ثم يقول الحق سبحانه: {أولئك الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم}
(15/9128)
أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
قوله تعالى: {أولئك} [مريم: 58] أي: الذين تقدَّموا وسبق الحديث عنهم من الأنبياء والرسل {مِن ذُرِّيَّةِءَادَمَ} [مريم: 58] أي: مباشرة مثل إدريس عليه السلام {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [مريم: 58] الذين جاءوا بعد إدريس مباشرة {وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ} [مريم: 58] أي: الذين جاءوا بعد نوح.
وقد انقسموا إلى فرعين من ذرية إبراهيم.
الأول: فرع إسحق الذي جاء منه جمهرة النبوة، بداية من يعقوب، ثم يوسف، ثم موسى وهارون، ثم داود وسليمان، ثم زكريا ويحيى، ثم ذو الكفل، ثم أيوب، ثم النون.
والفرع الآخر: فرع إسماعيل عليه السلام الذي جاء منه جماع جواهر النبوة، وهو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
(15/9128)
{وَإِسْرَائِيلَ} [مريم: 58] هو نبيّ الله يعقوب {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا واجتبينآ} [مريم: 58] الذي هديناهم واجتبيناهم. أي: اخترناهم واصطفيناهم للنبوة {إِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرحمن خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم: 58] .
لماذا قال {آيَاتُ الرحمن} [مريم: 58] ولم يقُلْ: آيات الله؟ قالوا: لأن آيات الله تحمل منهجاً وتكليفاً، وهذا يشقُّ على الناس، فكأنه يقول لنا: إياكم أنْ تفهموا أن الله يُكلّفكم بالمشقة، وإنما يُكلّفكم بما يُسعِد حركة حياتكم وتتساندون، ثم يسعدكم به في الآخرة؛ لذلك اختار هنا صفة الرحمانية.
وقوله: {خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم: 58] لم يقُل: سجدوا، بل سقطوا بوجوههم سريعاً إلى الأرض. وهذا انفعال قَسْري طبيعي، لا دَخْلَ للعقل فيه ولا للتفكير، فالساجد يستطيع أنْ يسجدَ بهدوء ونظام، أما الذي يخرُّ فلا يفكر في ذلك، وهذا أشبه بقوله تعالى: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ} [النحل: 26] أي: سقط عليهم فجأة.
وهذا الانفعال يُسمُّونه «انفعال نزوعي» ناتج عن الوجدان، والوجدان ناتج عن الإدراك، وهذه مظاهر الشعور الثلاثة: الإدراك، ثم الوجدان، ثم النزوع. والإنسان له حواس يُدرِك بها: العين والأذن والأنف واللسان. . الخ.
فهذه وسائل إدراك المحسّات، فإذا أدركتَ شيئاً بحواسِّك تجد له تأثيراً في نفسك، إما حُباً وإماً بُغْضاً، إما إعجاباً وإما انصرافاً، وهذا الأثر في نفسك هو الوجدان، ثم يصدر عن هذا الوجدان حركة هي «النزوع» .
فمثلاً، لو رأيتَ وردة جميلة فهذه الرؤيا «إدراك» ، فإنْ أُعجبْتَ
(15/9129)
بها وسُرِرْتَ فهذا «وجدان» ، فإنْ مددْتَ يدك لتقطفها فهذا «نزوع» . والشرع لا يحاسبك على الإدراك ولا على الوجدان، لكن حين تمد يدك لقطف هذه الوردة نقول لك: قفْ فهذه ليست لك، ولا يمنعك الشارع ويتركك، إنما يمنعك ويوحي لك بالحلِّ المناسب لنزوعك، فعليك أنْ تزرع مثلها، فتكون مِلْكاً لك أو على الأقل تستأذن صاحبها.
كذلك الحال فيمن تسمّع لكلام الله وقرآنه يدرك القرآن بسمعه فينشأ عنه حلاوة ومواجيد في نفسه، وهذا هو الوجدان الذي ينشأ عنه انفعال نُزوعي، فلا يجد إلا أنْ يخر ساجداً لله تعالى.
والنزوع هنا لم يُكنْ نزوعاً ظاهرياً بل وأيضاً داخلياً، ففاضت أعينهم بالدمع {سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم: 58] .
