58 - الخامس: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا نبي من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم فقال لقومه لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما بين بها ولا أحد بنى بيوتاً لم يرفع سقوفها، ولا أحد اشترى غنما أو خلفات وهو ينتظر أولادها فغزا فدنا من القرية صلاة العصر أو قريباً من ذلك فقال للشمس إنك مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها علينا فحبست حتى فتح الله عليه فجمع الغنائم فجاءت يعني النار لتأكلها فلم تطعمها فقال إن فيكم غلولاً فليبايعني من كل قبيلة رجل فلزقت يد رجل بيده فقال فيكم الغلول فليبايعني قبيلتك فلزمت يد رجلين أو ثلاثة يده فقال فيكم الغلول فجاءوا برأس مثل رأس بقرة من الذهب فوضعها فجاءت النار فأكلتها فلم تحل الغنائم لأحد قبلنا ثم أحل الله لنا الغنائم لما رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا متفق عليه .
الخلفات بفتح الخاء المعجمة وكسر اللام جمع خلفة وهي الناقة الحامل
الشَّرْحُ
هذا الحديث الذي نقله المؤلف فيه آيات عظيمة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حدث عن نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أنه غزا قوما أمر بجهادهم لكنه عليه والسلام منع كل إنسان عقد على امرأة ولم يدخل بها وكل إنسان بنى بيتاً ولم يرفع سقفه وكل إنسان اشترى غنما خلفات وهو ينتظر أولادها وذلك هؤلاء يكونون شغولين بما أهمهم الذي رفع بيتا ولم يرفع سقفه هو أيضاً بهذا البيت الذي يريد أن يسكنه هو وأهله وكذلك صاحب الخلفات والغنم مشغول بها ينتظر أولادها .
والجهاد ينبغي أن يكون الإنسان فيه متفرغاً ليس له هم إلا الجهاد ولهذا قال الله سبحانه فإذا فرغت فانصب أي إذا فرغت من شئون الدنيا بحيث لا تشتغل بها فانصب للعبادة .
وقال النبي عليه الصلاة والسلام لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان فدل على أنه ينبغي للإنسان إذا أراد طاعة أن يفرغ قلبه وبدنه لها حتى يأتيها وهو مشتاق إليها وحتى يؤديها على مهل وطمأنينة وإنشراح صدر .
ثم إنه غزا فنزل بالقوم بعد صلاة العصر وقد أقبل الليل وخاف إن أظلم الليل أن لا يكون هناك انتصار فجعل يخاطب الشمس يقول أنت مأمورة وأنا مأمور لكن أمر الشمس أمر كوني وأما أمره فأمر شرعي .
فهو مأمور بالجهاد والشمس مأمورة أن تسير حيث أمرها الله عز وجل قال الله { والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم } منذ خلقها الله عز وجل وهي سائرة حيث أمرت لا تتقدم ولا تتأخر ولا ترتفع .
قال اللهم فاحبسها عنا فحبس الله الشمس ولم تغب في وقتها حتى غزا هذا النبي وغنم غنائم كثيرة ولما غنم الغنائم وكانت الغنائم في الأمم السابقة لا تحل للغزاة بل حل الغنائم من خصائص هذه الأمة ولله الحمد .
أما الأمم السابقة فكانوا يجمعون الغنائم فتنزل عليها نار من السماء فتحرقها فجمعت الغنائم فلم تنزل النار وتأكلها فقال فيكم الغلول .
ثم أمر من كل قبيلة أن يتقدم واحد يبايعه على أنه لا غلول فلما بايعوه على أنه لا غلول لزقت يد أحد منهم بيد النبي عليه الصلاة والسلام فلما لزقت قال فيكم الغلول أي القبيلة هذه ثم أمر بأن يبايعه كل واحد على حدة من هذه القبيلة، فلزقت يد رجلين أو ثلاثة منهم فقال فيكم الغلول فجاءوا به .
والغلول هو السرقة من الغنيمة بأن تخفى شيئاً منها فإذا هم قد أخفوا مثل رأس الثور من الذهب فلما جيء به ووضع مع الغنائم أكلتها النار وهذه من آيات الله عز وجل .
