هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها نعرفها بآية الكرسي؛ لأن كلمة "الكرسي" هي الظاهرة فيها. وكلمة "الكرسي" فيها: تعني السلطان والقهر والقدرة والملكية وكلها مأخوذة من صفات الحق جل وعلا. إنه لا إله إلا هو. إنه الحي. إنه القيوم. إنه الذي لا تأخذه سنة ولا نوم. والشفاعة عنده مأذون فيها بإرادته هو وحده وليس بإرادة سواه. وهو العليم بكل شيء، الذي يسع كرسيه السماوات والأرض وهو العلي فلا أعلى منه، وهو العظيم بمطلق العظمة. وتتجمع كل هذه الصفات لتضع أمامنا أصول التصور في العقيدة الإيمانية، وقد وردت فيها أحاديث كثيرة، ومنها نستخلص أنها آية لها قدرها ومقدارها عند الله. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو الطعام فأخذته وقلت والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني محتاج، وعلى عيال، ولي حاجة شديدة. قال: فخليت عنه، فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم ـ يا أبا هريرة: "ما فعل أسيرك البارحة"؟ قال: قلت يا رسول الله: شكا حاجة شديدة وعيالا، فرحمته، فخليت سبيله، قال: "أما إنه كذبك وسيعود" فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ إنه سيعود، فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: دعني فإني محتاج، وعلي عيال لا أعود، فرحمته وخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة: "ما فعل أسيرك"؟ فقلت يا رسول الله: شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته فخليت سبيله قال: "أما إنه قد كذبك وسيعود" فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا آخر ثلاث مرات أنك تزعم لا تعود، قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها قلت: ما هي؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي "الله لا إله إلا هو الحي القيوم" حتى تختم الآية؛ فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما فعل أسيرك البارحة"؟ قلت يا رسول الله: زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله قال: "ما هي" قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم "الله لا إله إلا هو الحي القيوم"، وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، وكانوا (أي الصحابة) أحرص شيء على تعلم الخير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما أنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟ قال: لا، قال صلى الله عليه وسلم: "ذاك الشيطان".
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سورة البقرة فيها سيدة آي القرآن لا تقرأ في بيت فيه شيطان إلا خرج منه ـ آية الكرسي". وعن أبي أمامه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ دبر كل صلاة آية الكرسي لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت". وعن علي كرم الله وجهه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأها ـ يعني آية الكرسي ـ حين يأخذ مضجعة آمنه الله تعالى على داره، ودار جاره، وأهل دويرات حوله".
كل هذه المعاني قد وردت في أفضال هذه الآية الكريمة، وقد جلس العلماء يبحثون عن سر هذه المسألة فقال واحد منهم: انظروا إلى أسماء الله الموجودة فيها. وبالفعل قام أحد العلماء بحصر أسماء الله الحسنى فيها، فوجد أن فيها ستة عشر اسماً من أسماء الله، وبعضهم قال: إن بها سبعة عشر اسماً من أسماء الله الحسنى، وبعضهم قال أن فيها واحداً وعشرين اسماً من أسماء الله، كل ذلك من أجل أن يستنبطوا منها أشياء، ويعلموا فضل وفضائل هذه الآية الكريمة. والذين قالوا إن بها ستة عشر اسما من أسماء الله قالوا:
إن بها اسم علم واجب الوجود "الله". واسم "هو" في لا إله إلا هو: هو الاسم الثاني. و"الحي" هو الاسم الثالث. و"القيوم" هو الاسم الرابع.
وعندما ندقق في قول الحق "لا تأخذه سنة ولا نوم" نجد أن الضمير في "لا تأخذه عائد إلى ذاته ـ جل شأنه ـ.. و"له ما في السماوات وما في الأرض" فيها ضمير عائد إلى ذاته سبحانه وكذلك الضمائر في قوله: "عنده" و"بإذنه" و"يعلم" و"من علمه" و"بما شاء" و"كرسيه" كلها تعود إلى ذاته جل شأنه. و"لا يؤوده حفظهما" فيها ضمير عائد إلى ذاته كذلك.
