تفسير سورة الغاشية
قد تقدم عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بسبح اسم ربك الأعلى والغاشية في صلاة العيد ويوم الجمعة وقال الإمام مالك عن ضمرة بن سعيد عن عبيد الله بن عبد الله أن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير: بم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الجمعة مع سورة الجمعة ؟ قال: هل أتاك حديث الغاشية. ورواه أبو داود عن القعنبي والنسائي عن قتيبة كلاهما عن مالك به، ورواه مسلم وابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة عن ضمرة بن سعيد به
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نّاصِبَةٌ * تَصْلَىَ نَاراً حَامِيَةً * تُسْقَىَ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاّ مِن ضَرِيعٍ * لاّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ
الغاشية: من أسماء يوم القيامة. قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد لأنها تغشى الناس وتعمهم، وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطنافسي، حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة تقرأ {هل أتاك حديث الغاشية} فقام يستمع ويقول: «نعم قد جاءني» وقوله تعالى: {وجوه يومئذ خاشعة} أي ذليلة قاله قتادة، وقال ابن عباس: تخشع ولا ينفعها عملها. وقوله تعالى: {عاملة ناصبة} أي قد عملت عملاً كثيراً ونصبت فيه وصليت يوم القيامة ناراً حامية. قال الحافظ أبو بكر البرقاني: حدثنا إبراهيم بن محمد المزكّي، حدثنا محمد بن إسحاق السراج، حدثنا هارون بن عبد الله، حدثنا سيار، حدثنا جعفر قال: سمعت أبا عمران الجوني يقول: مر عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بدير راهب، قال فناداه يا راهب، فأشرف قال فجعل عمر ينظر إليه ويبكي، فقيل له: يا أمير المؤمنين ما يبكيك من هذا ؟ قال: ذكرت قول الله عز وجل في كتابه: {عاملة ناصبة * تصلى ناراً حامية} فذاك الذي أبكاني
وقال البخاري: قال ابن عباس {عاملة ناصبة} النصارى، وعن عكرمة والسدي عاملة في الدنيا بالمعاصي وناصبة في النار بالعذاب والإهلاك، قال ابن عباس والحسن وقتادة {تصلى ناراً حامية} أي حارة شديدة الحر {تسقى من عين آنية} أي قد انتهى حرها وغليانها، قاله ابن عباس ومجاهد والحسن والسدي. وقوله تعالى: {ليس لهم طعام إلا من ضريع} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: شجر من النار، وقال سعيد بن جبير: هو الزقوم، وعنه أنها الحجارة، وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وأبو الجوزاء وقتادة: هو الشبرق، قال قتادة: قريش تسميه في الربيع الشبرق وفي الصيف الضريع، قال عكرمة: وهو شجرة ذات شوك لاطئة بالأرض. وقال البخاري: قال مجاهد: الضريع نبت يقال له الشبرق يسميه أهل الحجاز الضريع إذا يبس وهو سم، وقال معمر عن قتادة {ليس لهم طعام إلا من ضريع} هو الشبرق إذا يبس سمي الضريع، وقال سعيد عن قتادة {ليس لهم طعام إلا من ضريع} من شر الطعام وأبشعه وأخبثه، وقوله تعالى: {لا يسمن ولا يغني من جوع} يعني لا يحصل به مقصود ولا يندفع به محذور
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نّاعِمَةٌ * لّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنّةٍ عَالِيَةٍ * لاّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مّرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مّوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيّ مَبْثُوثَةٌ
لما ذكر حال الأشقياء ثنى بذكر السعداء فقال: {وجوه يومئذ} أي يوم القيامة {ناعمة} أي يعرف النعيم فيها وإنما حصل لها ذلك بسعيها، وقال سفيان {لسعيها راضية} قد رضيت عملها. وقوله تعالى: {في جنة عالية} أي رفيعة بهية في الغرفات آمنون {لا تسمع فيها لاغية} أي لا تسمع في الجنة التي هم فيها كلمة لغو كما قال تعالى: {لا يسمعون فيها لغواً إلا سلاماً} وقال تعالى: {لا لغو فيها ولا تأثيم} وقال تعالى: {لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلا قيلاً سلاماً سلاماً} {فيها عين جارية} أي سارحة وهذه نكرة في سياق الإثبات، وليس المراد بها عيناً واحدة وإنما هذا جنس يعني فيها عيون جاريات. وقال ابن أبي حاتم: قرىء على الربيع بن سليمان، حدثنا أسد بن موسى، حدثنا ابن ثوبان عن عطاء بن قرة عن عبد الله بن ضمرة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أنهار الجنة تفجر من تحت تلال ـ أو من تحت جبال ـ المسك» {فيها سرر مرفوعة} أي عالية ناعمة كثيرة الفرش مرتفعة السمك عليها الحور العين، قالوا فإذا أراد ولي الله أن يجلس على تلك السرر العالية تواضعت له {وأكواب موضوعة} يعني أواني الشرب معدة مرصدة لمن أرادها من أربابها
{ونمارق مصفوفة} قال ابن عباس: النمارق الوسائد، وكذا قال عكرمة وقتادة والضحاك والسدي والثوري وغيرهم، وقوله تعالى: {وزرابي مبثوثة} قال ابن عباس الزرابي البسط، وكذا قال الضحاك وغير واحد، ومعنى مبثوثة أي ههنا وههنا لمن أراد الجلوس عليها، وذكر ههنا هذا الحديث الذي رواه أبو بكر بن أبي داود، حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا أبي عن محمد بن مهاجر عن الضحاك المعافري عن سليمان بن موسى، حدثني كريب أنه سمع أسامة بن زيد يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألا هل من مشمر للجنة فإن الجنة لا خطر لها، وهي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وثمرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، ومقام في أبد في دار سليمة، وفاكهة وخضرة، وحبرة ونعمة، في محلة عالية بهية ؟» قالوا: نعم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن المشمرون لها، قال: «قولوا إن شاء الله» قال القوم: إن شاء الله، ورواه ابن ماجه عن العباس بن عثمان الدمشقي عن الوليد بن مسلم عن محمد بن مهاجر به
أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَىَ الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكّرْ إِنّمَآ أَنتَ مُذَكّرٌ * لّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ * إِلاّ مَن تَوَلّىَ وَكَفَرَ * فَيْعَذّبُهُ اللّهُ الْعَذَابَ الأكْبَرَ * إِنّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ * ثُمّ إِنّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ
يقول تعالى آمراً عباده بالنظر في مخلوقاته الدالة على قدرته وعظمته: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ؟} فإنها خلق عجيب وتركيبها غريب، فإنها في غاية القوة والشدة وهي مع ذلك تلين للحمل الثقيل وتنقاد للقائد الضعيف وتؤكل وينتفع بوبرها ويشرب لبنها، ونبهوا بذلك لأن العرب غالب دوابهم كانت الإبل، وكان شريح القاضي يقول اخرجوا بنا حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت! أي كيف رفعها الله عز وجل عن الأرض هذا الرفع العظيم، كما قال تعالى: {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج} {وإلى الجبال كيف نصبت} أي جعلت منصوبة فإنها ثابتة راسية لئلا تميد الأرض بأهلها، وجعل فيها ما جعل من المنافع والمعادن {وإلى الأرض كيف سطحت!} أي كيف بسطت ومدت ومهدت، فنبه البدوي على الاستدلال بما يشاهده من بعيره الذي هو راكب عليه والسماء التي فوق رأسه، والجبل الذي تجاهه والأرض التي تحته على قدرة خالق ذلك وصانعه وأنه الرب العظيم الخالق المالك المتصرف، وأنه الإله الذي لا يستحق العبادة سواه، وهكذا أقسم ضمام في سؤاله على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس، قال: كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع
فجاء رجل من أهل البادية فقال: يا محمد إنه أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك، قال: «صدق» قال: فمن خلق السماء ؟» قال: «الله» قال: فمن خلق الأرض ؟ قال: «الله» قال: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل ؟ قال: «الله» قال: فبالذي خلق السماء والأرض ونصب هذه الجبال آلله أرسلك ؟ قال: «نعم» قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا ؟ قال: «صدق» قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا ؟ قال: «نعم» قال: وزعم رسولك أن علينا زكاة أموالنا ؟ قال «صدق» قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا ؟ قال: «نعم» قال: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلاً. قال: «صدق» قال: ثم ولى فقال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن شيئاً ولا أنقص منهن شيئاً ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إن صدق ليدخلن الجنة»
وقد رواه مسلم عن عمرو النقاد عن أبي النضر هاشم بن القاسم به، وعلقه البخاري ورواه الترمذي والنسائي من حديث الليث بن سعد عن سعيد المقبري عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أنس به بطوله وقال في آخره: وأنبأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر، وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا إسحاق حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثني عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما كان يحدث عن امرأة في الجاهلية على رأس جبل معها ابن صغير لها ترعى غنماً، فقال لها ابنها: يا أمه من خلقك ؟ قالت: الله. قال: فمن خلق أبي ؟ قالت: الله. قال: فمن خلقني ؟ قالت: الله، قال: فمن خلق السماء ؟ قالت: الله، قال: فمن خلق الأرض ؟ قالت: الله. قال: فمن خلق الجبل ؟ قالت: الله. قال: فمن خلق هذه الغنم ؟ قالت: الله، قال: فإني لأسمع لله شأناً وألقى نفسه من الجبل فتقطع. قال ابن عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يحدثنا هذا. قال ابن دينار: كان ابن عمر كثيراً ما يحدثنا بهذا، في إسناده ضعف وعبد الله بن جعفر هذا هو المديني ضعفه ولده الإمام علي بن المديني وغيره
وقوله تعالى: {فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر} أي فذكر يا محمد الناس بما أرسلت به إليهم {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب} ولهذا قال: {لست عليهم بمصيطر} قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: {لست عليهم بجبار} أي لست تخلق الإيمان في قلوبهم، وقال ابن زيد: لست بالذي تكرههم على الإيمان، قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن سفيان عن أبي الزبير عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل» ثم قرأ: {فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر} وهكذا رواه مسلم في كتاب الإيمان والترمذي والنسائي في كتاب التفسير من سننيهما من حديث سفيان بن سعيد الثوري به بهذه الزيادة، وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من رواية أبي هريرة بدون ذكر هذه الاَية
وقوله تعالى: {إلا من تولى وكفر} أي تولى عن العمل بأركانه وكفر بالحق بجنانه ولسانه، وهذه كقوله تعالى: {فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى} ولهذا قال: {فيعذبه الله العذاب الأكبر} قال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة، حدثنا ليث عن سعيد بن أبي هلال عن علي بن خالد أن أبا أمامة الباهلي مر على خالد بن يزيد بن معاوية، فسأله عن ألين كلمة سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا كلكم يدخل الجنة إلا من شرد على الله شراد البعير على أهله»، تفرد بإخراجه الإمام أحمد، وعلي بن خالد هذا ذكره ابن أبي حاتم عن أبيه ولم يزد على ما ههنا، روى عن أبي أمامة وعنه سعيد بن أبي هلال، وقوله تعالى: {إن إلينا إيابهم} أي: مرجعهم ومنقلبهم {ثم إن علينا حسابهم} أي نحن نحاسبهم على أعمالهم ونجازيهم بها إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
آخر تفسير سورة الغاشية، ولله الحمد والمنة