العبودية لله وحده
و لو أراد الله سبحانه و تعالى من عباده الصلاة و التسبيح فقط لما خلقهم مختارين، بل خلقهم مقهورين لعبادته ككل ما خلق ما عدا الإنس و الجن، فهو سبحانه يريد من الإنس و الجن عبادة المحبوبية.. و لذلك خلقنا و لنا اختيار في أن نأتيه أو لا نأتيه.. في أن نطيعه أو نعصيه.. في أن نؤمن به أو لا نؤمن. قال تعالى في فاتحة الكتاب: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) و عندما نقول : ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) أي أننا نعبد الله وحده. إذن فالمطلوب منها هو العبادة. فالله سبحانه و تعالى خلقنا لنعبده، و لكن علة الخلق ليست لأن هذه العبادة ستزيد شيئاً من ملكه، و إنما عبادتنا تعود علينا نحن بالخير في الدنيا و الآخرة، فالمأمور هو الذي سينتفع بها. و رب العزة سبحانه يقول في الحديث القدسي: ( يا عبادي؛ إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني و لن تبلغوا نفعي فتنفعي، يا عبادي، لو أن أولكم و آخركم و إنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً.. يا عبادي لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئاً) فعبادتك له لن تنفعه سبحانه بشيء و لن يزيد في ملكه شيئاً، و معصيتك و عدم عبادتك له لن تضره بشيء و لن تنقص من ملكه شيئاً، فسبحانه لا يلحقه ضرراً بذنبك، و إنما الذنب يلحقك أنت. و الله سبحانه و تعالى خلقنا في الحياة لنعبده... مصداقاً لقوله تعالى ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )) إذن؛ فعلة الخلق هي العبادة، و لقد تم الخلق العبادة و تصبح واقعاً. و العبادة هي إطاعة العابد لأمر المعبود، و هكذا يجب أن نفطن إلى أن العبادة لا تقتصر على إقامة الأركان التعبدية في الدين من شهادة أن لا إله إلا الله و أن محمد رسول الله، و إقامة الصلاة، و إيتاء الزكاة، و صوم رمضان، و حج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً. إن هذه هي أركان الإسلام، و لا يستقيم أن ينفصل الإنسان عن ربه بين أوقات الأركان التعبدية. إن الأركان التعبدية لازمة؛ لأنها تشحن الطاقة الإيمانية في النفس حتى تقبل على العمل الخاص بعمارة الدنيا، و يجب أن نفطن إلى أن العبادة في الدنيا هي كل حركة تؤدي إلى إسعاد الناس و عمارة الكون. و يجب أن نعرف أن الأركان التعبدية هي تقسيم اصطلاحي وضعه العلماء في الفقه كباب العبادات و باب المعاملات. لكن علينا أن نعرف أن كل شيء يأمر به الله اسمه (عبادة) إذن؛ فالعبادة منها ما يصل العبد إلى المعبود ليأخذ الشحنة الإيمانية من خالقه، خالق الكون، و منها ما يتصل بعمارة الكون. و لذلك قلنا: إنك حينما تتقبل من الله أمراً بعبادة ما، فأنت تتلقاه و أنت موصول بأسباب الله بحثاً عن الرزق و غير ذلك من أمور الحياة. فالعبادة منهج يشمل الحياة كلها.. في بيتك، و في عملك، و في السعي في الأرض؟ و لو أراد الله سبحانه و تعالى من عباده الصلاة و التسبيح فقط لما خلقهم مختارين، بل خلقهم مقهورين لعبادته ككل ما خلق ما عدا الإنس و الجن، فهو سبحانه يريد من الإنس و الجن عبادة المحبوبية.. و لذلك خلقنا و لنا اختيار في أن نأتيه أو لا نأتيه.. في أن نطيعه أو نعصيه.. في أن نؤمن به أو لا نؤمن. فإذا كنت تحب الله فأنت تأتيه عن اختيار، تتنازل عما يغضبه حباً فيه، و ليس قهراً، فإذا تخليت عن اختيارك إلى مرادات الله في منهجه تكون قد حققت عبادة المحبوبية لله تبارك و تعالى، و تكون أصبحت من عباد الله و ليس من عبيد الله، فكلنا عبيد لله سبحانه وتعالى، و العبيد متساوون فيما يقهرون عليه، و لكن العباد الذين يتنازلون عن منطقة الاختيار لمراد الله في التكاليف. و لذلك فإن الله جل جلاله يفرق في القرآن الكريم بين العباد و العبيد. و يقول تعالى: ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)) و يقول سبحانه وتعالى : ((وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا 63 وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا 64 وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا )) و هكذا نرى أن الله سبحانه و تعالى أعطى أوصاف المؤمنين و سماهم عباداً، و لكن عندما يتحدث عن البشر جميعا يقول عبيد.. مصداقاً لقوله تعالى: ((ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ )) و الله سبحانه و تعالى قد أعطى الإنسان اختياره في الحياة الدنيا في العبودية، فلم يقهره في شيء، و لا يلزم غير المؤمن به بأي تكليف. من كتاب شرح الأحاديث القدسية للداعية الشيخ: محمد متولي الشعراوي رحمه الله
الــصــبــر
الحق سبحانه و تعالى يريد منا أن نصبر ابتغاء وجهه الكريم الصبر هو حبس النفس بحيث ترضى بمكروه نزل بها, و المكروه له مصدران: الأول: أمر لا غريم لك فيه فإن أصابك مثلا مرض أو عجز, أو فقدت أحد أولادك بموت, فهذا ليس لك غريم فيه, و لا تستطيع أن تفعل معه شيئا. الثاني: أمر لك غريم فيه كأن يعتدي عليك أحد, أو يسرق مالك أو غير ذلك. الأمر الذي لا غريم لك فيه: ليس أمامك إلا الصبر, و الأمر الذي لك غريم فيه تكون نفسك مشتعلة برغبة الانتقام, و لذلك يحتاج إلى صبر أكبر, و إلى صبر أطول, لأن غريمك أمامك, فنسفك تطالبك بالانتقام منه, و لذلك يفرق الله سبحانه و تعالى بين الصابرين , فيقول سبحانه و تعالى: ((وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)) و يقول سبحانه و تعالى في آية أخرى: ((وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)) ووجود اللام هنا يدلنا على أننا نحتاج إلى صبر على غريم لنا, و إلى قوة إرادة و عزيمة حتى نمنع أنفسنا من الانتقام. و الصبر له دوافع, فمن الناس من تأتيه أحداث شديدة فيظهر أمام الناس أنه أقوى من الأحداث التي لا تستطيع أن تنال منه, و أنه جلد, و أنه صبور فهذا صبر ليس لابتغاء وجه الله , و لكنه صبر ليبين نفسه أنه فوق الأحداث, أو صبر أمام أعدائه حتى لا يشمتوا فيه, فقد قال الشاعر: و تجلدي للشامتين أريهم *** أني لريب الدهر لا أتضعضع و لكن الحق سبحانه و تعالى يريد منا أن نصبر ابتغاء وجهه الكريم, فعندما ترى أمرا يحدث لك فاعرف أن فيه خيرا كثيرا, و اعلم أن لله فيه حكمة, ولو أنك خيرت بين ما كان يجب أن يقع و بين ما وقع لاخترت ما وقع. إذن.. فالذي صبر ابتغاء وجه الله ينظر إلى مناط الحكمة في مورد القضاء عليه, و لذلك يقول: أحمدك يا ربي على كل قضائك , و جميع قدرك حمد الرضا بحكمك لليقين بحكمتك ...هذا تيقن بالحكمة فلا تأخذ الأمور بسطحية. الفضيلة و الرذيلة/ محمد متولي الشعراوي