ففي هذا الحديث دليل على فوائد عديدة .
منها أن الجهاد مشروع في الأمم السابقة كما هو مشروع في هذه الأمة وقد دل على هذا كتاب الله في قوله { وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا } وكذلك قصة طالوت وجالوت وداود عليه الصلاة والسلام في سورة البقرة وفيها دليل على عظمة الله عز وجل وأنه هو مدبر الكون وأنه سبحانه وتعالى يجري الأمور على غير طبائعها إما بتأييد الرسول وإما بدفع شر عنه وإلا لمصلحة في الإسلام .
المهم أن آيات الأنبياء فيها تأييد لهم بأي وجه كانت وذلك لأن الشمس حسب طبيعتها التي خلقها الله عليها تجري دائماً ولا تقف ولا تتقدم ولا تتأخر إلا بأمر الله لكن الله هنا أمرها أن تنجس فطال وقت ما بين صلاة العصر إلى المغرب حتى فتح الله على يد النبي .
وفيها رد على أهل الطبيعة الذين يقولون إن الأفلاك لا تتغير ؟ سبحان الله من الذي خلق الأفلاك ؟ الله عز وجل فالذي خلقها قادر على تغييرها لكن هم يرون أن هذه الأفلاك تجري بحسب الطبيعة ولا أحد يتصرف فيها والعياذ بالله لأنهم ينكرون الخالق .
وقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة على أن الأفلاك تتغير بأمر الله، فهذا النبي دعا الله ووقفت الشمس .
ومحمد رسول الله طلب منه المشركون آية تدل على صدقه فأشار صلى الله عليه وسلم إلى القمر فانشق شقتين وهم يشاهدونه شقة على الصفا وشقه على المروة .
وفي هذا يقول الله عز وجل { اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر } .
قالوا هذا محمد سحرنا والقمر لم ينشق بل أفسد نظرنا وعيوننا لأن الكافر والعياذ بالله الذي حقت عليه كلمة الله لا يؤمن كما قال الله { إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية } القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ويصرفها كيف يشاء، فالذي حقت عليه كلمة العذاب لا يؤمن أبداً ولو جئته بكل آية ولهذا طلبوا من الرسول آية وأراهم هذه الآية العجيبة التي لا يقدر أحد عليها وقالوا { سحر مستمر وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر } وفيها بيان نعمة الله على هذه الأمة حيث أحل لها المغانم التي تغنمها من الكفار كانت حراماً على من سبقنا لأن هذه الغنائم فيها خير كثير على الأمة الإسلامية تساعدها على الجهاد وتعينها عليه .
فهم يغنمون من الكفار أموالاً يقاتلونهم بها مرة أخرى وهذا من فضل الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي وذكر أنه أحلت له الغنائم ولم تحل لأحد كان قبله وفي الحديث من آيات الله أن الذين غلوا لزقت أيديهم بأيدي النبي وهذا خلاف العادة ولكن الله على كل شيء قدير لأن العادة إذا صافحت اليد يداً أخرى أنها تنطلق ومنها أن الأنبياء لا يعلمون الغيب وهو واضح إلا ما أطلعهم عليه أما هم فلا يعلمون الغيب .
وشواهد هذا كثيرة فيما جرى لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام حيث يخفى عليه أشياء كثيرة كما قال الله { قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير } أما هو فلا يعلم الغيب .
وأصحابه يكونون معه يخفون عليه فكان معه ذات يوم أبو هريرة فانخنس وكان عليه جنابة فقال له عندما رجع من غسل الجنابة أين كنت يا أبا هريرة إذا فالرسول لا يعلم الغيب ولا أحد من الخلق يعلم الغيب كما قال الله عز وجل { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً } ومنها دليل على قدرة الله من جهة أن هذه النار لا يدري من أين جاءت بل تنزل من السماء لا هي من أشجار الأرض ولا من حطب الأرض بل من السماء يأمرها الله فتنزل فتأكل هذه الغنيمة التي جمعت والله الموفق .