120 - الرابع عنه: أن ناسا قالوا يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم قال: أوليس قد جعل لكم ما تصدقون به إن بكل تسبيحة صدقة وكل تكبيرة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة وفي بضع أحدكم صدقة قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ ! قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر رواه مسلم .
الدثور: بالثاء المثلثة: الأموال واحدها: دثر .
الشَّرْحُ
قال المؤلف - رحمه الله تعالى - فيما نقله عن أبي ذر رضي الله عنه، أن ناسا قالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور، يعني استأثروا بالأجور وأخذوها عنا، وأهل الدثور يعني أهل الأموال، يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقوا بفضول أموالهم يعني فنحن وهم سواء في الصلاة وفي الصيام ولكنهم يفضلوننا بالتصدق بفضول أموالهم أي بما أعطاهم الله تعالى من فضل المال يعني ولا نتصدق .
وهذا كما جاء في الحديث الآخر عن فقراء المهاجرين قالوا: ويعتقون ولا نعتق فانظروا إلى الهمم العالية من الصحابة رضي الله عنهم يغبطون إخوانهم بما أنعم الله عليهم من الأموال التي يتصدقون بها ويعتقون منها ليسوا يقولون عندهم فضول أموال يركبون بها المراكب الفخمة ويسكنون القصور المشيدة ويلبسون الثياب الجميلة وذلك لأنهم قوم يريدون ما هو خير وأبقى وهو الآخرة قال الله عز وجل: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى وقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: { وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى } .
فهم اشتكوا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام شكوى غبطة لا شكوى حسد ولا اعتراض على الله عز وجل ولكن يطلبون فضلا يتميزون به عمن أغناهم الله فتصدقوا بفضول أموالهم .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به يعني إذا فاتتكم الصدقة بالمال فهناك الصدقة بالأعمال الصالحة إن بكل تسبيحة صدقة وكل تكبيرة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة وقد سبق الكلام على الأربع الأولى فيما سبق .
أما قوله صلى الله عليه وسلم: أمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أفضل الصدقات لأن هذا هو الذي فضل الله به هذه الأمة على غيرها فقال تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } .
ولكن لابد للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من شروط .
الشرط الأول: أن يكون الآمر الناهي عالما بحكم الشرع فإن كان جاهلا فإنه لا يجوز أن يتكلم لأن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يأمر بما يعتقد الناس أنه شرع الله وليس له أن يتكلم في شرع الله إلا بما يعلم .
لأن الله حرم ذلك بنص القرآن فقال تعالى { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } .
فمن منكرات الأمور: أن يتكلم الإنسان عن الشيء يقول إنه معروف وهو لا يدري أنه معروف أو يقول إنه منكر وهو لا يدري أنه منكر .
الشرط الثاني: أن يكون عالما بأن المخاطب قد ترك المأمور أو فعل المحظور فإن كان لا يدري فإنه لا يجوز له أن يفعل لأنه حينئذ يكون قد قفا ما ليس له به علم وقد قال الله تعالى { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } .
بعض الناس الذين عندهم غيرة وحرص على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتسرع فينكر من غير أن يعلم الحال التي عليها المخاطب مثلا يجد إنسانا معه امرأة في السوق فيتكلم في ذلك مع الرجل لماذا تمشي مع المرأة ؟ وهو لا يدري أنه محرم لها هذا خطأ عظيم إذا كنت في شك فاسأله قبل أن تتكلم أما إذا لم يكن هناك قرائن توجب الشك في هذا الرجل فلا تتكلم ما أكثر الناس الذين يصطحبون نساءهم في الأسواق وانظر إلى حال النبي عليه الصلاة والسلام كيف يعامل الناس في هذه المسألة دخل رجل يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فجلس فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أصليت ؟ قال لا قال: قم فصل ركعتين وتجوز فيهما ما قال له: لماذا تقعد ؟ لأن الإنسان إذا دخل المسجد ينهى أن يجلس قبل أن يصلي ركعتين ففي أي وقت تدخل المسجد في الصباح في المساء بعد العصر بعد المغرب بعد الفجر لا تجلس حتى تصلي ركعتين فهذا الرجل جاء وجلس لكن هناك احتمال أنه صلى قبل أن يجلس والنبي صلى الله عليه وسلم لم يره ولهذا قال له: أصليت ؟ قال لا قال قم فصل ركعتين وتجوز فيهما يعني خفف فهنا لم يأمره أن يقوم فيصلي حتى سأله وهذه هي الحكمة .
