تفسير سورة العاديات
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً * فَالمُورِيَاتِ قَدْحاً * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً * إِنّ الإِنسَانَ لِرَبّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنّهُ عَلَىَ ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنّهُ لِحُبّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ * أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصّلَ مَا فِي الصّدُورِ * إِنّ رَبّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لّخَبِيرٌ
يقسم تعالى بالخيل إذا أجريت في سبيله فعدت وضبحت وهو الصوت الذي يسمع من الفرس حين تعدو {فالموريات قدحاً} يعني اصطكاك نعالها للصخر فتقدح منه النار {فالمغيرات صبحاً} يعني الإغارة وقت الصباح كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير صباحاً ويستمع الأذان فإن سمع أذاناً وإلا أغار. وقوله تعالى: {فأثرن به نقعاً} يعني غباراً في مكان معترك الخيول {فوسطن به جمعاً} أي توسطن ذلك المكان كلهن جمع. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا عبدة عن الأعمش، عن إبراهيم عن عبد الله {والعاديات ضبحاً} قال: الإبل، وقال علي: هي الإبل. وقال ابن عباس: هي الخيل، فبلغ علياً قول ابن عباس فقال: ما كانت لنا خيل يوم بدر. قال ابن عباس: إنما كان ذلك في سرية بعثت
قال ابن أبي حاتم وابن جرير: وحدثنا يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني أبو صخر عن أبي معاوية البجلي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس حدثه قال: بينا أنا في الحجر جالساً جاءني رجل فسألني عن {العاديات ضبحاً} فقلت له: الخيل حين تغير في سبيل الله، ثم تأوي إلى الليل فيصنعون طعامهم ويورون نارهم فانفتل عني فذهب إلى علي رضي الله عنه وهو عند سقاية زمزم فسأله عن {العاديات ضبحاً} فقال: سألت عنها أحداً قبلي ؟ قال: نعم، سألت ابن عباس فقال الخيل حين تغير في سبيل الله، قال: اذهب فادعه لي، فلما وقف على رأسه قال: أتفتي الناس بما لا علم لك، والله لئن كان أول غزوة في الإسلام بدر وما كان معنا إلا فرسان فرس للزبير وفرس للمقداد، فكيف تكون العاديات ضبحاً ؟ إنما العاديات ضبحاً من عرفة إلى المزدلفة ومن المزدلفة إلى منى، قال ابن عباس: فنزعت عن قولي ورجعت إلى الذي قال علي رضي الله عنه، وبهذا الإسناد عن ابن عباس قال: قال علي: إنما العاديات ضبحاً من عرفة إلى المزدلفة فإذا أووا إلى المزدلفة أوروا النيران، وقال العوفي وغيره عن ابن عباس: هي الخيل
وقد قال بقول علي إنها الإبل جماعة منهم إبراهيم وعبيد بن عمير، وقال بقول ابن عباس آخرون منهم مجاهد وعكرمة وعطاء وقتادة والضحاك واختاره ابن جرير، وقال ابن عباس وعطاء: ما ضبحت دابة قط إلا فرس أو كلب. وقال ابن جريج عن عطاء: سمعت ابن عباس يصف الضبح أح أح، وقال أكثر هؤلاء في قوله: {فالموريات قدحاً} يعني بحوافرها، وقيل أسعرنَ الحرب بين ركبانهن، قاله قتادة وعن ابن عباس ومجاهد {فالموريات قدحاً} يعني مكر الرجال وقيل هو إيقاد النار إذا رجعوا إلى منازلهم من الليل، وقيل المراد بذلك نيران القبائل، وقال: من فسرها بالخيل هو إيقاد النار بالمزدلفة. قال ابن جرير: والصواب الأول أنها الخيل حين تقدح بحوافرها
وقوله تعالى: {فالمغيرات صبحاً} قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: يعني إغارة الخيل صبحاً في سبيل الله، وقال من فسرها بالإبل هو الدفع صبحاً من المزدلفة إلى منى. وقالوا كلهم في قوله: {فأثرن به نقعاً} هو المكان الذي حلت فيه، أثارت به الغبار إما في حج أو غزو وقوله تعالى: {فوسطن به جمعاً} قال العوفي عن ابن عباس وعطاء وعكرمة وقتادة والضحاك: يعني جمع الكفار من العدو، ويحتمل أن يكون فوسطن بذلك المكان جميعهن ويكون جمعاً منصوباً على الحال المؤكدة، وقد روى أبو بكر البزار ههنا حديثاً غريباً جداً، فقال: حدثنا أحمد بن عبدة، حدثنا حفص بن جميع، حدثنا سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً فأشهرت شهراً لا يأتيه منها خبر، فنزلت {والعاديات ضبحاً} ضبحت بأرجلها {فالموريات قدحاً} قدحت بحوافرها الحجارة فأورت ناراً {فالمغيرات صبحاً} صبحت القوم بغارة {فأثرن به نقعاً} أثارت بحوافرها التراب {فوسطن به جمعاً} قال: صبحت القوم جميعاً. وقوله تعالى: {إن الإنسان لربه لكنود} هذا هو المقسم عليه بمعنى إنه بنعم ربه لكفور جحود قال ابن عباس ومجاهد وإبراهيم النخعي وأبو الجوزاء وأبو العالية وأبو الضحى وسعيد بن جبير ومحمد بن قيس، والضحاك والحسن وقتادة والربيع بن أنس وابن زيد: الكنود الكفور، قال الحسن: الكنود هو الذي يعد المصائب وينسى نعم الله عليه
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو كريب، حدثنا عبيد الله عن إسرائيل عن جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «{إن الإنسان لربه لكنود} ـ قال ـ الكنود الذي يأكل وحده ويضرب عبده ويمنع رفده» رواه ابن أبي حاتم من طريق جعفر بن الزبير، وهو متروك فهذا إسناد ضعيف، وقد رواه ابن جرير أيضاً من حديث حريز بن عثمان عن حمزة بن هانى عن أبي أمامة موقوفاً. وقوله تعالى: {وإنه على ذلك لشهيد} قال قتادة وسفيان الثوري: وإن الله على ذلك لشهيد ويحتمل أن يعود الضمير على الإنسان، قاله محمد بن كعب القرظي فيكون تقديره وإن الإنسان على كونه كنوداً لشهيد أي بلسان حاله أي ظاهر ذلك عليه في أقواله وأفعاله كما قال تعالى: {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر}
قوله تعالى: {وإنه لحب الخير لشديد} أي وإنه لحب الخير وهو المال لشديد، وفيه مذهبان (أحدهما) أن المعنى وإنه لشديد المحبة للمال (والثاني) وإنه لحريص بخيل من محبة المال وكلاهما صحيح. ثم قال تبارك وتعالى مزهداً في الدنيا ومرغباً في الاَخرة ومنبهاً على ما هو كائن بعد هذه الحال وما يستقبله الإنسان من الأهوال: {أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور ؟} أي أخرج ما فيها من الأموات {وحصل ما في الصدور} قال ابن عباس وغيره: يعني أبرز وأظهر ما كانوا يسرون في نفوسهم {إن ربهم بهم يومئذٍ لخبير} أي لعالم بجميع ما كانوا يصنعون ويعملون ومجازيهم عليه أوفر الجزاء ولا يظلم مثقال ذرة