله، وحسنت خاتمته وعاقبته، إنه جواد كريم .
109 - الخامس عشر: عن أنس رضي الله عنه، قال: غاب عمي أنس بن النضر رضي الله عنه، عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون فقال: اللهم أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني أصحابه - وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء - يعني المشركين - ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ الجنة ورب الكعبة، إني أجد ريحها من دون أحد .
قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع ! قال أنس: فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل ومثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه .
قال أنس: كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } إلى آخره .
متفق عليه .
قوله: ليرين الله روى بضم الياء وكسر الراء، أي ليظهرن الله ذلك للناس، وروى بفتحهما، ومعناه ظاهر، والله أعلم .
الشَّرْحُ
قال المؤلف - رحمه الله تعالى - فيما نقله عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن عمه أنس بن النضر رضي الله عنه، أن أنساً لم يكن مع الرسول صلى الله عليه وسلم - يعني أنس بن النضر - في بدر، وذلك لأن غزوة بدر خرج إليها النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يريد القتال، وإنما يريد عير قريش وليس معه إلا ثلاثمائة وبضع عشر رجلاً، معهم سبعون بعيراً وفرسان يتعاقبون عليها، وقد تخلف عنها كثير من الصحابة لأنها ليست غزوة، ولم يدع إليها أحد وإنما خرج إليها الخفاف من الناس .
قال أنس بن النضر للنبي عليه الصلاة والسلام يبين له أن لم يكن معه في أول قتال قاتل فيه المشركين، وقال: لئن أدركت قتالاً لأرين الله ما أصنع .
فلما كانت أحد، وهي بعد غزوة بدر بسنة وشهر، خرج الناس وقاتلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وصارت الدائرة في أول النهار للمسلمين، ولكن لما تخلف الرماة عن الموقع الذي جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم فيه ونزلوا من الجبل، كر فرسان المشركين على المسلمين من خلفهم، واختلفوا بهم، وانكشف المسلمون، وصارت الهزيمة لما انكشف المسلمون، تقدم أنس بن النضر رضي الله عنه وقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني أصحابه وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين .
ثم تقدم رضي الله عنه فاستقبله سعد بن معاذ فسأله إلى أين ؟ قال: يا سعد إني لأجد ريح الجنة دون أحد، وهذا وجدان حقيقي ليس تخيلاً أو توهماً ولكن من كرامة الله، هذا الرجل شم رائحة الجنة قبل أن يستشهد رضي الله عنه من أجل أن يقدم ولا يحجم فتقدم فقاتل فقتل رضي الله عنه .
استشهد ووجد فيه بضع وثمانون، ما بين ضربة بسيف أو برمح أو بسهم، حتى إنه قد تمزق جلده، فلم يعرفه أحد إلا أخته، ولم تعرفه إلا ببنانه رضي الله عنه .
فكان المسلمون يرون أن الله قد أنزل فيه هذه الآية من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً، ولا شك أن هذا وأمثاله رضي الله عنهم يدخلون دخولاً أولياً في هذه الآية، فإنهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه، حيث قال أنس: والله ليرين الله ما أصنع ففعل، فصنع صنعاً لا يصنعه أحد إلا من من الله عليه بمثله حتى استشهد .
ففي هذا الحديث: دليل شاهد للباب، وهو مجاهدة الإنسان نفسه على طاعة الله، فإن أنس بن النضر جاهد نفسه هذا الجهاد العظيم، حتى تقدم يقاتل أعداء الله بعد أن انكشف المسلمون وصارت الهزيمة حتى قتل شهيداً رضي الله عنه .
110 - السادس عشر: عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري رضي الله عنه قال: لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل على ظهورنا .
فجاء رجل فتصدق بشيء كثير فقالوا: مراء وجاء رجل آخر فتصدق بصاع فقالوا: إن الله لغني عن صاع هذا ! فنزلت { الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم } متفق عليه .
ونحامل بضم النون، وبالحاء المهملة: أي يحمل أحدنا على ظهره بالأجرة، ويتصدق بها .
الشَّرْحُ
قال المؤلف - رحمه الله تعالى - نقلاً عن أبي مسعود بن عمرو رضي الله عنه قال: لما نزلت آية الصدقة: يعني الآية التي فيها الحث على الصدقة، والصدقة هي أن يتبرع الإنسان بماله للفقراء ابتغاء وجه الله .