وقد عُولج هذا المعنى في عِدّة مواضع أُخَر، كما في قوله تعالى: {قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تؤمنوا إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً} [الإسراء: 107] .
ومعنى: للأذقان: مبالغة في الخضوع والخشوع واستيفاء السجود؛ لأن السجود يكون أولاً على الجبهة ثم الأنف لكن على الأذقان، فهذا سجود على حَقٍّ، وليس كنقْر الديكَة كما يقولون.
إذن: فأهل الكتاب كانوا على علم ببعثة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأنه سيأتي بالقرآن على فَتْرة من الرسل، وها هم الآن يسمعون القرآن؛ لذلك يقولون: {سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} [الإسراء: 108] .
ومن النزوع الانفعالي أيضاً قوله تعالى عن أهل الكتاب: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرسول ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق} [المائدة: 83] .
(15/9130)
وقوله تعالى: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله} [الزمر: 23] .
فلماذا يُؤثِّر الانفعال بالقرآن في كُلِّ هذه الحواس والأعضاء من جسم الإنسان؟ قالوا: لأن الذي خلق التكوين الإنساني هو الذي يتكلم، والخالق سبحانه حينما يتكلم وحينما تفهم عنه وتعي، فإنه سبحانه لا يخاطب عقلك فقط، بل يخاطب كل ذرة من ذَرّات تكوينك؛ لذلك تخِرُّ الأعضاء ساجدة، وتدمع العيون، وتقشعر الجلود، وتلين القلوب، كيف لا والمتكلم هو الله؟
ثم يقول الحق سبحانه: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ}
(15/9131)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)
قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} [مريم: 59] أي: أن المسائل لم تستمر على ما هي عليه من الكلام السابق ذِكْره، بل خَلفَ هؤلاء القوم (خَلْفٌ) والخَلْف: هم القوم الذين يخلُفون الإنسان: أي: يأتون بعده أو من ورائهم.
وهناك فَرْق بين خَلْف وخَلَف: الأولى: بسكون اللام ويُراد بها الأشرار من عَقِب الإنسان وأولاده، والأخرى: بفتح اللام ويُراد بها الأخيار. لذل، فالشاعر حينما أراد أنْ يتحسَّر على أهل الخير الذي مَضَوْا قال:
(15/9131)
ذَهَبَ الذِينَ يُعاشُ فِي أكنَافِهمْ ... وبَقِيتُ في خَلْف كجِلْدِ الأجْرَبِ
فماذا تنتظر من هؤلاء الأشرار؟ لا بُدّ أنْ يأتي بعدهم صفات سوء {أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات} [مريم: 59] إذن: هم خَلْف فاسد، فأول ما أضاعوا أضاعوا الصلاة التي هي عماد الدين، وأَوْلَى أركانه بالأداء.
صحيح أن الإسلام بُني على عِدّة أركان، لكن بعض هذه الأركان قد يسقط عن المسلم، ولا يُطْلب منه كالزكاة والحج والصيام، فيبقى ركنان أساسيان لا يسقطان عن المسلم بحال من الأحوال، هما: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقامة الصلاة.
وسُئِلْنَا مرة من بعض إخواننا في الجزائر: لماذا نقول لمن يؤدي فريضة الحج: الحاج فلان، ولا نقول للمصلى: المصلى فلان، أو المزكَّى فلان، أو الصائم فلان؟
فقلت للسائل: لأن الحج تتم نعمة الله على العبد، وحين نقول: الحاج فلان. فهذا إشعار وإعلام أن الله أتمَّ له النعمة، واستوفى كل أركان الإسلام، فمعنى أنه أدَّى فريضة الحج أنه مستطيع مالاً وصحة، وما دام عنده مال فهو يُزكِّي، وما دام عنده صحة فهو يصوم، وهو بالطبع يشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويؤدي الصلاة، وهكذا تمَّتْ له بالحج جميع أركان الإسلام.
ثم يقول تعالى: {فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} [مريم: 59] هذه العبارة أخذها المتمحّكون الذين يريدون أنْ يدخلوا على القرآن بنقد، فقالوا: الغَيُّ هو الشر والضلال والعقائد الفاسدة، وهذه حدثتْ منهم بالفعل
(15/9132)
في الدنيا فأضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، فكيف يقول: فسوف يلقوْنه في المستقبل؟
لكن المراد بالغيّ هنا أي: جزاء الغي وعاقبته. كما لو قُلْت: أمْطرتْ السماء نباتاً، فالسماء لم تُمطر النبات، وإنما الماء الذي يُخرِج النبات، كذلك غيّهم وفسادهم في الدنيا هو الذي جَرَّ عليهم العذاب في الآخرة.
