الموت : زَوَالُ الْحَيَاةِ عَنْ كُلِّ كَائِنٍ حَيٍّ ، آل عمران آية 185 كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)}
ونلاحظ أن كلمة {ذَآئِقَةُ} جاءت أيضاً هنا، ونعرف أن هناك (قتلا) وهناك (موتا)، فالموت معناه أعم وهو: انتهاء الحياة سواء أكان بنقض البنية مثل القتل، أم بغير نقض البنية مثل خروج الروح وزهوقها حتف الأنف، ولذلك فالعلماء الذين يدققون في الألفاظ يقولون: هذا المقتول لو لم يُقتل، أكان يموت؟ نقول: نعم؛ لأن المقتول ميت بأجله، لكن الذي قتله هل كان يعرف ميعاد الأجل؟ لا. إذن فهو يُعاقب على ارتكابه جريمة إزهاق الروح، أمّا المقتول فقد كتب الله عليه أن يفارق الحياة بهذا العمل.
إذن فكل نفس ذائقة الموت
إما حتف الأنف – لقي حتفه –
وإمّا بالقتل. ولأن الغالب في المقتولين أنهم شهداء، والشهداء أحياء،
لكن الكل سيموت. يقول تعالى:
{وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله} [الزمر: 68].
انظروا إلى دقة العبارة: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القيامة}
أي إياكم أن تنتظروا نتيجة إيمانكم في هذه الدنيا،
لأنكم إن كنتم ستأخذون على إيمانكم ثوابا في الدنيا فهذا زمن زائل ينتهي،
فثوابكم على الإيمان لابد أن يكون في الآخرة لكي يكون ثوابا لاينتهي.
ونعرف ما حدث في بيعة العقبة الثانية؛ حينما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأنصار عهوداً،
قالوا: فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟
لم يقل لهم صلى الله عليه وسلم ستنتصرون أو ستملكون الدنيا،
بل قال: (الجنة)
قالوا: ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه،
فلو وعدهم بأي شيء في الدنيا
لقال له أي واحد فطن منهم: ما أهونها،
لذلك عندما قال واحد لصاحبه:
أنا أُحبك قدر الدنيا؛
فقال له: وهل أنا تافه عندك لهذه الدرجة؟
فكأن الحق سبحانه وتعالى يقول:
إياكم أن تفهموا أن جزاء الإيمان يكون في الدنيا،
لأنه لو كان في الدنيا لكان زائلاً ولكان قليلا كجزاء على الإيمان،
لأن الإيمان وصل بغير منتهٍ وهو الله،
فلابد أن يكون الجزاء غير منتهٍ وهو الجنة،
فقال: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ}..
وأخذ أهل اللمح من كلمة (توفون)
أن هناك مقدمات؛
لأن معنى (وفيته أجره) أي أعطيته وبقي له حاجة وأكمل له،
نعم هو سبحانه يعطيهم حاجات إيمان، ويكفي إشراقة الإيمان في نفس المؤمن،
فالجواب لابد أن يكون متمشياً مع منطق من يسمع هذه الآية؛
فقد يموت من يسمعها بعد قليل في معركة،
وما دام قد مات في المعركة فهو لم ير انتصاراً، ولم ير غنائم ولا أي شي،
فماذا يكون نصيبه؟
إنه يأخذ نصيبه يوم القيامة (توفون)
فمن نال منها شيئاً في الدنيا بالنصر، بالغنائم، بالزهو الإيماني على أنه انتصر على الكفر فهذا بعض الأجر،
إنما الوفاء بكامل الأجر سيكون في الآخرة،
لأن كلمة التوفية تفيد أن توفية الأجور وتكميلها يكون في يوم القيامة،
وأن ما يكون قبل ذلك فهو بعض الأجور التي يستحقها العاملون.
ويقول الحق: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ}
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها اقرأوا إن شئتم: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَاز}».
وعندما تقول:
زحزحت فلاناً،
معناها أنه كان متوقفا برعب،
فكيف يحدث ذلك عند النار؟.
ونعرف أن النار سببها المعصية،
والمعصية كانت لها جاذبية للعصاة،
ويأتي الإيمان ليشدهم فتأخذهم جاذبية المعصية، فكذلك يكون الجزاء بالنار.
إذن فالنار لها جاذبية لأنها ستكون في حالة غيظ..
ولذلك يقول ربنا: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ} [الملك: 8].
النار تتميز من الغيظ على الكافرين.
وما معنى تميز من الغيظ؟
أما رأيت قِدْراً يفور؟
ساعة يفور القدر
فإن بعض الفقاقيع تخرج منه
وتنفصل عما في القدر،
وهذا (تميز) أي تفترق،
والإنسان منا عندما يكون في حالة غيظ تخرج منه أشياء كفقاقيع غليان القدر
إنه يرغي ويزبد
أي اشتد غضبه،
وهذه الفقاقيع
تحرق من يقف أمامها أو يلمسها،
وهي من شدة الفوران
تميز بعضها وانفصل عن القدر،
كذلك النار،
ولماذا تميز من الغيظ؟
إنها تميز من الغيظ من الكافرين؛
لأنها أصلها مٌسبحة حامدة شاكرة،
وبعد ذلك يقول لها الحق:
{هَلِ امتلأت} [ق: 30] وتقول {هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30].