الشرط الثالث: أن لا يترتب عن النهي عن المنكر ما هو أنكر منه فإن ترتب على ذلك ما هو أنكر منه فإنه لا يجوز من باب درء أعلى المفسدتين بأدناهما .
فلو فرض أن شخصا وجدناه على منكر كأن يشرب الدخان مثلا ولو نهيناه عن شرب الدخان ذهب يشرب الخمر فإننا لا ننهاه إذا كنا نعلم أن هذا الرجل سيقدم على ما هو أعظم فإننا لا ننهاه عن شرب الدخان عندئذ لماذا ؟ لأن شرب الدخان أهون من شرب الخمر ودليل هذه المسألة قول الله تعالى: { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } فسب آلهة المشركين مصلحة مشروعة لكن إذا ترتب عليها سب الله عز وجل وهو أهل للثناء والمجد فإنه ينهى عنه ولهذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام: لعن الله من لعن والديه وقال صلى الله عليه وسلم: من الكبائر شتم الرجل والديه قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه ؟ قال: نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه .
فالحاصل أنه لابد أن لا يؤدي الإنكار إلى ما هو أنكر من المنكر درءا لأعلى المفسدتين بأدناهما .
ثم إنه يجب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن ينوي بهذا إصلاح الخلق لا الانتصار عليهم لأن من الناس من يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر لينفذ سلطته وينتصر لنفسه وهذا نقص كبير قد يحصل فيه خير من درء المنكر وفعل المعروف ولكنه نقص كبير بالنسبة لهذا الشخص فأنت إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر فانو بقلبك أنك تريد إصلاح الخلق لا أنك تتسلط عليهم وتنتصر عليهم حتى تؤجر ويجعل الله في أمرك ونهيك بركة .
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: وفي بضع أحدكم صدقة يعني أن الرجل إذا أتى امرأته فإن في ذلك صدقة قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه فيها وزر ؟ يعني لو زنى ووضع الشهوة في الحرام هل يكون عليه وزر ؟ قالوا نعم قال فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر والحمد لله ومعنى ذلك أن الرجل إذا استغنى بالحلال عن الحرام كان له بهذا الاستغناء أجر .
ومن ذلك أيضا: إذا أكل الإنسان طعاما فإنه ينال شهوته بالأكل والشرب ومع ذلك لكونه يستغني به عن الحرام فإنه يكتب له به أجر ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام لسعد بن أبي وقاص: واعلم أنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعله في فم امرأتك مع أن من يجعله الإنسان في فم امرأته أمر لابد منه إذ أن المرأة تقول أنفق علي أو طلقني وتخصمه في ذلك تغلبه إذا لم ينفق مع قدرته على الإنفاق فلها الحق في أن تفسخ النكاح ومع ذلك إذا أنفق عليها يبتغي بذلك وجه الله فإن الله تعالى يؤجره على ذلك .
وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه تنبيه على ما يسميه الفقهاء قياس العكس: وهو إثبات نقيض حكم الأصل في ضد الأصل لمفارقة العلة فهنا العلة في كون الإنسان يؤجر إذا أتى أهله هو أنه وضع شهوته في حلال نقيض هذه العلة إذا وضع شهوته في حرام فإنه يعاقب على ذلك وهذا هو ما يسمى عند العلماء بقياس العكس لأن القياس أنواع: قياس علة وقياس دلالة وقياس شبه وقياس عكس والله الموفق .