الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
(الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون "3")
بعد أن بين الله سبحانه وتعالى لنا أن هذا الكتاب ـ وهو القرآن الكريم ـ "هدى للمتقين" .. أي أن فيه المنهج والطريق لكل من يريد أن يجعل بينه وبين غضب الله وقاية .. أراد أن يعرفنا صفات هؤلاء المتقين ومن هم .. وأول صفة هي قوله تعالى: "الذين يؤمنون بالغيب"..
ما هو الغيب الذي جعله الله أول مرتبة في الهدى .. وفي الوقاية من النار ومن غضب الله؟..
الغيب هو كل ما غاب عن مدركات الحس. فالأشياء المحسة التي نراها ونلمسها لا يختلف فيها أحد .. ولذلك يقال ليس مع العين أين .. لأن ما تراه لا تريد عليه دليلا .. ولكن الغيب لا تدركه الحواس .. إنما يدرك بغيرها..
ومن الدلالة على دقة التعريف أنهم قالوا أن هناك خمس حواس ظاهرة هي: السمع والبصر والشم والذوق واللمس .. ولكن هناك أشياء تدرك بغير هذه الحواس..
لنفرض أن أمامنا حقيبتين، نفس الشكل ونفس الحجم .. هل تستطيع بحواسك الظاهرة أن تدرك أيهما أثقل من الأخرى؟. هل تستطيع الحواس الخمس أن تقول لك أي الحقيبتين أثقل؟ .. لا .. لابد أن تحمل واحدة منهما ثم تحمل الأخرى لتعرف أيهما أثقل..
بأي شيء أدركت هذا الثقل؟ .. بحاسة العضل .. لأن عضلاتك أجهدت عندما حملت إحدى الحقيبتين، ولم تجهد عندما حملت الثانية .. فعرفت بالدقة أيهما أثقل .. لا تقل باللمس .. لأنك لو لمست إحداهما ثم لمست الأخرى لا تعرف أيها أثقل .. إذن فهناك حاسة العضل التي تقيس بها ثقل الأشياء..
ولنفرض أنك دخلت محلا لبيع القماش، وأمامك نوعان من قماش واحد .. ولكن أحدهما أرق من الآخر .. بمجرد أن تضع القماشين بين أناملك تدرك أن أحدهما رقيق والآخر أكثر سمكا .. بأي حاسة أدركت هذا؟ ليس بحاسة اللمس ولكن بحاسة البينة وحكمها لا يخطئ..
وعندما تشعر بالجوع .. بأي حاسة أدركت أنك جوعان؟ .. ليس بالحواس الظاهرة .. وكذلك عندما تظمأ .. ما هي الحاسة التي أدركت بها أنك محتاج إلي الماء .. وعندما تكون نائما .. أي حاسة تلك التي توقظك من النوم .. لا أحد يعرف..
إذن هناك ملكات في النفس وهي الحواس الظاهرة .. وهناك ادراكات في النفس .. وهي حواس لا يعلمها إلا خالقها .. لذلك عندما يأتي العلماء ليضعوا تعريفا للنفس البشرية نقول لهم: ماذا تعرفون عن هذه النفس؟! .. أنكم لا تعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا .. ولكن هناك أشياء داخل النفس لا تعرفونها .. هناك ادراكات لا يعلم عنها الإنسان شيئا، وهي ادراكات كثيرة ومتعددة .. لذلك يخطئ من يقول إن ما لا يدرك بالحواس البشرية الظاهرة هو غيب .. لأن هناك ملكات وادراكات متعددة تعمل بغير علم منا.
لو أعطى لطالب تمرين هندسي فحله وأتى بالجواب .. هل نقول أنه علم غيبا؟ .. لأن حل حل التمرين كان غيبا عنه ثم وصل إليه .. لا .. لأن هناك مقدمات وقوانين أوصلته إلي هذا الحل .. والغيب بلا مقدمات ولا قوانين تؤدي إليه، وهل عندما تعلن الأرصاد الجوية أن غدا يوم مطير شديد الرياح .. أتكون قد علمت غيبا؟ .. لا .. لأنها أخذت المقدمات ووصلت بها إلي نتائج وهذا ليس غيباً..
وإذا جاء أحد من الدجالين وقال لك أن ما سرق منك عند فلان .. أيكون قد علم الغيب؟ .. لا .. لأنه يشترط في الغيب ألا يكون معلوما لمثلك .. وما سرق منك معلوم لمثلك .. فالسارق والذي بيعت له المسروقات يعرفان من الذي سرق، وما الذي حدث .. والشرطة تستطيع بالمقدمات والبصمات والبحث أن تصل إلي السارق ومن اشترى المسروقات .. وإذا جاءك دجال من الذين يسخرون الجن .. والمعروف أن الجن مستورعنا يمتاز بخفة الحركة وسرعتها .. والله سبحانه وتعالى يقول عن الشيطان:
{إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم }
(من الآية 27 سورة الأعراف)
فقد يكون هذا المستعان به من الجن قد رأى شيئا .. أو انتقل من مكان إلي آخر .. فيعرف شيئا لا تعرفه أنت .. هذا لا يكون غيباً لأنك جهلته، ولكن غيرك يعلمه بقوانينه التي خلقها الله له .. والعلماء الذين يكتشفون أسرار الكون .. أيقال إنهم أطلعوا على الغيب؟ .. لا .. لأن هؤلاء العلماء اكتشفوا موجوداً له مقدمات فوصلوا إلي هذه النتائج فهو ليس غيبا.
ولكن ما هو الغيب؟..
هو الشيء الذي ليس له مقدمات ولا يمكن أن يصل إليه علم خلق من خلق الله حتى الملائكة .. واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى حينما علم آدم الأسماء كلها وعرضها على الملائكة قال جل جلاله:
{وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين "31" قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم "32" قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون "33" }
(سورة البقرة)
والجن أيضا لا يعلم الغيب .. ولذلك عندما مات سليمان عليه السلام .. وكان الله سبحانه وتعالى قد سخر له الجن لم تعلم الجن بموته إلا عندما أكلت دابة الأرض عصاه .. واقرأ قوله تبارك وتعالى:
{فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين "14"}
(سورة سبأ)
إذن فالغيب هو ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى .. واقرأ قول الحق جل جلاله:
{عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحد "26" إلا من أرتضى من رسولٍ فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً "27" }
(سورة الجن)
وهكذا فإن الرسل لا يعلمون الغيب .. ولكن الله سبحانه وتعالى يعلمهم بما يشاء من الغيب ويكون هذا معجزة لهم ولمن اتبعوهم.
وقمة الغيب هي الإيمان بالله سبحانه وتعالى .. والإيمان بملائكته وكتبه ورسله والإيمان باليوم الآخر .. كل هذه أمور غيبية، وحينما يخبرنا الله تبارك وتعالى عن ملائكته ونحن لا نراهم .. نقول مادام الله قد أخبرنا بهم فنحن نؤمن بوجودهم .. وإذا أخبرنا الحق سبحانه وتعالى عن اليوم الآخر .. فمادام الله قد أخبرنا فنحن نؤمن باليوم الآخر .. لأن الذي أخبرنا به هو الله جل جلاله .. آمنت به أنه إله .. واستخدمت في هذا الإيمان الدليل العقلي الذي جعلني أؤمن بأن لهذا الكون إلهاً وخالقاً .. وما يأتيني عن الله حيثية الإيمان به أن الله سبحانه وتعالى هو القائل.
ولابد أن نعرف أن وجود الشيء مختلف تماما عن إدراك هذا الشيء .. فأنت لك روح في جسدك تهبك الحياة .. أرأيتها؟ .. أسمعتها؟ .. أذقتها؟ .. أشممتها؟ .. ألمستها؟ .. الجواب طبعا لا .. فبأي وسيلة من وسائل الإدراك تدرك أن لك روحا في جسدك؟ بأثرها في إحياء الجسد..
إذن فقد عرفت الروح بأثرها، والروح مخلوق لله .. فكيف تريد وأنت عاجز أن تدرك مخلوقا في جسدك وذاتك وهو الروح بآثارها .. أن تدرك الله سبحانه وتعالى بحواسك.
ونحن إذا آمنا بالقمة الغيبية وهو الله جل جلاله .. فلابد أن نؤمن بكل ما يخبرنا عنه وأن لم نره .. ولقد أراد الله تبارك وتعالى رحمة بعقولنا أن يقرب لنا قضية الغيب فأعطانا من الكون المادي أدلة على أن وجود الشيء، وإدراك هذا الوجود شيآن منفصلان تماما..
فالجراثيم مثلا موجودة في الكون تؤدي مهمتها منذ بداية الخلق .. وكان الناس يشاهدون آثار الأمراض في أجسادهم من ارتفاع في الحرارة وحمى وغير ذلك وهم لا يعرفون السبب .. فلما ارتقى العلم وأذن الله لخلقه أن يروا هذا الوجود للجراثيم .. جعل الله العقول قادرة على أن تكتشف المجهر .. الذي يعطينا الصورة مكبرة .. لأن العين قدرتها البصرية أقل من أن نرى هذا الجراثيم .. ونعرف أن لها دورة حياة وتكاثر إلي غير ما يكشفه الله لنا من علم كما تقدم الزمن..
إن عدم قدرتنا على رؤية أي شيء لا يعني أنه غير موجود .. ولكن آلة الإدراك ـ وهي البصر ـ عاجزة عن أن تراه، لأنه غاية في الصغر .. فإذا جئت بالمجهر كبر لك هذا الميكروب ليدخل في نطاق وسيلة رؤيتك وهي العين .. ورؤيتنا للجراثيم والميكروبات ليست دليلا على أنها خلقت ساعة رأيناها .. بل هي موجودة تؤدي مهمتها .. سواء رأيناها أو لم نرها.
فلو حدثنا أحد عن الميكروبات والجراثيم قبل أن نراها رؤية العين .. هل كنا نصدق؟ .. والله سبحانه وتعالى ترك بعض خلقه غير مدرك في زمنه لبعض حقائق الكون ليرتقي الإنسان ويدرك بعد ذلك .. وكان المفروض أنه يزداد إيمانا .. عندما يدرك وليعرف الخلق بالدليل المادي أن ما هو غيب عنهم موجود وأن كنا لا نراه..
والله تبارك وتعالى قد أعطانا من آياته في الكون ما يجعلنا ندرك أن لهذا الكون خالقا .. فالشمس والقمر والنجوم والأرض والإنسان والحيوان والجماد لا يستطيع أحد أن يدعي أنه خلقهم .. ولا أحد يمكن أن يدعي أنه خلق نفسه أو غيره .. ولا يمكن لهذا الكون بهذا النظام الدقيق أن يوجد بالصدفة .. لأن الصدفة أحداث غير مرتبة أو غير منظمة .. ولو وجد هذا الكون بالصدفة لتصادمت الشمس والقمر والنجوم والأرض ولاختل الليل والنهار..
ولكن كل ما في الكون من آيات يؤكد لنا أن هناك قوة هائلة هي التي خلقت ونظمت وأبدعت .. فإذا جاءنا رسول يبلغنا أن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق هذا الكون فلابد أن نصدقه.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: "ومما رزقناهم ينفقون" .. وحين نتكلم عن الرزق يظن كثير من الناس أن الرزق هو المال .. نقول له لا .. الرزق هو ما ينتفع به فالقوة رزق، والعلم رزق .. فإن لم يكن عندك مال لتنفق منه فعندك عافية تعمل بها لتحصل على المال .. وتتصدق بها على العاجز والمريض .. وإن كان عندك حلم .. فإنك تنفقه بأن تقي الأحمق من تصرفات قد تؤذي المجتمع وتؤذيك .. وأن كان عندك علم أنفقه لتعلم الجاهل .. وهكذا نرى: "ومما رزقناهم ينفقون" تستوعب جميع حركة الحياة.
(والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون "4")
الحق سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة يعطينا صفات أخرى من صفات المؤمنين .. فبعد أن أبلغنا أن من صفات المؤمنين الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة والإنفاق مما رزقهم الله .. يأتي بعد ذلك إلي صفات أخرى..
فهؤلاء المؤمنون هم: (الذين يؤمنون بما أنزل إليك) أي بالقرآن الكريم الذي أنزله الله سبحانه وتعالى .. و"بما أنزل من قبلك" وهذه لم تأت في وصف المؤمنين إلا في القرآن الكريم .. ذلك أن الإسلام عندما جاء كان عليه أن يواجه صنفين من الناس .. الصنف الأول هم الكفار وهم لا يؤمنون بالله ولا برسول مبلغ عن الله .. وكان هناك صنف آخر من الناس .. هم أهل الكتاب يؤمنون بالله ويؤمنون برسل عن الله وكتب عن الله..
والإسلام واجه الصنفين .. لأن أهل الكتاب ربما ظنوا أنهم على صلة بالله .. يؤمنون به ويتلقون منه كتبا ويتبعون رسلا وهذا في نظرهم كاف .. نقول لا .. فالإسلام جاء ليؤمن به الكافر، ويؤمن به أهل الكتاب، ويكون الدين كله لله.. والله سبحانه وتعالى في كتبه التي أنزلها أخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن اسمه وأوصافه .. وطلب من أهل الكتاب الذين سيدركون رسالته صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به..
ولقد أعطى الله جل جلاله أوصاف رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب حتى إنهم كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم .. بل كانت معرفتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وزمنه وأوصافه معرفة يقينية .. وكان يهود المدينة يقولون للكفار .. أطل زمن رسول سنؤمن به ونقتلكم قتل عاد وإرم .. فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أول من حاربه وأنكر نبوته .. فأوصاف رسول الله عليه الصلاة والسلام موجودة في التوراة والإنجيل .. ولذلك كان أهل الكتاب ينذرون الكفار بأنهم سيؤمنون بالرسول الجديد ويسودون به العرب .. واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى:
{ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين "89" }
(سورة البقرة)
أي أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لم تكن مفاجئة لأهل الكتاب بل كانوا ينتظرونها .. كانوا يؤكدون أنهم سيؤمنون بها كما تأمرهم بها كتبهم .. ولكنهم رفضوا الإيمان وأنكروا الرسالة عندما جاء زمنها..
ثم يقول سبحانه وتعالى: "وبالآخرة هم يوقنون" ونلاحظ هنا أن كلمة (وبالآخرة) قد جاءت .. لأنك إذا تصفحت التوراة التي هي كتاب اليهود، أو قرأت التلمود لا تجد شيئا عن اليوم الآخر .. فقد أخذوا الأمر المادي فقط من كتبهم .. والله تبارك وتعالى أكد الإيمان باليوم الآخر حتى عرف الذين يقولون آمنا بالله وكتبه ورسله ولا يلتفتون إلي اليوم الآخر أنهم ليسوا بمؤمنين .. فلو لم يجئ هذا الوصف في القرآن الكريم ربما قالوا أن الإسلام موافق لما عندنا .. ولكن الله جل جلاله يريد تصوير الإيمان تصويراً كماليا بأن الإيمان بالله قمة ابتداء والإيمان باليوم الآخر قمة انتهاء .. فمن لم يؤمن بالآخرة وأنه سيلقى الله وسيحاسبه .. وأن هناك جنة ينعم فيها المؤمن، وناراً يعذب فيها الكافر يكون إيمانه ناقصا .. ويكون قد اقترب من الكافر الذي جعل الدنيا غايته وهدفه..
فالمؤمن يتبع منهج الله في الدنيا ليستحق نعيم الله في الآخرة .. فلو أن الآخرة لم تكن موجودة، لكان الكافر أكثر حظا من المؤمن في الحياة .. لأنه أخذ من الدنيا ما يشتهيه ولم يقيد نفسه بمنهج، بل أطلق لشهواته العنان .. بينما المؤمن قيد حركته في الحياة طبقا لمنهج الله وتعب في سبيل ذلك. ثم يموت الاثنان وليس بعد ذلك شيء .. فيكون الكافر هو الفائز بنعم الدنيا وشهواتها. والمؤمن لا يأخذ شيئا والأمر هنا لا يستقيم بالنسبة لقضية الإيمان .. ولذلك كان الإيمان بالله قمة الإيمان بداية والإيمان بالآخرة قمة الإيمان نهاية.