إذن: المعنى: فسوفَ يلقْونَ عذاباً وهلاكاً في الآخرة.
ومع ذلك، فالحق تبارك وتعالى لرحمته بخَلْقه شرع لهم التوبة، وفتح لهم بابها، ويفرح بهم إنْ تابوا؛ لذلك فالذين اتصفُوا بهذه الصفات السيئة فأضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات لا ييأسون من رحمة الله، مادام بابُ التوبة مفتوحاً.
وفَتْح باب التوبة أمام العاصين رحمة يرحم الله بها المجتمع كله من أصحاب الشهوات والانحرافات، وإلاَّ لو أغقلنا الباب في وجوههم لَشقِيَ بهم المجتمع، حيث سيتمادَوْن في باطلهم وغَيِّهم، فليس أمامهم ما يستقيمون من أجله.
والتوبة تكون من العبد، وتكون من الرب تبارك وتعالى، فتشريع التوبة وقبولها من الله وإحداث التوبة من العبد؛ لذلك قال تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا} [التوبة: 118] أي: شرعها لهم ليتوبوا فيقبل توبتهم، فهي من الله أولاً وأخيراً؛ لذلك يأتي هذا الاستثناء.
(15/9133)
{إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً}
(15/9134)
إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)
وللتوبة شروط يجب مراعاتها، وهي: أن تُقلِع عن الذنب الذي تقع فيه، وأن تندم على ما بدر منك، وإنْ تنوي وتعزم عدم العودة إليه مرة أخرى. وليس معنى ذلك أنك إنْ عُدْتَ فلن تُقْبلَ منك التوبة، فقد تتعرض لظروف تُوقِعك في الذنب مرة أخرى.
لكن المراد أنْ تعزم صادقاً عند التوبة عدم العَوْد، فإنْ وقعت فيه مرة أخرى تكون عن غير قَصْد ودون إصرار. وإلاّ لو دبرتَ لهذه المسألة فقُلْت: أذنب ثم أتوب، فمن يُدرِيك أن الله تعالى سيمهلك إلى أن تتوبَ؟ إذن: فبادر بها قبل فَوات أوانها.
هذه إذن شروط التوبة إنْ كانت في أمر بين العبد وربه، فإنْ كانت تتعلق بالعباد فلا بُدَّ أنْ يتوفّر لها شرط آخر وهو رَدُّ المظالم إلى أهلها إنْ كانت ترد، أو التبرع بها في وجوه الخير على أنْ ينويَ ثوابها لأصحابها، إنْ كانت مظالم لا تُردُّ.
ثم يقول تعالى بعدها: {وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} [مريم: 60] معنى: وآمن بعد أنْ تاب، تعني أن ما أحدثه من معصية خدش إيمانه، فيحتاج إلى تجديده. وهذا واضح في الحديث الشريف:
«لايزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» .
فساعةَ مباشرة هذه المعاصي تنتنفي عن الإنسان صفة الإيمان؛
(15/9134)
لأن إيمانه غاب في هذه اللحظة؛ لأنه لو استحضر الإيمان وما يلزمه من عقوبات الدنيا والآخرة ما وقع في هذه المعاصي.
لذلك قال: (وَآمَنَ) أي: جدَّد إيمانه، وأعاده بعد توبته، ثم {وَعَمِلَ صَالِحاً} [مريم: 60] ليصلح به ما أفسده بفعل المعاصي.
والنتيجة: {فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً} [مريم: 60] وفي موضع آخر، كان جزاء مَنْ تاب وآمن وعمل صالحاً: {فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] .
فلماذا كُلُّ هذا الكرم من الله تعالى لأهل المعاصي الذين تابوا؟ قالوا: لأن الذي أَلِفَ الشهوة واعتاد المعصية، وأدرك لذَّته فيها يحتاج إلى مجهود كبير في مجاهدة نفسه وكَبْحها، على خلاف مَنْ لم يتعوّد عليها، لذلك احتاج العاصون إلى حافز يدفعهم ليعودوا إلى ساحة ربهم.