وسميت صدقة لأن بذل المال لله عز وجل دليل على صدق الإيمان بالله، فإن المال من الأمور المحبوبة للنفوس، قال الله تعالى: وتحبون المال حباً جماً جماً أي كثيراً وحيث إن المحبوب لا يبذل إلا لمن هو أحب منه، فإذا بذله الإنسان ابتغاء وجه الله كان ذلك دليلاً على صدق الإيمان .
فلما نزلت هذه الآية جعل الصحابة رضي الله عنهم يبادرون ويسارعون في بذل الصدقات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه هي عادتهم أنهم إذا نزلت الآيات بالأوامر بادروها وامتثلوها، وإذا نزلت بالنواهي بادروا بتركها، ولهذا لما نزلت آية الخمر التي فيها تحريم الخمر، وبلغت قوماً من الأنصار، وكان الخمر بين أيديهم يشربون قبل أن يحرم فمن حين ما سمعوا الخبر أقلعوا عن الخمر، ثم خرجوا بالأواني يصبونها في الأسواق حتى جرت الأسواق في الخمر .
وهذا هو الواجب على كل مؤمن إذا بلغه عن الله ورسوله شيء أن يبادر بما يجب عليه، من امتثال هذا الأمر أو اجتناب هذا النهي .
وكذلك هنا فإن الصحابة رضي الله عنهم بدأوا يتحاملون الصدقة، كل واحد يحمل بقدرته من الصدقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل بصدقة كثيرة وجاء رجل بصدقة قليلة، فكان المنافقون إذا جاء الرجل بالصدقة الكثيرة .
قالوا: هذا مراء والعياذ بالله، ما قصد به وجه الله .
وإذا جاء الرجل بالصدقة القليلة قالوا: إن الله غني عنه، وجاء رجل بصاع فقالوا: إن الله غني عن صاعك هذا .
وهؤلاء هم المنافقون، والمنافقون هم الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، ويظهرون الشماتة بالمؤمنين دائماً، جعلوا أكبر همهم وأعذب مقال لهم، وألذ مقال على أسماعهم، أن يسمعوا ويقولوا ما فيه سب المسلمين والمؤمنين والعياذ بالله، لأنهم منافقون وهم العدو، كما قال الله عز وجل فهؤلاء صاروا إذا جاء رجل بكثير قالوا: هذا مراء، وإن جاء بقليل قالوا: إن الله غني عن صاعك ولا ينفعك، فأنزل الله عز وجل: { الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم }، ويلمزون: يعني يعيبون، والمطوعين هم المتصدقين { والذين لا يجدون إلا جهدهم } والذين هذه معطوفة على قوله المطوعين، يعني ويلمزون الذين لا يجدون إلا جهدهم، فهم يلمزون هؤلاء وهؤلاء { فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم }، فهم سخروا بالمؤمنين فسخر الله منهم والعياذ بالله .
ففي هذا: دليل على حرص الصحابة على استباق الخير، ومجاهدتهم أنفسهم على ذلك .
وفي هذا: دليل أيضاً على أن الله عز وجل يدافع عن المؤمنين، وانظر كيف أنزل الله آية في كتاب الله مدافعة عن المؤمنين الذين كان هؤلاء المنافقون يلمزونهم .
وفيه: دليل على شدة العداوة من المنافقين للمؤمنين، وأن المؤمنين لا يسلمون منهم إن عملوا كثيراً سبوهم، وإن عملوا قليلاً سبوهم، ولكن الأمر ليس إليهم، بل إلى الله عز وجل، ولهذا سخر الله منهم، وتوعدهم بالعذاب الأليم في قوله: { ولهم عذاب أليم } .
أما حكم المسألة هذه فإن الله تعالى قال في كتابه { فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره } .
القليل والكثير من الخير سيراه الإنسان، ويجازى به، والقليل والكثير من الشر سيراه الإنسان، ويجازى عليه، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إذا تصدق بعدل تمرة - أي ما يعادلها - من كسب طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب - فإن الله تعالى يأخذها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل .
وقارن بين حبة من التمر وبين الجبل، لا نسبة، الجبل أعظم بكثير، فالله سبحانه وتعالى يجزي الإنسان على ما عمل من خير قل أو كثر، ولكن احرص على أن تكون نيتك خالصة لله، لا تريد بذلك جزاءاً ولا شكوراً من غير الله، واحرص على أن تكون متبعاً في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم .
111 -