614- وعن حَارثَةَ بنِ وهْبٍ رضي اللَّه عنه قال : سَمِعْتُ رسُولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يقولُ : «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ ؟ : كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ » متفقٌ عليه . وتقدَّم شرحُه في باب ضَعفَةِ المسلمينَ .
32- باب فضل ضعفة المسلمين والفقراء والخاملين
252- عن حَارِثَة بْنِ وهْب رضي اللَّه عنه قال : سمعتُ رسولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يقولُ : « أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الجنَّةِ ؟ كُلُّ ضَعيفٍ مُتَضَعِّفٍ لَوْ أَقْسَم عَلَى اللَّه لأبرَّه ، أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بَأَهْلِ النَّارِ؟ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ » . متفقٌ عليه .
« الْعُتُلُّ » : الْغَلِيظُ الجافِي . « والجوَّاظُ » بفتح الجيم وتشدِيدِ الواو وبِالظاءِ المعجمة وَهُو الجمُوعُ المنُوعُ ، وَقِيلَ : الضَّخْمُ المُخْتَالُ فِي مِشْيَتِهِ ، وقيلَ : الْقَصِيرُ الْبَطِينُ .
شرح أحاديث رياض الصالحين باب والفقراء والخاملين باب فضل ضعـفة المسلمين
32 ـ باب فضل ضعـفة المسلمين
والفقراء والخاملين
قال الله تعالى : ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَوةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ)(الكهف: 28) .
الـشـرح
قال رحمه الله تعالى : باب فضل ضعفاء المسلمين وفقرائهم والخاملين منهم .
المراد بهذا الباب : تسلية من قدّر الله عليه أن يكون ضعيفاً في بدنه ، أو ضعيفاً في عقله ، أو ضعيفاً في ماله ، أو ضعيفاً في جاهه أو غير ذلك مما يعدّه الناس ضعفاً ؛ فإن الله سبحانه وتعالى قد يجعل الإنسان ضعيفاً من وجه لكنه قوي عند الله عز وجل ، يحبه الله ويكرمه ، وينزله المنازل العالية ، وهذا هو المهم .
المهم أن تكون قوياً عند الله عز وجل ، وجيهاً عنده ، ذا شرف يكرمك الله به .
ثم ذكر قول الله تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم في قوله : ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَوة وَالْعَشِيّ ) [الكهف: 28] . اصبر نفسك أي : احبسها مع هؤلاء القوم الذين يدعون الله بالغداة : أول النهار والعشي : آخر النهار ، والمراد بالدعاء هنا : دعاء المسألة ودعاء العبادة .
فإن دعاء المسألة يعتبر دعاء ؛ كقوله تعالى في الحديث القدسي : (( من يدعوني فأستجيب له )) ( 22 ) .
وقال تعالى : ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) [غافر: 60] .
ودعاء عبادة ، وهو أن يتعبد الإنسان لربه بما شرعه ؛ لأن العابد يدعو بلسان الحال ، ولسان المقال .
فالصلاة مثلاً عبادة تشتمل على قراءة القرآن ، وذكر الله ، وتسبيحه ، ودعائه أيضاً ، والصوم عبادة وإن كان في جوهره ليس فيه دعاء ، لكن الإنسان لم يصم إلا رجاء ثواب الله ، وخوف عقاب الله ، فهو دعاء بلسان الحال .
وقد تكون العبادة دعاءً محضاً يدعو الإنسان ربه بدعاء فيكون عابداً له ، وإن كان مجرد دعاء ؛ لأن الدعاء يعني افتقار الإنسان إلى الله ، وإحسان ظنه به ، ورجاءه ، والخوف من عقابه .
فقوله تعالى : ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ) ، يدعون ربهم : أي يسألونه حاجاتهم ، ويعبدونه ؛ لأن العابد داعٍ بلسان الحال ، بالغداة : أول النهار ، والعشي : آخر النهار ، ولعل المراد بذلك : يدعون ربهم دائماً ، لكنهم يخصون الغداة والعشي بدعائه الخاص ، ( يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) يعني لا يريدون عرضاً من الدنيا ، إنما يريدون وجه الله عز وجل .
( وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ) يعني لا تتجاوز عيناك إلى غيرهم ؛ بل كن دائماً ناظراً إليهم ، وكن معهم في دعائهم وعبادتهم وغير ذلك ، وهذا كقوله تعالى : ( وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) (طـه:131) فقوله تعالى : ( وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ) يعني : اجعل عينيك دائماً فيهم .