لذلك قال سبحانه: {فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة} [مريم: 60] دون أنْ يُعيَّروا بما فعلوه؛ لأنهم صَدَقُوا التوبة إلى الله {وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً} [مريم: 60] وبقدر ما تكون التوبة صادقة، والندم عليها عظيماً، وبقدر ما تلوم نفسَك، وتسكب الدمْع على معصيتك بقدر ما يكون لك من الأجر والثواب، وبقدر ما تُبدَّل سيئاتك حسناتٍ. وكُلُّ هذا بفضل الله وبرحمته.
ثم يقول الحق سبحانه: {جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدَ الرحمن}
(15/9135)
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61)
قوله: {جَنَّاتِ عَدْنٍ} [مريم: 61] أي: إقامة دائمة؛ لانك قد تجد في الدنيا جنات، وتجد أسباب النعيم، لكنه نعيم زائل، إمّا أنْ تتركه أو يتركك. إذن: فكُلُّ نعيم الدنيا لا ضامنَ له.
وجنات عَدْن ليست هي مساكن أهل الجنة، بل هي بساتين عمومية يتمتع بها الجميع، بدليل أن الله تعالى عطف عليها في آية أخرى (وَمَسَاكِنَ طَيِّبةً) في قوله تعالى: {وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} [التوبة: 72] .
وقوله: {التي وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ بالغيب} [مريم: 61] والوعْد: إخبار بخير قبل أوانه؛ ليشجع الموعود على العمل لينالَ هذا الخير، وضِدّه الوعيد: إخبار بشَرٍّ قبل أوانه ليحذره المتوعد، ويتفادى الوقوع في أسبابه.
واختبار هنا اسم الرحمن ليُطمئِنَ الذين أسرفوا على أنفسهم بالمعاصي أن ربهم رحمن رحيم، إنْ تابوا إليه قبلهم، وإنْ وعدهم وَعْداً وَفَى. وقد وعدنا الله تعالى في قرآن فآمنّا بوعده غيْباً {وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ بالغيب} [مريم: 61] .
وحجة الإيمان بالغيب فيما لم يوجد بعد المشهد الذي نراه الآن، فالكون الذي نشاهده قد خُلِق على هيئة مُهندسةٍ هندسةً لا يوجد أبدعُ منها، فالذي خلق لنا هذا الكون العجيب المتناسق إذا أخبرنا عن نعيم آخر دائم في الآخرة، فلا بُدَّ أن نُصدِّق، ونأخذ من المشاهدَ لنا دليلاً على ما غاب عَنَّا؛ لذلك نؤمن بالآخرة إيماناً غيبياً ثقةً مِنَّا في قدرته تعالى التي رأينا طَرَفاً منها في الدنيا.
(15/9136)
ثم يقول تعالى: {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً} [مريم: 61] فما دام الرحمن تبارك وتعالى هو الذي وعد، فلا بُدَّ أن يكون وعدُه (مَأْتِياً) أي: مُحقّقاً وواقعاً لا شَكَّ فيه، ووعْده تعالى لا يتخلَّف و (مَأْتِياً) أى نأتيه نحن، فهي اسم مفعول.
وبعض العلماء يرى أن (مَأتِياً) بمعنى آتياً، فجاء باسم المفعول، وأراد اسم الفاعل، لكن المعنى هنا واضح لا يحتاج إلى هذا التأويل؛ لأن وعد الله تعالى مُحقَّق، والموعود به ثابت في مكانه، والماهر هو الذي يسعى إليه ويسلك طريقه بالعمل الصالح حتى يصل إليه.
ثم يقول الحق سبحانه عن أهل الجنة في الجنة: {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً}
(15/9137)
لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)
اللغو: هو الكلام الفُضولي الذي لا فائدة منه، فهو يضيع الوقت ويُهْدِر طاقة المتكلم وطاقة المستمع، وبعد ذلك لا طائلَ من ورائه ولا معنى له.
والكلام هنا عن الآخرة {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} [مريم: 62] فإن كانوا قد سمعوا لَغْواً كثيراً في الدنيا فلا مجالَ للغو في الآخرة. ثم يستثني من عدم السماع {إِلاَّ سَلاَماً} [مريم: 62] والسلام ليس من اللغو، وهو تحية أهل الجنة وتحية الملائكة: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} [يونس: 10] .
