وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لأيْمَانِكُمْ أَن تَبَرّواْ وَتَتّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * لاّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِالّلغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَـَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ
يقول تعالى: لا تجعلوا أيمانكم بالله تعالى مانعة لكم من البر وصلة الرحم إذا حلفتم على تركها، كقوله تعالى: {ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يعفر الله لكم} فالاستمرار على اليمين آثم لصاحبها من الخروج منها بالتكفير، كما قال البخاري: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن همام بن منبه، قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «نحن الاَخرون السابقون يوم القيامة» وقال رسول صلى الله عليه وسلم «والله لأن يلجّ أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه» وهكذا رواه مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق به، ورواه أحمد عنه به، ثم قال البخاري: حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا يحيى بن صالح، حدثنا معاوية هو ابن سلام، عن يحيى وهو ابن أبي كثير، عن عكرمة عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من استلجّ في أهله بيمين فهو أعظم إثماً، ليس تغني الكفارة» وقال علي بن طلحة عن ابن عباس في قوله {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم} قال: لا تجعلن عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير، ولكن كفر عن يمينك واصنع الخير، وكذا قال مسروق والشعبي وإبراهيم النخعي ومجاهد وطاوس وسعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومكحول والزهري والحسن وقتادة ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس والضحاك وعطاء الخراساني والسدي رحمهم الله، ويؤيد ما قاله هؤلاء الجمهور ما ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إني والله إن شاء الله، لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها» وثبت فيهما أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال لعبد الرحمن بن سمرة «يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فأت الذي هو خير، وكفر عن يمينك» وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال «من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير» وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا خليفة بن خياط، حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال «من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، فتركها كفارتها» ورواه أبو داود من طريق أبي عبيد الله بن الأخنس عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ولا نذر ولا يمين فيما لا يملك ابن آدم، ولا في معصية الله، ولا في قطيعة رحم، ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليدعها وليأت الذي هو خير، فإن تركها كفارتها» ثم قال أبو داود: والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها «فليكفر عن يمينه» وهي الصحاح
وقال ابن جرير: حدثنا علي بن سعيد الكندي، حدثنا علي بن مسهر عن حارثة بن محمد، عن عمرة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من حلف على يمين قطيعة رحم ومعصية فبره أن يحنث فيها ويرجع عن يمينه» وهذا حديث ضعيف، ثم روى ابن جرير عن ابن عباس وسعيد بن المسيب ومسروق والشعبي أنهم قالوا: لا يمين في معصية ولا كفارة عليها
وقوله {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} أي لا يعاقبكم ولا يلزمكم بما صدر منكم من الأيمان اللاغية، وهي التي لا يقصدها الحالف بل تجري على لسانه عادة من غير تعقيد ولا تأكيد، كما ثبت في الصحيحين من حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال «من حلف فقال في حلفه باللات والعزى، فليقل لا إله إلا الله» فهذا قاله لقوم حديثي عهد بجاهلية، قد أسلموا وألسنتهم قد ألفت ما كانت عليه من الحلف باللات من غير قصد، فأمروا أن يتلفظوا بكلمة الإخلاص كما تلفظوا بتلك الكلمة من غير قصد لتكون هذه بهذه، ولهذا قال تعالى: {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} الاَية، وفي الاَية الأخرى {بما عقدتم الأيمان}. قال أبوداود (باب لغو اليمين) حدثنا حميد بن مسعدة الشامي، حدثنا حيان يعني ابن إبراهيم، حدثنا إبراهيم يعني الصائغ، عن عطاء: في اللغو في اليمين، قال: قالت عائشة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «اللغو في اليمين هو كلام الرجل في بيته: كلا والله، وبلى والله» ثم قال أبو داود: رواه دواد بن الفرات عن إبراهيم الصائغ، عن عطاء عن عائشة موقوفاً، ورواه الزهري وعبد الملك ومالك