وهنا قال : ( وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) أي : لا تنظر إلى أهل الدنيا وما متعوا به من النعيم ، ومن المراكب ، والملابس ، والمساكن ، وغير ذلك .
فكل هذا زهرة الدنيا ، والزهرة آخر مآلها الذبول واليبس والزوال ، وهي أسرع أوراق الشجرة ذبولاً وزوالاً ، ولهذا قال : زهرة ، وهي زهرة حسنة في رونقها وجمالها وريحها ـ إن كانت ذات ريح ـ لكنها سريعة الذبول ، وهكذا الدنيا ، زهرة تذبل سريعاً ، نسأل الله أن يجعل لنا حظاً ونصيباً في الآخرة .
يقول ( لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) ، أي : رزق الله بالطاعة ، كما قال تعالى : ( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)(طـه:132)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى شيئاً يعجبه من الدنيا قال (( اللهم إن العيش عيش الآخرة )) ( 23 ) كلمتان عظيمتان ، فالإنسان إذا نظر إلى الدنيا ربما تعجبه فيلهو عن طاعة الله ، فينبغي أن يذكر نعيم الآخرة عند ذلك ، ويقارن بينه وبين هذا النعيم الدنيوي الزائل ، ثم يوطن نفسه ويرغبها في هذا النعيم الأخروي الذي لا ينقطع، ويقول : (( اللهم إن العيش عيش الآخرة )) .
وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فعيش الدنيا مهما كان زائل ، ومهما كان فمحفوف بالحزن ، ومحفوف بالآفات ، ومحفوف بالنقص ، وكما يقول الشاعر في شعره الحكيم :
لا طيب للعيش مـا دامت منغصةً لذاتـه بـادكـارِ الـموت والهـم
والعيش مآله أحد أمرين :
إما الهرم حتى يعود الإنسان إلى سن الطفولة ، والضعف البدني مع الضعف العقلي ، ويكون عالة حتى على أهله .
وإما الموت ، فكيف يطيب العيش للإنسان العاقل ؟ ولولا أنه يؤمل ما في الآخرة ؛ وما يرجوه من ثواب الآخرة ، لكانت حياته عبثاً .
ومهما يكن من أمر فقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصبر نفسه مع هؤلاء الذين يدعون الله بالغداة والعشي يريدون وجهه ، والآية ليس فيها أمر بالضعفاء خاصة ، وإن كان سبب النزول هكذا ، لكن العبرة بالعموم . الذين يدعون الله ويعبدونه سواء أكانوا ضعفاء أم أقوياء ، فقراء أم أغنياء كن معهم دائماً .
لكن الغالب أن الملأ والأشراف يكونون أبعد عن الدين من الضعفاء والمستضعفين ، ولهذا فالذين يكذبون الرسل هم الملأ ، قال الملأ من قوم صالح : ( قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ ) [االأعراف: 75] ، فنسأل الله أن يجعلنا وإياكم مع أهل الحق ودعاة الحق وأنصاره إنه جواد كريم .
* * *
1/252 ـ عن حارثة بن وهب رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ((ألا أخبركم يأهل الجنة ؟ كل ضعيف متضعف ، لو أقسم على الله لا بره . ألا أخبركم بأهل النار ؟ كل عتلٍ جواظٍ مستكبر )) متفق عليه( 24 ) .
(( العتل )) : الغليظ الجافي : (( والجواظ )) بفتح الجيم وتشديد الواو وبالظاء المعجمة : هو الجموع المنوع ، وقيل : الضخم المختال في مشيته ، وقيل : القصير البطين .
الـشـرح
ذكر المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن حارثة بن وهب رضي الله عنه في باب ضعفاء المسلمين وأذلاءهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( ألا أخبركم بأهل الجنة ؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره )) يعني هذه من علامات أهل الجنة ؛ أن الإنسان يكون ضعيفاً متضعفاً ، أي : لا يهتم بمنصبه أو جاهه ، أو يسعى إلى علو المنازل في الدنيا ، ولكنه ضعيف في نفسه متضعف ، يميل إلى الخمول وإلى عدم الظهور ؛ لأنه يرى أن المهم أن يكون له جاه عند الله عز وجل ، لا أن يكون شريفاً في قومه أو ذا عظمة فيهم ، ولكن يرى أن الأهم كله أن يكون عند الله سبحانه وتعالى ذا منزلة كبيرة عالية .