(أولئك على هدىً من ربهم وأولئك هم المفلحون "5")
والحق جل جلاله لم يكن يترك آدم في حياته على الأرض دون يعلمه ما يضمن استمرار حياته وحياة أولاده .. يعلمه على الأقل بدايات .. ثم بعد ذلك تتطور هذه البدايات بما يكشفه الله من علمه لخلقه .. وبعد ذلك جاءت القرون المتقدمة فاستطعنا أن نستخدم آلات حديثة متطورة تقوم بعملية الحرث والبذر..
ولكن الحقيقة الثابتة التي لم تتغير منذ بداية الكون ولن تتغير حتى نهايته .. هي أن مهمة الإنسان أن يحرث ويضع البذرة في الأرض ويسقيها .. أما نمو الزرع نفسه فلا دخل للإنسان فيه .. وكذلك الثمر الذي ينتجه لا عمل للإنسان فيه .. ولقد نبهنا الله تبارك وتعالى إلي هذه الحقيقة حتى لا نغتر بحركتنا في الحياة ونقول إننا نحن الذين نزرع .. واقرأ قول الحق جل جلاله في سورة الواقعة:
{أفرءيتم ما تحرثون "63" ءأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون "64" لو نشاء لجعلنه حطاماً فظلتم تفكهون "65" إنا لمغرمون "66" بل نحن محرمون "67"}
(سورة الواقعة)
وهكذا ظلت مهمة الفلاحة في الأرض مقتصرة على الحرث والسقي والبذر، وحينما تلقى الحبة في الأرض يخلق الله في داخلها الغذاء الذي يكفيها حتى تستطيع أن تأخذ غذاءها من الأرض .. وإذا جئت بحبة وبللتها تجد أنها قد نبت لها ساق وجذور .. من أين جاء هذا النمو؟. من نفس تكوين الحبة. والله تبارك وتعالى قد قدر في كل حبة من الغذاء المطلوبة يكون حجم الحبة .. وحين تضعها في الأرض فإنها تبدأ أولا بأن تغذي نفسها .. بحيث ينبت لها ساق وجذور وورقتان تتنفس منهما .. كل هذا لا دخل لك فيه ولا عمل لك فيه .. وتبدأ الحبة تأخذ غذاءها من الأرض والهواء .. لتنمو حتى تصبح شجرة كبيرة تنتج الثمر من نفس نوع البذرة.
ومن هنا جاءت كلمة (المفلحون) .. ليعطينا الحق جل جلاله من الأمور المادية المشهودة ما يعين عقولنا المحدودة على فهم الغيب .. فيشبه التكليف وجزاءه في الآخرة بالبذور والفلاحة .. أولا لأنك حين ترمي بذرة في الأرض تعطيك بذورا كثيرة..
واقرأ قول الله سبحانه وتعالى:
{مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلةٍ مائة حبةٍ والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم "261"}
(سورة البقرة)
وإذا كانت الأرض وهي المخلوقة من الله تهبك أضعاف أضعاف ما أعطيتها .. فكيف بالخالق؟ .. وكم يضاعف لك من الثواب في الطاعة؟ .. هذا هو السبب في أن الحق تبارك وتعالى يقول: "وأولئك هم المفلحون" .. حتى يلفتنا بمادة الفلاحة .. وهي شيء موجود نراه ونشهده كل يوم.
وكما أن التكليف يأخذ منك أشياء ليضاعفها لك .. كذلك الأرض أخذت منك حبة ولم تعطك مثل ما أخذت، بل أعطتك بالحبة سبعمائة حبة .. وهكذا نستطيع أن نصل بشيء مشهود يفصل لنا شيئا غيبيا.