110 - السادس عشر: عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري رضي الله عنه قال: لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل على ظهورنا .
فجاء رجل فتصدق بشيء كثير فقالوا: مراء وجاء رجل آخر فتصدق بصاع فقالوا: إن الله لغني عن صاع هذا ! فنزلت { الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم } متفق عليه .
ونحامل بضم النون، وبالحاء المهملة: أي يحمل أحدنا على ظهره بالأجرة، ويتصدق بها .
الشَّرْحُ
قال المؤلف - رحمه الله تعالى - نقلاً عن أبي مسعود بن عمرو رضي الله عنه قال: لما نزلت آية الصدقة: يعني الآية التي فيها الحث على الصدقة، والصدقة هي أن يتبرع الإنسان بماله للفقراء ابتغاء وجه الله .
وسميت صدقة لأن بذل المال لله عز وجل دليل على صدق الإيمان بالله، فإن المال من الأمور المحبوبة للنفوس، قال الله تعالى: وتحبون المال حباً جماً جماً أي كثيراً وحيث إن المحبوب لا يبذل إلا لمن هو أحب منه، فإذا بذله الإنسان ابتغاء وجه الله كان ذلك دليلاً على صدق الإيمان .
فلما نزلت هذه الآية جعل الصحابة رضي الله عنهم يبادرون ويسارعون في بذل الصدقات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه هي عادتهم أنهم إذا نزلت الآيات بالأوامر بادروها وامتثلوها، وإذا نزلت بالنواهي بادروا بتركها، ولهذا لما نزلت آية الخمر التي فيها تحريم الخمر، وبلغت قوماً من الأنصار، وكان الخمر بين أيديهم يشربون قبل أن يحرم فمن حين ما سمعوا الخبر أقلعوا عن الخمر، ثم خرجوا بالأواني يصبونها في الأسواق حتى جرت الأسواق في الخمر .
وهذا هو الواجب على كل مؤمن إذا بلغه عن الله ورسوله شيء أن يبادر بما يجب عليه، من امتثال هذا الأمر أو اجتناب هذا النهي .
وكذلك هنا فإن الصحابة رضي الله عنهم بدأوا يتحاملون الصدقة، كل واحد يحمل بقدرته من الصدقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل بصدقة كثيرة وجاء رجل بصدقة قليلة، فكان المنافقون إذا جاء الرجل بالصدقة الكثيرة .
قالوا: هذا مراء والعياذ بالله، ما قصد به وجه الله .
وإذا جاء الرجل بالصدقة القليلة قالوا: إن الله غني عنه، وجاء رجل بصاع فقالوا: إن الله غني عن صاعك هذا .
وهؤلاء هم المنافقون، والمنافقون هم الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، ويظهرون الشماتة بالمؤمنين دائماً، جعلوا أكبر همهم وأعذب مقال لهم، وألذ مقال على أسماعهم، أن يسمعوا ويقولوا ما فيه سب المسلمين والمؤمنين والعياذ بالله، لأنهم منافقون وهم العدو، كما قال الله عز وجل فهؤلاء صاروا إذا جاء رجل بكثير قالوا: هذا مراء، وإن جاء بقليل قالوا: إن الله غني عن صاعك ولا ينفعك، فأنزل الله عز وجل: { الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم }، ويلمزون: يعني يعيبون، والمطوعين هم المتصدقين { والذين لا يجدون إلا جهدهم } والذين هذه معطوفة على قوله المطوعين، يعني ويلمزون الذين لا يجدون إلا جهدهم، فهم يلمزون هؤلاء وهؤلاء { فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم }، فهم سخروا بالمؤمنين فسخر الله منهم والعياذ بالله .
ففي هذا: دليل على حرص الصحابة على استباق الخير، ومجاهدتهم أنفسهم على ذلك .
وفي هذا: دليل أيضاً على أن الله عز وجل يدافع عن المؤمنين، وانظر كيف أنزل الله آية في كتاب الله مدافعة عن المؤمنين الذين كان هؤلاء المنافقون يلمزونهم .
وفيه: دليل على شدة العداوة من المنافقين للمؤمنين، وأن المؤمنين لا يسلمون منهم إن عملوا كثيراً سبوهم، وإن عملوا قليلاً سبوهم، ولكن الأمر ليس إليهم، بل إلى الله عز وجل، ولهذا سخر الله منهم، وتوعدهم بالعذاب الأليم في قوله: { ولهم عذاب أليم } .
أما حكم المسألة هذه فإن الله تعالى قال في كتابه { فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره } .
القليل والكثير من الخير سيراه الإنسان، ويجازى به، والقليل والكثير من الشر سيراه الإنسان، ويجازى عليه، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إذا تصدق بعدل تمرة - أي ما يعادلها - من كسب طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب - فإن الله تعالى يأخذها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل .
وقارن بين حبة من التمر وبين الجبل، لا نسبة، الجبل أعظم بكثير، فالله سبحانه وتعالى يجزي الإنسان على ما عمل من خير قل أو كثر، ولكن احرص على أن تكون نيتك خالصة لله، لا تريد بذلك جزاءاً ولا شكوراً من غير الله، واحرص على أن تكون متبعاً في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم .