وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالّذِينَ تَفَرّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيّنَاتُ وَأُوْلَـَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدّ وُجُوهٌ فَأَمّا الّذِينَ اسْوَدّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمّا الّذِينَ ابْيَضّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعَالَمِينَ * وَللّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِلَىَ اللّهِ تُرْجَعُ الاُمُورُ
يقول تعالى: {ولتكن منكم أمة} منتصبة للقيام بأمر الله في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، {وأولئك هم المفلحون}، قال الضحاك: هم خاصة الصحابة وخاصة الرواة، يعني المجاهدين والعلماء. وقال أبو جعفر الباقر: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير} ثم قال «الخير اتباع القرآن وسنتي» رواه ابن مردويه. والمقصود من هذه الاَية، أن تكون فرقة من هذه الأمةمتصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجباً على كل فرد من الأمة بحسبه، كما ثبت في صحيح مسلم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من رأى منكم منكرأً فيلغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» وفي رواية: وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل»
وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان الهاشمي، أنبأنا إسماعيل بن جعفر، أخبرني عمرو بن أبي عمرو، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأشهلي، عن حذيفة بن اليمان، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم» ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث عمرو بن أبي عمرو به، وقال الترمذي: حسن، والأحاديث في هذا الباب كثيرة، مع الاَيات الكريمة، كما سيأتي تفسيرها في أماكنها، ثم قال تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات} الاَية، ينهى تبارك وتعالى هذه الأمة أن يكونوا كالأمم الماضين في افتراقهم واختلافهم وتركهم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، مع قيام الحجة عليهم
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة، حدثنا صفوان، حدثني أزهر بن عبد الله الهوزني، عن أبي عامر عبد الله بن لُحَيّ، قال: حججنا مع معاوية بن أبي سفيان فلما قدمنا مكة، قام حين صلى الظهر، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاثة وسبعين ملة ـ يعني الأهواء ـ كلها في النار إلا واحدة ـ وهي الجماعة ـ وإنه سيخرج في أمتي أقوام تُجَارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله» والله يا معشر العرب، لئن لم تقوموا بما جاء به نبيكم صلى الله عليه وسلم لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به، وهكذا رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل ومحمد بن يحيى، كلاهما عن أبي المغيرة واسمه عبد القدوس بن الحجاج الشامي به، وقد ورد هذا الحديث من طرق
وقوله تعالى: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} يعني يوم القيامة، حين تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة قاله ابن عباس رضي الله عنهما، {فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم} قال الحسن البصري: وهم المنافقون {فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} وهذا الوصف يعم كل كافر {وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون} يعني الجنة ماكثون فيها أبداً لا يبغون عنها حولاً، وقد قال أبو عيسى الترمذي عند تفسير هذه الاَية: حدثنا أبو كريب، حدثنا وكيع عن ربيع بن صبيح وحماد بن سلمة، عن أبي غالب، قال: رأى أبو أمامة رؤوساً منصوبة على درج مسجد دمشق، فقال أبو أمامة، كلاب النار شر قتلى تحت أديم السماء خير قتلى من قتلوه، ثم قرأ { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} إلى آخر الأية، قلت لأبي أمامة: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟: قال: لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا أو أربعاً ـ حتى عد سبعاً ـ ما حدثتكموه، ثم قال: هذا حديث حسن، وقد رواه ابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة عن أبي غالب وأخرجه أحمد في مسنده عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي غالب بنحوه
وقد روى ابن مردويه عند تفسير هذه الاَية عن أبي ذر حديثاً مطولاً غريباً عجيباً جداً، ثم قال تعالى: {تلك آيات الله نتلوها عليك} أي هذه آيات الله وحججه وبيناته نتلوها عليك يا محمد {بالحق} أي نكشف ما الأمر عليه في الدنيا والاَخرة {وما الله يريد ظلماً للعالمين} أي ليس بظالم لهم بل هو الحكم، العدل الذي لا يجور، لأنه القادر على كل شيء، العالم بكل شيء، فلا يحتاج مع ذلك إلى أن يظلم أحداً من خلقه، ولهذا قال تعالى: {ولله ما في السموات وما في الأرض} أي الجميع ملك له وعبيد له {وإلى الله ترجع الأمور} أي هو الحاكم المتصرف في الدنيا والاَخرة
.