(15/9137)
وقد يُرَادُ بالسلام السلامة من الآفات التي عاينوها في الدنيا، وهم في الآخرة سالمون منها، فلا عاهة ولا مرضَ ولا كَدَّ ولا نصبَ. لكن نرجح هنا المعنى الأول أي: التحية؛ لأن السلام في الآية مما يُسْمَع.
فإنْ قُلْتَ: فكيف يستثنى السلام من اللَّغْو؟ نقول: من أساليب اللغة: تأكيد المدح بما يشبه الذم، كأن نقول: لا عيبَ في فلان إلا أنه شجاع، وكنت تنتظر أنْ نستثني من العيب عَيْباً، لكن المعنى هنا: إنْ عددتَ الشجاعة عيباً، ففي هذا الشخص عَيْب، فقد نظرنا في هذا الشخص فلم نجد به عَيْباً، إلا إذا ارتكبنا مُحَالاً وعددنا الشجاعة عيباً. وهكذا نؤكد مدحه بما يشبه الذم.
ومن ذلك قول الشاعر:
ولاَ عَيْبَ فِيهِم غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاع الكَتَائِبِ
ثم يقول تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} [مريم: 62] لم يقُل الحق سبحانه وتعالى: وعلينا رزقهم، بل: ولهم زرقهم: أي أنه أمر قد تقرّر له وخُصِّص لهم، فهو أمر مفروغ منه. والرزق: كُلُّ ما يُنتفع به، وهو في الآخرة على قَدْر عمل صاحبه من خير في الدنيا.
ومن رحمة الله تعالى بعباده من أهل الجنة أنْ نزعَ ما في
(15/9138)
صدورهم من غِلٍّ ومن حسد ومن حقد، فلا يحقد أحدٌ على أحد أفضل مرتبة منه، ولا يشتهي من نعيم الجنة إلا على قَدْر عمله ودرجته، فإنْ رأى مَنْ هو أفضل منه درجةً لا يجد في نفسه غِلاً منه، أو حِقْداً عليه؛ لأن موجب الغِلِّ في الدنيا أنْ ترى مَنْ هو أفضل منك.
أما في الآخرة فسوف ترى هذه المسألة بمنظار آخر، منظار النفس الصافية التي لا تعرف الغلَّ، قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47] .
فإنْ رأيت مَنْ هو أعلى منك درجةً فسوف تقول: إنه يستحق ما نال من الخير والنعيم، فقد كان يجاهد نفسه وهواه في الدنيا. ويكفي في وَصْف ما في الجنة من الرزق والنعيم قوله تعالى: {فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين} [الزخرف: 71] .
وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «فيها ما لا عَيْن رأت، ولا إذن سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر» .
إذن: ففي الجنة أشياء لا تقع تحت إدراكنا؛ لذلك ليس في لغتنا ألفاظ تُعبِّر عن هذا النعيم؛ لأنك تضع في اللغة اللفظ الذي أدركتَ معناه، وفي الجنة أشياء لا تدركها ولا عِلْمَ لك بها؛ لذلك حينما يريد الحق تبارك وتعالى أن يصِفَ لنا نعيم الجنة بصفة بما نعرف من نعيم الدينا: نخل وفاكهة ورمان ولحم طير وريحان.
ويقول: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ
(15/9139)
وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى} [محمد: 15] .
مع الفارق بين هذه الأشياء في الدنيا والآخرة. ويكفي أن تعرف الفرق بين خمر الدنيا وما فيها من سوء في طعمها ورائحتها واغتيالها للعقل، وبين خمر الآخرة التي نفى الله عنها السوء، فقال: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} [الصافات: 47] .
وقوله: {بُكْرَةً وَعَشِيّاً} [مريم: 62] فكيف يأتيهم رزقهم بُكْرة وعشياً، وليس في الجنة وقت لا بُكْرة ولا عَشِياً، لا لَيْل ولا نهار؟ نقول: إن الحق تبارك وتعالى يخاطبنا على قَدْر عقولنا، وما نعرف نحن من مقاييس في الدنيا، وإلاّ فنعيم الجنة دائم لا يرتبط بوقت، كما قال سبحانه: {أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا} [الرعد: 35] .
وفي آية أخرى قال تعالى: {أولئك هُمُ الوارثون الذين يَرِثُونَ الفردوس هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 1011] .
ثم يقول الحق سبحانه: {تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ}
(15/9140)
تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)
قوله: {تِلْكَ الجنة} [مريم: 63] أي: التي يعطينا صور لها هي: {التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً} [مريم: 63] أي: يرثونها، فهل كان في الجنة أحد قبل هؤلاء، فَهُم يرثونه؟
الحق تبارك وتعالى قبل أن يخلق الخَلْق عرف منهم مَنْ سيؤمن باختياره، ومَنْ سيكفر باختياره، علم مَنْ سيطيع ومَنْ
(15/9140)
سيعصي، فلم يُرغِم سبحانه عباده على شيء، إنما علم ما سيكون منهم بطلاقة علمه تعالى، إلا أنه تعالى أعدَّ الجنة لتسع جميع الخَلْق إنْ أطاعوا، وأعدَّ النار لتسع جميع الخَلْق إنْ عَصَوْا، فلن يكون هناك إذن زحام ولا أزمة إسكان، إنْ دخل الناس جميعاً الجنة، أو دخلوا جميعاً النار.
إذن: حينما يدخل أهلُ النارِ النارَ، أين تذهب أماكنهم التي أُعِدَّتْ لهم في الجنة؟ تذهب إلى أهل الجنة، فيرثونها بعد أنْ حُرم منها هؤلاء.
ثم يقول رب العزة سبحانه: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ}
(15/9141)
وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)
هنا ينتقل السياق إلى موضوع آخر، فبعد أنْ تحدَّث عن الجنة وأهلها عرض لأمر حدث لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهو ما يحدث له حين ينزل عليه الوحي، وقلنا: إن الوحي ينزل بواسطة جبريل عليه السلام، وهو مَلَكٌ، على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو بشر.
ولقاء جبريل بقانون ملكيته بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقانون بشريته لا يمكن أن يتم إلاَّ بتقارب هذيْن الجنسين وعملية تغيير لا بُدَّ أنْ تطرأ على أحدهما، إما أَنْ ينزل الملَكُ على صورة بشرية، وإما أن يرتفع
(15/9141)
ببشرية الرسول إلى درجة تقرب من المَلك ليأخذ عنه، وذلك ما كان يحدث لرسول الله حين يأتيه الوحي.
وقد وصف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذا التغيير فقال: « ... فغطَّني حتى بلغ مني الجهْد ... » وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يتفصَّد جبينه عرقاً لما يحدث في جسمه من تفاعل وعمليات كيماوية، ثم حينما يُسرِّي عنه تذهب هذه الأعراض.
وقد أخبر بعض الصحابة، وكان يجلس بجوار رسول الله، والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يضع رُكْبته على رُكْبته، فلما نزل على رسول الله الوحي قال الصحابي: شعرتُ برُكْبة رسول الله وكأنها جبل.
وإذا أتاه الوحي وهودابة كانت الدابة تئط أي: تنخ من ثِقَل الوحي، وقد قال تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل: 5] .
إذن: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يتعب بعد هذا اللقاء ويشقُّ عليه، حتى يذهب إلى السيدة خديجة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها يقول: «زَمِّلوني زَمِّلوني» أو «دَثِّروني دَثِّروني» كأن به حمى مما لاقى من لقاء الملَك ومباشرة الوحي أولاً.
(15/9142)
ثم أراد الحق سبحانه وتعالى أن يجعل الوحي يفتر عن رسوله ليرتاح من تعبه ومشقته، فإذا ما ارتاح وذهب عنه التعب بقيتْ له حلاوة ما نزل من الوحي، فيتشوق إليه من جديد، كما يشتاق الإنسان لمكانٍ يحبه دونه الأشواك ومصاعب الطريق، فالحب للشيء يحدث علمية كالتخدير، فلا تشعر في سبيله بالتعب.
وقلنا: لما فتر الوحي عن رسول الله شمت فيه الكفار وقالوا: إن رَبَّ محمد قد قلاه يعني: أبغضه وتركه.