و"هو" في قوله سبحانه "وهو العلي العظيم" اسم من أسمائه تعالى. و"العلي" اسم من أسمائه جل وعلا. و"العظيم" كذلك اسم من أسمائه سبحانه وتعالى. لكن عالماً آخر قال: إنها سبعة عشر اسماً من أسماء الله؛ لأنك لم تحسب الضمير في المصدر المشتق منه الفعل الموجود بقوله: "حفظهما" إن الضمير في "هما" يعود إلى السماوات والأرض. و"الحفظ" مصدر. فمن الذي يحفظ السماوات والأرض؟ إنه الله سبحانه وتعالى، وهكذا أصبحوا سبعة عشر اسماً من أسماء الله الحسنى في آية الكرسي. وعالم ثالث قال: لا، أنتم تجاهلتم أسماء أخرى؛ لأن في الآية الكريمة أسماء واضحة للحق جل وعلا، وهناك أسماء مشتقة، مثال ذلك: الله لا إله إلا هو. الحي هو. القيوم هو. العلي هو. العظيم هو. ولكن العلماء قالوا ردا على ذلك: صحيح أنها أسماء مشتقة ولكنها صارت أعلاما. المهم أن في الآية الكريمة ستة عشر اسماً، وإن حسبنا الضمير المستتر في "حفظهما" نجد أنها سبعة عشر اسماً، وإذا حسبنا الضمير الموجود في المشتقات مثل "الحي هو" و"القيوم هو" و"العلي هو" و"العظيم هو". صارت أسماء الله الحسنى الموجودة في هذه الآية الكريمة واحداً وعشرين اسماً. إذن هي آية قد جمعت قدراً كبيرا من أسماء الله، ومن ذلك جاءت عظمتها.
وهذه الآية الكريمة قد بينت ووضحت قواعد التصور الإيماني، وأنشأت عقيدة متكاملة يعتز المؤمن أن تكون هذه العقيدة عقيدته. والآية في ذاتها تتضمن حيثيات الإيمان، إنه مادام هو الله لا إله إلا هو، ومادام هو الحي القيوم على أمر السماء والأرض، وكل شيء بيده، وهو العلي العظيم، فكل هذه مبررات لأن نؤمن به سبحانه وتعالى، وأن نعتز بأن نعتقد هذه المعتقدات، وتكون هي الدليل على أن المؤمن فخور بهذا الدين الذي كان أمر الألوهية المطلقة واضحا وبينا فيه. ولذلك فمن الطبيعي ألا يقهر الحق أحداً على الإيمان به إكراهاً، لأن الذي يقهر أحداً على عقيدة ما، هو أول من يعتقد أنه لولا الإكراه على هذه العقيدة لما اعتقدها أحد. ونحن في حياتنا اليومية نجد أن أصحاب المبادئ الباطلة هم الذين يمسكون السياط من أجل إكراه الناس على السير على مبادئهم. وكل من أصحاب هذه المبادئ الباطلة يعلم تمام العلم أنه لو ترك السوط والقهر ما سار إنسان على مثل هذه المبادئ الباطلة. ولو كان أحد من أصحاب هذه المبادئ الباطلة معتقدا أن مبدأه سليم لقال: أطرح هذا المبدأ على الناس، وأترك لهم الخيار؛ لأنه في هذه الحالة سيكون واثقا من مبدئه. أما الذي يقهر الناس إكراها بالسوط أو السلطان ليعتقدوا مبدأ ما، فهو أول من يشك في هذا المبدأ، وهو أول من يعتقد أنه مبدأ باطل. مثل هؤلاء نراهم عندما تضعف أيديهم عن استعمال السوط أو السلطان فإن أمر مبدئهم ينهزم ويسقط بنيانه.