ذكر الكلام على معناها
وبالله المستعان وعليه التكلان. قوله تعالى: {إن امرؤ هلك} أي مات، قال الله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} كل شيء يفنى ولا يبقى إلا الله عز وجل، كما قال: {كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام}. قوله: {ليس له ولد} تمسك به من ذهب إلى أنه ليس من شرط الكلالة انتفاء الوالد، بل يكفي في وجود الكلالة انتفاء الولد وهو رواية عن عمر بن الخطاب، رواها ابن جرير عنه بإسناد صحيح إليه، ولكن الذي يرجع إليه هو قول الجمهور وقضاء الصديق أنه الذي لا ولد له ولا والد، ويدل على ذلك قوله: {وله أخت فلها نصف ما ترك} ولو كان معها أب لم ترث شيئاً لأنه يحجبها بالإجماع، فدل على أنه من لا ولد له بنص القرآن ولا والد بالنص عند التأمل أيضاً، لأن الأخت لا يفرض لها النصف مع الوالد بل ليس لها ميرات بالكلية
وقال الإمام أحمد: حدثنا الحكم بن نافع، حدثنا أبو بكر بن عبد الله عن مكحول وعطية وحمزة وراشد، عن زيد بن ثابت أنه سئل عن زوج وأخت لأب وأم، فأعطى الزوج النصف والأخت النصف، فكلم في ذلك فقال: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بذلك، تفرد به أحمد من هذا الوجه، وقد نقل ابن جرير وغيره عن ابن عباس وابن الزبير أنهما كانا يقولان في الميت: ترك بنتاً وأختاً إنه لا شيء للأخت لقوله {إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك} قال: فإذا ترك بنتاً فقد ترك ولداً فلا شيء للأخت، وخالفهما الجمهور فقالوا في هذه المسألة للبنت النصف بالفرض، وللأخت النصف الاَخر بالتعصيب بدليل غير هذه الاَية، وهذه الاَية نصت أن يفرض لها في هذه الصورة وأما وراثتها بالتعصيب فلما رواه البخاري من طريق سليمان عن إبراهيم عن الأسود قال: قضى فينا معاذ بن جبل على عهد رسوال الله صلى الله عليه وسلم ، النصف للبنت والنصف للأخت، ثم قال سليمان: قضى فينا ولم يذكر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي صحيح البخاري أيضاً عن هزيل بن شرحبيل قال: سئل أبو موسى الأشعري عن ابنة وابنة ابن وأخت، فقال: للابنة النصف، وللأخت النصف، وأت ابن مسعود فسيتابعني، فسأل ابن مسعود فأخبره بقول أبي موسى فقال: لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم النصف للبنت، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت، فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود فقال: لا تسألوني مادام هذا الحبر فيكم
وقوله: {وهو يرثها إن لم يكن لها ولد} أي والأخ يرث جميع مالها إذا ماتت كلالة، وليس لها ولد أي ولا والد، لأنها لو كان لها والد لم يرث الأخ شيئاً، فإن فرض أن معه من له فرض صرف إليه فرضه كزوج أو أخ من أم، وصرف الباقي إلى الأخ لما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر». وقوله: {فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك} أي فإن كان لمن يموت كلالة أختان، فرض لهما الثلثان وكذا ما زاد على الأختين في حكمهما، ومن ههنا أخذ الجماعة حكم البنتين كما استفيد حكم الأخوات من البنات في قوله: {فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك}
وقوله: {وإن كانوا إخوة رجالاً ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين} هذا حكم العصبات من البنين وبني البنين والإخوة إذا اجتمع ذكورهم وإناثهم، أعطي الذكر مثل حظ الأنثيين، وقوله {يبين الله لكم} أي يفرض لكم فرائضه، ويحد لكم حدوده، ويوضح لكم شرائعه. وقوله: {أن تضلوا} أي لئلا تضلوا عن الحق بعد البيان { والله بكل شيء عليم} أي هو عالم بعواقب الأمور ومصالحها وما فيها من الخير لعباده، وما يستحقه كل واحد من القرابات بحسب قربه من المتوفى. وقد قال أبو جعفر بن جرير: حدثني يعقوب، حدثني ابن علية، أنبأنا ابن عون عن محمد بن سيرين قال: كانوا في مسير، ورأس راحلة حذيفة عند ردف راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورأس راحلة عمر عند ردف راحلة حذيفة، قال ونزلت {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} فلقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة فلقاها حذيفة عمر، فلما كان بعد ذلك سأل عمر عنها حذيفة فقال: والله إنك لأحمق إن كنت ظننت أنه لقانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلقيتكها كما لقانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله لا أزيدك عليها شيئاً أبداً، قال: فكان عمر يقول: اللهم إن كنت بينتها له، فإنها لم تبين لي، كذا رواه ابن جرير، ورواه أيضاً عن الحسن بن يحيى عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين كذلك بنحوه، وهو منقطع بين ابن سيرين وحذيفة