وهذا القول دليل على غبائهم وحماقتهم، كيف وقد كانوا بالأمس يقولون عنه: ساحر وكذاب؟ ففي البغض يتذكرون أنه له رباً منع عنه الوحي، وحين دعاهم إلى الإيمان بهذا الرب قالوا: من أين جاء بهذا الكلام؟
لذلك، فالحق تبارك وتعالى يخاطب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قائلاً: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الذي أَنقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 14] إذن: كانت مسألة الوحي شاقة على رسول الله.
فأراد الحق سبحانه أن يعطي هؤلاء درساً من خلال درس كونيّ مشاهد يشهد به المؤمن والكافر، هذا الأمر الكونيّ هو الزمن، وهو ينقسم إلى ليل ونهار، ولكل منهما مهمته التي خلقه الله من أجلها، كما قال سبحانه:
{والليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى} [الليل: 12] .
فإياك أنْ تُغيّر مهمة الليل إلى النهار، أو مهمة النهار إلى الليل.
ثم يرد عليهم قائلاً: {والضحى والليل إِذَا سجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى} [الضحى: 14] .
(15/9143)
والمعنى: إنْ كان النهار لحركة الحياة واستبقائها، والليل للراحة والسكون، فهما آيتان متكاملتان لا مُتضادتان، وليس معنى أن يأتي الليل بسكونه أن النهار لن يأتي من بعد، بل سيأتي نهار آخر، وستستمر حركة الحياة.
وكذلك الأمر إنْ فترَ الوحي عن رسول الله، فلا تظنوا أنه انقطع إلىغير رَجْعة، بل هي فترة ليرتاح فيها رسول الله، كالليل الذي ترتاحون فيه من عناء العمل في النهار، ومن هنا كانت الحكمة في أنْ يُقسم سبحانه وتعالى بالضحى والليل إذا سجى على {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} [الضحى: 3] .
ونلحظ في هذا التعبير دِقّة الإعجاز في أداء القرآن، حيث قال: {مَا وَدَّعَكَ} [ضحى: 3] بكاف الخطاب؛ لأن التوديع يكون لمَنْ تحب ولمَنْ تكره، أما في القِلَى فلم يقُلْ: قَلاَك. لأن القِلَى لا يكون إلا لمَنْ تكره.
ومعنى: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى} الضحى: 4] الآخرة أي: الفترة الأخيرة من نزول الوحي خَيْر لك من الفترة الأولى؛ لأنها ستكون أوسع، وستأتيك بلا تَعَب ولا مشقة، وفعلاً نزلت جمهرة القرآن بعد ذلك في يُسْر على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وهكذا كان الأمر في الآية التي نحن بصددها: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم: 64] فيقال: إنها نزلت حينما قال الكفار: إن ربَّ محمد قد قلاه، أو أنها نزلت بعد أن سأل كفار مكة الأسئلة
(15/9144)
الثلاثة التي تحدثنا عنها في سورة الكهف. وأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لهم: «سأخبركم غداً» لكن الوحي لم يأته مدة خمسة عشر يوماً، فشقَّ ذلك عليه وحزِنَ له فنزلت: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم: 64] أي: الملائكة لا تنزل إلا بأمر، ولا تغيب إلا بأمر.
ثم يقول الحق سبحانه تعالى: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك} [مريم: 64] .
قوله تعالى: {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} [مريم: 64] أي: الذي أمامنا {وَمَا خَلْفَنَا} [مريم: 64] أي: في الخلف {وَمَا بَيْنَ ذلك} [مريم: 64] أي: ما بين الأمام والخلف، فماذا بين الأمام والخلف؟ ليس بين الأمام والخلف إلا أنت. فسبحانه وتعالى المالك، الذي له الملك والمملوك، وله المكان والمكين، وله الزمان والزمين.
وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [مريم: 64] هل يرسل الحق تبارك وتعالى رسولاً، ثم ينساه هكذا دون إمداد وتأييد؟ فسبحانه تنزَّه عن الغفلة وعن النيسان.
ثم يقول الحق سبحانه: {رَّبُّ السماوات والأرض}
(15/9145)
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
أولاً: ما علاقة قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [مريم: 64] بقوله تعالى في هذه الآية: {رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} [مريم: 65] ؟
(15/9145)
قالوا: لأن هذا الكون العظيم بسمائه وأرضه، وما فيه من هندسة التكوين وإبداع الخلق قائم بقيومية الله تعالى عليه، كما قال سبحانه: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ} [فاطر: 41] .
