574 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل . وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك رواه البخاري ذكر المؤلف - رحمه الله - في باب ذكر الموت وقصر الأمل قوله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ يعني ألم يأت الوقت الذي تخشع فيه قلوب المؤمنين لذكر الله عز وجل ؟ والخشوع معناه الخضوع والذل { لذكر الله } يعني عند ذكره، فإن المؤمنين { الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } وقوله: { لذكر الله } أي لتذكر الله وعظمته { وما نزل من الحق } أي ويخشعون لما نزل من الحق، وهو ما كان في كتاب الله سبحانه وتعالى فإن هذا الكتاب جاء بالحق والنبي صلى الله عليه وسلم الذي نزل عليه الكتاب جاء بالحق، فيحق للمؤمن أن يخشع قلبه لذكر الله وما نزل من الحق . قال: { وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } يعني ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل وهم اليهود والنصارى فاليهود أوتوا التوراة والنصارى أوتوا الإنجيل ومع ذلك فإن اليهود كفروا بالإنجيل والنصارى كفروا بالقرآن فصار الكل كفاراً، ولذلك كان اليهود قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم مغضوبا عليهم لأنهم علموا الحق وهو ما جاء به عيسى ولكنهم استكبروا عنه وأعرضوا عنه أما بعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام فكان اليهود والنصارى كلهم مغضوبا عليهم وذلك لأن النصارى علموا الحق فهم يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم ومع ذلك استكبروا عنه، فكانوا كلهم مغضوبا عليهم لأن القاعدة في المغضوب عليهم أنهم الذين علموا الحق ولم يعملوا به كاليهود والنصارى بعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام . هؤلاء الذين أوتوا الكتاب طال عليهم الأمد أي الوقت: { فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بعد عيسى بستمائة سنة، وهي فترة طويلة انحرف فيها من انحرف من أهل الكتاب، ولهذا قال: { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } ولم يقل أكثرهم فاسقون ولم يقل كلهم فاسقون فكثير منهم فاسقون خارجون عن الحق . فحذر الله عز وجل ونهى أن نكون كهؤلاء الذين أوتوا الكتاب { فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } وإذا نظرت إلى الأمة الإسلامية، وجدت أنها ارتكبت ما ارتكبه الذين أوتوا الكتاب من قبل، فإن الأمة الإسلامية في هذه العصور التي طال فيها الأمد من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم قست قلوب كثير منهم وفسق كثير منهم، واستولى على المسلمين من ليس أهلا للولاية لفسقه بل ومروقه عن الإسلام فإن الذين لا يحكمون بكتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرون أن الحكم بالقوانين أفضل من حكم الله ورسوله كفار بلا شك ومرتدون عن الإسلام . ولكن الله سبحانه وتعالى يبلو الناس بعضهم ببعض، وإذا صبر المؤمن واحتسب وانتظر الفرج من الله عز وجل، وعمل الأسباب التي توصل إلى المقصود يسر الله له الأمر . فالمهم أن الله نهانا أن نكون كالذين أوتوا الكتاب من قبل فقست قلوبهم، ولكن صار الكثير منا في الوقت الحاضر متشبها بهؤلاء الناس قست قلوبهم، وكثير من هؤلاء أيضا فسقوا عن أمر الله، وخرجوا عن طاعة الله . ثم قال المؤلف والآيات في هذا المعنى كثيرة معلومة . وأما الأحاديث فمنها حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمنكبي . يعني أمسك به، والمنكب هو أعلى الكتف، أخذ به من أجل أن ينتبه ابن عمر لما سيلقي إليه الرسول عليه الصلاة والسلام من القول . وهذا من حسن تعليم الرسول عليه الصلاة والسلام فإنه عليه الصلاة والسلام كان إذا تكلم اتخذ الأسباب التي توجب انتباه المخاطب، إما بالفعل كما هنا، وإما بالقول كما في قوله: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قالوا: بلى يا رسول الله . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمر: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل سبحان الله أعطى الله نبيه جوامع الكلم، هاتان الكلمتان يمكن أن تكونا نبراسا يسير الإنسان عليه في حياته كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل والفرق بينهما أن عابر السبيل ماش يمر بالقرية وهو ماش منها . وأما الغريب فهو مقيم فيها حتى يرتحل عنها، يقيم فيها يومين أو ثلاثة أو عشرة أو شهرا، وكل منهما لم يتخذ القرية التي هو فيها وطنا وسكنا وقرارا . فيقول الرسول عليه الصلاة والسلام كن في الدنيا كهذا الرجل، إما غريب أو عابر سبيل . فالغريب وعابر السبيل لا يستوطن يريد أن يذهب إلى أهله وإلى بلده، لو أن الإنسان عامل نفسه في هذه الدنيا بهذه المعاملة لكان دائما مشمرا للآخرة، لا يريد إلا الآخرة ولا يكون أمام عينيه إلا الآخرة حتى يسير إليها سيرا يصل به إلى مطلوبه . وكان ابن عمر يقول: إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح المعنى لا تؤمل أنك إذا أصبحت أمسيت وإذا أمسيت أصبحت فكم من إنسان لبس ثوبه ولم يخلعه إلا الغاسل ! وكم من إنسان خرج من أهله قد هيأوا له غداءه أو عشاءه ولم يأكله وكم من إنسان نام ولم يقم من فراشه ! المهم أن الإنسان لا ينبغي له أن يطيل الأمل بل يكون حذرا حاذقا حازما كيسا، هذا معنى قوله: إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح . وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك الإنسان الصحيح منشرح الصدر، منبسط النفس، واسع الفكر، عنده سعة في الوقت والصحة، لكن ما أكثر الذين يضيعون هذا، لأنه يؤمل أن هذه الصحة سوف تبقى وتدوم، وأنه سوف تطول به الدنيا، فتجده قد ضيع هذه الصحة . فابن عمر رضي الله عنهما يقول: خذ من صحتك لمرضك المرض تضيق به النفس، ويتعب به الجسم، وتضيق عليه الدنيا ولا يستطيع أن يعمل العمل الذي يعمله في حال الصحة، فليأخذ من صحته لمرضه، ومن حياته لموته، قس ما بين حياتك وموتك أيهما أطول ؟ لا شك أن الحياة لا تنسب للموت، كم للرسول عليه الصلاة والسلام ميتا . كم لمن قبله ؟ وحياتهم قليلة بالنسبة لموتهم، فكيف إلى الآخرة . ولهذا ينبغي للإنسان أن يأخذ من حياته0 ما دام الله قد أحياه - لموته إذا عجز عن العمل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له فخذ من حياتك لموتك .
الشَّرْحُ
575 -