وقد قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو البزار في مسنده: حدثنا يوسف بن حماد المعني ومحمد بن مرزوق قالا: حدثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى، حدثنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين، عن أبي عبيدة بن حذيقة عن أبيه ؟ قال: نزلت آية الكلالة على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسير له فوقف النبي صلى الله عليه وسلم ، وإذا هو بحذيفة وإذا رأس ناقة حذيفة عند ردف راحلة النبي صلى الله عليه وسلم فلقاها إياه، فنظر حذيفة فإذا عمر رضي الله عنه فلقاها إياه فلما كان في خلافة عمر نظر عمر في الكلالة، فدعا حذيفة فسأله عنها فقال حذيفة: لقد لقانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلقيتكها كما لقاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله إني لصادق والله لا أزيدك شيئاً أبداً. ثم قال البزار: وهذا الحديث لا نعلم أحداً رواه إلا حذيفة، ولا نعلم له طريقاً عن حذيفة إلا هذا الطريق، ولا رواه عن هشام إلا عبد الأعلى، وكذا رواه ابن مردويه من حديث عبد الأعلى. وقال عثمان بن أبي شيبة: حدثنا جرير عن الشيباني عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن المسيب أن عمر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تورث الكلالة ؟ قال فأنزل الله {يستفتونك} الاَية، قال: فكأن عمر لم يفهم، فقال لحفصة: إذا رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم طيب نفس فسليه عنها، فرأت منه طيب نفس فسألته عنها، فقال: «أبوك ذكر لك هذا، ما أرى أباك يعلمها»، قال: فكان عمر يقول ما أراني أعلمها. وقد قال رسول الله ما قال، رواه ابن مردويه، ثم رواه من طريق ابن عيينة، وعن عمرو عن طاوس أن عمر أمر حفصة أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلالة فأملاها عليها في كتف، فقال: «من أمرك بهذا أعمر ؟ ما أراه يقيمها أوما تكفيه آية الصيف» وآية الصيف التي في النساء {وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة} فلما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت الاَية التي هي خاتمة النساء، فألقى عمر الكتف، كذا قال في هذا الحديث وهو مرسل
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا عثام عن الأعمش، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، قال: أخذ عمر كتفاً وجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: لأقضين في الكلالة قضاء تحدث به النساء في خدورهن، فخرجت حينئذ حية من البيت فتفرقوا، فقال: لو أراد الله عز وجل أن يتم هذا الأمر لأتمه، وهذاإسناد صحيح. وقال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري: حدثنا علي بن محمد بن عقبة الشيباني بالكوفة، حدثنا الهيثم بن خالد، حدثنا أبو نعيم، حدثنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار، سمعت محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة يحدث عن عمر بن الخطاب، قال: لأن أكون سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثلاث أحب إلي من حمر النعم: من الخليفة بعده ؟ وعن قوم قالوا: نقر بالزكاة في أموالنا ولا نؤديها إليك، أيحل قتالهم ؟ وعن الكلالة. ثم قال: صحيح الإسناد على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. ثم روى بهذا الإسناد إلى سفيان بن عيينة، عن عمرو بن مرة عن مرة، عن عمر، قال: ثلاث لأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم بينهن لنا أحب إلي من الدنيا وما فيها: الخلافة، والكلالة، والربا، ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وبهذا الإسناد إلى سفيان بن عيينة قال: سمعت سليمان الأحول يحدث عن طاوس، قال: سمعت ابن عباس قال: كنت آخر الناس عهداً بعمر، فسمعته يقول: القول ما قلت، قلت: وما قلت ؟ قال: قلت: الكلالة من لا ولد له، ثم قال: صحيح على شرطهما، ولم يخرجاه وهكذا رواه ابن مردويه من طريق زمعة بن صالح عن عمرو بن دينار، وسليمان الأحول عن طاوس، عن ابن عباس، قال: كنت آخر الناس عهداً بعمر بن الخطاب، قال: اختلفت أنا وأبو بكر في الكلالة والقول ما قلت، قال: وذكر أن عمر شرك بين الإخوة للأم والأب وبين الإخوة للأم في الثلث إذا اجتمعوا، وخالفه أبو بكر رضي الله عنهما. وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع حدثنا محمد بن حميد العمري، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، أن عمر كتب في الجد والكلالة كتاباً، فمكث يستخير الله يقول: اللهم إن علمت فيه خيراً فأمضه حتى إذا طعن، دعا بكتاب فمحى، ولم يدر أحد ما كتب فيه، فقال: إني كنت كتبت كتاباً في الجد والكلالة، وكنت أستخير الله فيه، فرأيت أن أترككم على ماكنتم عليه. قال ابن جرير: وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إني لأستحي أن أخالف فيه أبا بكر، وكان أبو بكر رضي الله عنه يقول: هو ما عدا الولد والوالد. وهذا الذي قاله الصديق عليه جمهور الصحابة والتابعين والأئمة في قديم الزمان وحديثه، وهو مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة، وقول علماء الأمصار قاطبة، وهو الذي يدل عليه القرآن، كما أرشد الله أنه قد بين ذلك ووضحه في قوله: {يبين الله لكم أن تضلو والله بكل شيء عليم}، والله أعلم