بن مغول كلهم عن عطاء عن عائشة موقوفاً أيضاً. (قلت) وكذا رواه ابن جريج وابن ليلى عن عطاء عن عائشة موقوفاً، ورواه ابن جرير عن هناد عن وكيع وعبدة وأبي معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في قوله {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} لا والله وبلى والله، ثم رواه عن محمد بن حميد عن سلمة، عن ابن إسحاق، عن هشام، عن أبيه عنها، وبه عن ابن إسحاق عن الزهري عن القاسم عنها، وبه عن سلمة عن ابن أبي نجيح عن عطاء عنها، وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة في قوله {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} قالت: هم القوم يتدارؤون في الأمر، فيقول هذا: لا والله، بلى والله، وكلا والله، يتدارؤون في الأمرلا تعقد عليه قلوبهم، وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني، حدثنا عبدة يعني ابن سليمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة في قول الله {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} قالت: هو قول الرجل: لا والله، وبلى والله. وحدثنا أبي، حدثنا أبو صالح كاتب الليث، حدثني ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة، قال: كانت عائشة تقول: إنما اللغو في المزاحة والهزل، وهو قول الرجل: لا والله، وبلى والله، فذاك لا كفارة فيه، إنما الكفارة فيما عقد عليه قلبه أن يفعله ثم لا يفعله، ثم قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عمر وابن عباس في أحد قوليه، والشعبي وعكرمة في أحد قوليه، وعروة بن الزبير وأبي صالح والضحاك في أحد قوليه، وأبي قلابة والزهري نحو ذلك. (الوجه الثاني: قرىء على يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني الثقة عن ابن شهاب عن عروة، عن عائشة أنها كانت تتأول هذه الاَية، يعني قوله {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} وتقول: هو الشيء يحلف عليه أحدكم لا يريد منه إلا الصدق فيكون على غير ما حلف عليه، ثم قال: وروي عن أبي هريرة وابن عباس في أحد قوليه، وسليمان بن يسار وسعيد بن جبير ومجاهد في أحد قوليه، وإبراهيم النخعي في أحد قوليه، والحسن وزرارة بن أوفى وأبي مالك وعطاء الخراساني وبكر بن عبد الله، وأحد قولي عكرمة وحبيب بن أبي ثابت والسدي ومكحول ومقاتل وطاوس وقتادة والربيع بن أنس ويحيى بن سعيد وربيع نحو ذلك. وقال ابن جرير حدثنا محمد بن موسى الحرشي، حدثنا عبد الله بن ميمون المرادي، حدثنا عوف الأعرابي عن الحسن بن أبي الحسن قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم ينتضلون، يعني يرمون، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أصحابه، فقام رجل من القوم فقال: أصبت والله، وأخطأت والله، فقال الذي مع النبي صلى الله عليه وسلم للنبي صلى الله عليه وسلم : حنث الرجل يا رسول الله، قال «كلا أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة» هذا مرسل حسن عن الحسن. وقال ابن أبي حاتم: وروي عن عائشة القولان جميعاً، حدثنا عصام بن رواد، أنبأنا آدم، حدثنا شيبان عن جابر، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة، قالت: هو قوله: لا والله، وبلى والله، وهو يرى أنه صادق ولا يكون كذلك. (أقوال أخر) ـ قال عبد الرزاق، عن هشيم عن مغيرة، عن إبراهيم: هو الرجل يحلف على الشيء ثم ينساه. وقال زيد بن أسلم: هو قول الرجل أعمى الله بصري إن لم أفعل كذا وكذا، أخرجني الله من مالي إن لم آتك غداً، فهو هذا. قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا مسدد بن خالد، حدثنا خالد، حدثنا عطاء عن طاوس، عن ابن عباس، قال: لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان. وأخبرني أبي: حدثنا أبو الجماهر، حدثنا سعيد بن بشير، حدثني أبو بشر عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لغو اليمين أن تحرم ما أحل الله لك فذلك ما ليس عليك فيه كفارة، وكذا روي عن سعيد بن جبير. وقال أبو داود (باب اليمين في الغضب) حدثنا محمد بن المنهال، أنبأنا يزيد بن زريع، حدثنا حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب: أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث، فسأل أحدهما صاحبه القسمة، فقال: إن عدت تسألني عن القسمة فكل ما لي في رتاج الكعبة، فقال له عمر: إن الكعبة غنية عن مالك، كفر عن يمينك، وكلم أخاك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب عز وجل، ولا في قطيعة الرحم، ولا فيما لا تملك». وقوله {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: هو أن يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب، قال مجاهد وغيره، وهي كقوله تعالى: {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان} الاَية. {والله غفور حليم} أي غفور لعباده حليم عليهم