ولذلك تجد أهل الآخرة لا يهتمون بما يفوتهم من الدنيا ؛إن جاءهم من الدنيا شيء قبلوه ، وإن فاتهم شيء لم يهتموا به؛ لأنهم يرون أن ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وأن الأمور بيد الله ، وإن تغيير الحال من المحال، وأنه لا يمكن رفع ما وقع ولا دفع ما قدر إلا بالأسباب الشرعية التي جعلها الله تعالى سبباً .
وقوله : (( لو أقسم على الله لأبره )) يعني لو حلف على شيء ليسره الله له أمره ، حتى يحقق له ما حلف عليه ، وهذا كثيراً ما يقع ؛ أن يحلف الإنسان على شيء ثقة بالله عز وجل ، ورجاء لثوابه فيبر الله قسمه ، وأما الحالف على الله تعالياً وتحجراً لرحمته ، فإن هذا يخذل ، والعياذ بالله .
وهاهنا مثلان :
المثل الأول : أن الربيع بنت النضر رضي الله عنهما وهي من الأنصار، كسرت ثنية جارية من الأنصار ، فرفعوا الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تكسر ثنية الربيع ، لقول الله تعالى : ( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْس) إلى قوله : ( وَالسِّنَّ بِالسِّنّ) [المائدة : 45] فقال أخوها أنس بن النضر : والله يا رسول الله لا تكسر ثنية الربيع ، فقال (( يا أنس كتاب الله القصاص )) فقال : والله لا تكسر ثنية الربيع .
أقسم بهذا ليس ذلك رداً لحكم الله ورسوله ، ولكنه يحاول بقدر ما يستطيع أن يتكلم مع أهلها حتى يعفوا ويأخذوا الدية ، أو يعفوا مجاناً ، كأنه واثق من موافقتهم ، لا رداً لحكم الله ورسوله ، فيسر الله سبحانه وتعالى ؛ فعفى أهل الجارية عن القصاص ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)) ( 25 ) .
وهنا لا شك أن الحامل لأنس بن النضر هو قوة رجائه بالله عز وجل ، وأن الله سييسر من الأسباب ما يمنع كسر ثنية أخته الربيع .
أما المثل الثاني : الذي أقسم على الله تألياً وتعارضاً وترفعاً فإن الله يخيب آماله ، ومثال ذلك الرجل الذي كان مطيعاً لله عز وجل عابداً ، يمر على رجل عاص ، كلما مر عليه وجده على المعصية ، فقال : والله لا يغفر الله لفلان ، حمله على ذلك الإعجاب بنفسه ، والتحجر بفضل الله ورحمته ، واستبعاد رحمة الله عز وجل من عباده .
فقال الله تعالى (( من ذا الذي يتألى علي ـ أي يحلف على ـ ألا أغفر لفلان . قد غفرت له ، وأحبطت عملك )) ( 26 ) ، فانظر الفرق بين هذا وهذا .
فقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (( إن من عباد الله )) (( من )) هنا للتبعيض ، (( إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره )) وذلك فيمن أقسم على الله ثقة به ، ورجاء لما عند الله عز وجل .
ثم قال صلى الله عليه وسلم : (( ألا أخبركم بأهل النار ، كل عتل جواظ مستكبر )) ؛ هذه علامات أهل النار.
(( عتل )) : يعني أنه غليظ جاف ، قلبه حجر والعياذ بالله ؛ كالحجارة أو أشد قسوة . (( جواظ مستكبر )) الجواظ فيه تفاسير متعددة ، قيل إنه الجموع المنوع ، يعني الذي يجمع المال ويمنع ما يجب فيه .
والظاهر أن الجواظ هو الرجل الذي لا يصبر ، فجواظ يعني جزوع لا يصبرعلى شيء ، ويرى أنه في قمة أعلى من أن يمسه شيء .
ومن ذلك قصة الرجل الذي كان مع الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة ، وكان شجاعاً لا يدع شاذة ولا فاذة للعدو إلا قضى عليها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن هذا من أهل النار )) ، فعظم ذلك على الصحابة ، وقالوا : كيف يكون هذا من أهل النار وهو بهذه المثابة ؟ ثم قال رجل : والله لألزمنه يعني لأ لازمه حتى أنظر ماذا يكون حاله ، فلزمه فأصاب هذا الرجل الشجاع سهم من العدو . فعجز عن الصبر وجزع ثم أخذ بذبابة سيفه فوضعه في صدره ثم اتكأ عليه حتى خرج السيف من ظهره والعياذ بالله ، فقتل نفسه . فجاء الرجل للرسول صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أشهد أنك لرسول الله ، قال (( ويم ؟ )) قال : لأن الرجل الذي قلت إنه من أهل النار ، فعل كذا وكذا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار )) ( 27 ) . فانظر إلى هذا الرجل جزع وعجز أن يتحمل فقتل نفسه .
فالجواظ هو الجزوع الذي لا يصبر ، دائماًُ في أنين وحزن وهمّ وغمّ ، معترضاً على القضاء والقدر ، لا يخضع له ، ولا يرضى بالله رباً .
وأما المستكبر فهو الذي جمع بين وصفين : غمط الناس ، وبطر الحق ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( الكبر بطر الحق ، وغمط الناس ))( 28 ) وبطر الحق : يعني رده، وغمط الناس: يعني احتفارهم، فهو في نفسه عال على الحق، وعال على الخلق ، لا يلين للحق ولا يرحم الخلق والعياذ بالله .
فهذه علامات أهل النار . نسأل الله أن يعيذنا وإياكم من النار ، وأن يدخلنا وإياكم الجنة . إنه جواد كريم .
* * *
2/253 ـ وعن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال : مر رجل على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لرجل عنده جالس : (( ما رأيك في هذا ؟ )) فقال : رجل من أشراف الناس ، هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع . فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم مر رجل آخر ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ما رأيك في هذا )) فقال : يا رسول الله ، هذا رجل من فقراء المسلمين هذا حري إن خطب أن لا ينكح ، وإن شفع أن لا يشفع ، وإن لا يسمع لقوله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( هذا خير من ملء الأرض مثل هذا )) متفق عليه ( 29 ) .
قوله ((حري )) : هو بفتح الحاء وكسر الراء وتشديد الياء : أي حقيق . وقوله : (( شفع )) بفتح الفاء .
الـشـرح
ذكر المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه ، قال : مر رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لرجل : (( ما تقول في هذا ؟ )) قال : رجل من أشراف الناس ، حري إن خطب أن ينكح ، وإن شفع أن يشفع ، ثم مر رجل آخر ، فسأل عنه فقال : هذا رجل من ضعفاء المسلمين ، حري إن خطب ألا ينكح ، وإن شفع ألا يشفع ، وإن قال ألا يسمع لقوله .
فهذان رجلان أحدهما من أشراف القوم ، وممن له كلمة فيهم ، وممن يجاب إذا خطب ، ويسمع إذا قال ، والثاني بالعكس ، رجل من ضعفاء الناس ليس له قيمة ، إن خطب فلا يجاب ، وإن شفع فلا يشفع ، وإن قال فلا يسمع .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( هذا خير من ملء الأرض مثل هذا )) أي : خير عند الله عز وجل من ملء الأرض من مثل هذا الرجل الذي له شرف وجاه في قومه ؛ لأن الله سبحانه وتعالى ليس ينظر إلى الشرف ، والجاه ، والنسب ، والمال ، والصورة ، واللباس ، والمركوب ، والمسكون ، وإنما ينظر إلى القلب والعمل ، فإذا صلح القلب فيما بينه وبين الله عز وجل ، وأناب إلى الله ، وصار ذاكراً لله تعالى خائفاً منه ، مخبتاً إليه ، عاملاً بما يرضي الله عز وجل ، فهذا هو الكريم عند الله ، وهذا هو الوجيه عنده ، وهذا هو الذي لو أقسم على الله لأبره .
فيؤخذ من هذا فائدة عظيمة وهي أن الرجل قد يكون ذا منزلة عالية في الدنيا ، ولكنه ليس له قدر عند الله ، وقد يكون في الدنيا ذا مرتبة منحطة وليس له قيمة عند الناس وهو عند الله خير من كثير ممن سواه ـ نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من الوجهاء عنده ، وأن يجعل لنا ولكم عنده منزلة عالية ، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .
* * *
3/254 ـ وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( احتجت الجنة النار فقالت النار : في الجبارون والمتكبرون ، وقالت الجنة : في ضعفاء الناس ومساكينهم فقضى الله بينهما : إنك الجنة رحمتي أرحم بك من أشاء ، وإنك النار عذابي أعذب بك من أشاء ، ولكليكما علي ملؤها )) رواه مسلم( 30 ) .
الـشـرح
ذكر المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( احتجت الجنة والنار )) يعني : تحاجا فيما بينهما ، كل واحدة تدلي بحجتها ، وهذا من الأمور الغيبية
التي يجب علينا أن نؤمن بها حتى وإن استبعدتها العقول وقال الإنسان : كيف تتحاج الجنة والنار وهما جمادان ؟!
فإننا نقول إن الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير ، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أن الأرض يوم القيامة تحدث أخبارها بما أوحى الله إليها به ، فإذا أمر الله شيئاً بشيء ؛ فإن هذا المأمور سيستجيب على كل حال ، الأيدي يوم القيامة والألسن والأرجل والجلود كلها تشهد ، مع أنها جماد ، وتشهد على صاحبها مع أنها أقرب الناس إليه ؛ لأن الله سبحانه وتعالى على كل شيءِ قدير.
فالجنة احتجت على النار ، والنار احتجت على الجنة . النار احتجت بأن فيها الجبارين والمتكبرين .
الجبارون أصحاب الغلظة والقسوة ، والمتكبرون أصحاب الترفع والعلو ، والذين يغمطون الناس ويردون الحق ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الكبر : (( إنه بطر الحق وغمط الناس ))( 31 ) .
فأهل الجبروت وأهل الكبرياء هم أهل النار والعياذ بالله ، وربما يكون صاحب النار لين الجانب للناس ، حسن الأخلاق ، لكنه جبار بالنسبة للحق ، مستكبر عن الحق ، فلا ينفعه لينه وعطفه على الناس ، بل هو موصوف بالجبروت والكبرياء ولو كان لين الجانب للناس ؛ لأنه تجبر واستكبر عن الحق .
أما الجنة فقالت : إن فيها ضعفاء الناس وفقراء الناس . فهم في الغالب الذين يلينون للحق وينقادون له ، وأما أهل الكبرياء والجبروت ؛ ففي الغالب أنهم لا ينقادون .
فقضى الله عز وجل بينهما فقال : ((إنك الجنة رحمتي أرحم بك من أشاء )) وقال للنار : ((إنك النار عذابي أعذب بك من أشاء )) إنك الجنة رحمتي : يعني أنها الدار التي نشأت من رحمة الله، وليست رحمته التي هي صفته؛ لأن رحمته التي هي صفته وصف قائم به ، لكن الرحمة هنا مخلوق ، أنت رحمتي يعني خلقتك برحمتي ، أرحم بك من أشاء .
وقال للنار أنت عذابي أعذب بك من أشاء كقوله تعالى : ( يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ )[العنكبوت: 21] فأهل الجنة هم أهل رحمة الله ـ نسأل الله أن يجعلني وإياك منهم ـ وأهل النار هم أهل عذاب الله .
ثم قال عز وجل : (( ولكليكما عليَّ ملؤها )) تكفل عز وجل وأوجب على نفسه أن يملأ الجنة ويملأ النار ، وفضل الله سبحانه وتعالى ورحمته أوسع من غضبه ، فإنه إذا كان يوم القيامة ألقى من يلقى في النار ، وهي تقول هل من مزيد ، يعني أعطوني . أعطوني . زيدوا . فيضع الله عليها رجله ، وفي لفظ عليها قدمه ، فينزوي بعضها على بعض ، ينضم بعضها إلى بعض من أثر وضع الرب عز وجل عليها قدمه ، وتقول : قط قط ، يعني : كفاية كفاية ، وهذا ملؤها .
أما الجنة فإن الجنة واسعة ، عرضها السَّمَوَاتِ والأرض يدخلها أهلها ويبقى فيها فضل زائد على أهلها ، فينشى الله تعالى لها أقواماً فيدخلهم الجنة بفضله ورحمته ؛ لأن الله تكفل لها بملئها .
ففي هذا دليل على أن الفقراء والضعفاء هم أهل الجنة ؛ لأنهم في الغالب هم الذين ينقادون للحق ، وأن الجبارين المتكبرين هم أهل النار والعياذ بالله ؛ لأنهم مستكبرون على الحق وجبارون . لا تلين قلوبهم لذكر الله ، ولا لعباد الله . نسأل الله لنا ولكم السلامة والعافية .
* * *
------------------------