وذلك مما يدل على أن كلمة: {تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ} حقيقة؛
ولذلك يبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النار لها جاذبية،
فالنار إنما كانت نتيجة المعصية في الدنيا،
والمعصية في الدنيا هي التي تجذب العصاة،
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك:
(مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا فجعل الفراش والجنادب يَقعْن فيها وهو يذبّهُنّ عنها، وأنا آخذ بِحُجُزكم عن النار وأنتم تَفَلّتُون من يدي)
انظر إلى التشبيه الجميل-
حين توقد ناراً في خلاء
فأول مظهر هو أن ترى الفراش والهوامّ والبعوض تأتي على النار،
ولذلك يقولون:
رُبّ نفس عشقت مصرعها.
لقد جاءت تلك الحشرات على أساس
أنها جاءت للنور،
إننا نرى ذلك عندما نٌشعِل موقداً في الخلاء فأنت تجد حوله الكثير من هذه الحشرات صرعى،
تلك الحشرات عشقت مصرعها،
إنها قد جاءت إلى النور
ولكن النار أحرقتها،
كذلك الإنسان العاصي يعشق مصرعه؛ لأنه لا يعرف أن هذه الشهوة ستدخله النار.
{فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار}
أي أن النار لها جاذبية
مثل جاذبية المعصية عندما تأخذ الإنسان،
ومجرد الزحزحة عن النار،
حتى وإن وقف بينهما
لا في النار ولا في الجنة فهذا حسن،
فما بالك إنْ زُحزح عن النار وأُدخل الجنة؟ لقد زال منه عطب وأعطى صالحاً.
وهذه حاجة حسنة،
وهذا هو السبب في أن النار مضروب على متنها الصراط الذي سنمر عليه،
لماذا؟
حتى يرى المؤمن النار..
وهو ماشٍ على الصراط التي لو لم يكن مؤمناً لنزل فيها، فيقول:
الحمد لله الذي نجاني من تلك النار.
{فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ}
والفوز هو النجاة مما تكره، ولقاء ما تحب،
مجرد النجاة مما تكره نعمة،
وأن تذهب بعد النجاة مما تكره إلى نعمة،
فهذا فوز.
ونلحظ في {زُحْزِحَ}
أن أحداً غيره قد زحزحه.
نعم لأنّ الله تكرّم عليه أولاً في حياته بفيض الإيمان
وهو الذي زحزحه عن النار أيضا.
ويذيل الحق الآية بقوله تعالى:
{وَما الحياة الدنيا إِلاَّ مَتَاعُ الغرور}.
وعندما يصف الحق سبحانه الحياة التي نعرفها بأنها (دنيا)
ففي ذلك ما يشير إلى أن هناك حياة توصف بأنها (غير دنيا)
وغير الدنيا هي (العليا)،
ولذلك يقول الحق في آية أخرى:
{وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64].
أي هي الحياة التي تستحق أن تُسمّى حياة؛
لأن الدنيا لا يقاس زمانها ببدايتها إلى قيام الساعة، لأن تلك الحياة بالنسبة للكون كله،
ولكن لكل فرد في الحياة دنيا
ليس عمرها كذلك،
وإنما دنيا كل فرد هي مقدار حياته فيها.
ومقدار حياته فيها لا يُعلم
أهو لحظة أم يومٍ أم شهر أم قرن.
وقصارى الأمر أنها محدودة حداً خاصا لكل عمر، وحداً عاماً لكل الأعمار.
والمتعة في الدنيا على قدر حظ الإنسان في المتع،
فهي على قدر إمكاناته.
فإذا نظرنا إلى الدنيا بهذا المعيار
فإن متاعها يعتبر قليلاً،
ولهذا لا يصح ولا يستقيم أن يغتر الإنسان بهذه المتعة متذكراً قول الله:
{كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى} [العلق: 6-7].
فالغرور إذن
أن تلهيك متعة قصيرة الأجل
عن متعة عالية لا أمد لانتهائها،
عن متعة غالية الثمن ,
فحتى لا يغتر عائش في الدنيا
فيلهو بقليلها عن كثير عند الله في الآخرة
يجب أن يقارن متعة أجلها محدود وإن طال زمانها بمتعة لا أمد لانتهائها أمدها ممدود ،
لا تلهيك متعة قصيرة متعة على قدر إمكاناتك عن متعة على قدر سعة كمال فضل الله؛
لذلك كانت الحياة الدنيا متاع غرور
ممن غُرّ بالتافه القليل عن العظيم الجليل.
والله لم يظلم الدنيا فوصفها أنها متاع،
ولكن نبهنا إلى أنها ليست المتاع الذي يُغتَرّ به فيلهي عن متاع أبقى،
إنه الخلود.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى لرسوله ولأتباع رسوله قضية تُنشئ فيهم وتؤكد لهم أن الإيمان وحده خير جزاء للمؤمن، وإن لم يتأت له في الدنيا شيء من النعيم،
ولذلك أراد أن يوطنهم على أن الذين يدخلون الإيمان، لا يوطِّنون أنفسهم على أن الايمان دائماً منتصر،
فلو كان دائماً منتصراً لوطّن كل واحد نفسه عليه ورضيه لأنه يضمن له حياة مطمئنة؛
لذلك كان لابد أن يوضح لهم: أن هناك ابتلاءات.
فالقضية الإيمانية أن تبتلوا،
وموقع البلاء في نفوسكم أو في أموالكم، فقال:
{لَتُبْلَوُنَّ في أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً...}.
.