فلا تظن أن الكون قائم على قانون يُديره، بل على القيومية القائمة على كل أمر من أمور الكون، والحق تبارك وتعالى لا تأخذه سنة ولا نوم. فما دام الأمر كذلك، وأنه تعالى يعلم ما بين أيدينا وما خلفنا، وما بين ذلك، وأنه تعالى قيُّوم لا ينسى ولا يغفل وبه يقوم الكون. فهو إذن يستحق العبادة والطاعة فيما أمر، وقد أعطاك قبل أن يُكلّفك عطاء لا تستطيع أنت أن تفعله لنفسك، ثم تركك تربع في هذا النعيم خمس عشرة سنة دون أنْ يُكلِّفك بشيء من العبادات.
لذلك هنا يقول تعالى: {رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فاعبده واصطبر لِعِبَادَتِهِ} [مريم: 65] وقد أكّد القرآن الكريم في آيات كثيرة مسألة الوحدانية، وأنه رَبٌّ واحد فقال: {رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} [مريم: 65] .
وقال: {رَبِّ العالمين} [الفاتحة: 2] .
وقال: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين} [الشعراء: 26] .
لأن القدماء، ومنهم مثلاً قدماء المصريين كانوا يجعلون رباً للسماء، ورباً للأرض، ورباً للجو، ورباً للأموات، ورباً للزرع. . إلخ وما دام هو سبحانه رب كل شيء فقد رتب العبادة على الربوبية. والعبادة: طاعة معبود فيما أمر وفيما نهى، وكيف لا نطيع الله ونحن خَلْقه وصَنْعته، ونأكل رزقه، ونتقلب في نعمه؟ وفي ريفنا يقول الرجل لولده المتمرد عليه: (مَنْ يأكل لقمتي يسمع كلمتي) .
(15/9146)
ولا بُدَّ أن نعلم أن الله تعالى له الكمال المطلق قبل أنْ يخلق الخَلْق وبصفات الكمال خلق، فلا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية. فإن قلتَ: فلماذا إذن يُكلِّف الخَلْق بالأمر والنهي؟ نقول: كلَّف الله الخَلْق لتستمر حركة الحياة وتتساند الجهود ولا تتصادم، فيحدث في حياتهم الارتقاء ويسعدوا بها، إنما لو تركهم وأهواءهم لَفسدتِ الحياة، فأنت تبني وغيرك يهدم.
لذلك يقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به» .
والحق تبارك وتعالى يقول: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض} [المؤمنون: 71] .
إذن: التشريعات جُعلَتْ لصالحنا نحن: {فاعبده واصطبر لِعِبَادَتِهِ} [مريم: 65] لأن العبادة فيها مشقة، فلا بُدَّ لها من صبر؛ لأنها تأمرك بأشياء يشقُّ عليك أنْ تفعلها، وينهاك عَنْ أشياء يشقُّ عليك أن تتركها لأنك ألِفْتها.
والصبر يكون منا جميعاً، يصبر كُلٌّ مِنَّا على الآخر؛ لأننا أبناء أغيار، فإن صبرتَ على الأذى صبر الناس عليك إنْ حدث منك إيذاء لهم؛ لذلك يقول تعالى:
{وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 3] .
والحق سبحانه وتعالى يُعلِّمنا: إن أذنب أحد في حَقْك، أو أساء إليك فاغفر له كما تحب أن أغفر لك ذنبك، واعفوَ عن سيئتك.
(15/9147)
يقول تعالى: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة أَن يؤتوا أُوْلِي القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 22] .
ولا تظن أن صبرك على أذى الآخرين أو غفرانك لهم تطوُّع من عندك؛ لأنه لن يضيع عليك عند الله، وستُردُّ لك في سيئة تُغفَر لك. حتى مَنْ فُضِح مثلاً أو ادُعي عليه ظُلْماً لا يضيعها الله، بل يدّخرها له في فضيحة سترها عليه، فمَنْ فُضِح بما لم يفعل، سُتر عليه ما فعل.
وقوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: 65] ؟ سبق أن تكلمنا في معنى (السَّميّ) وقد اختلف العلماء في معناها، قالوا: السَّميُّ: الذي يُساميك، أي: أنت تسمو وهو يسمو عليك، أو السَّميّ: النظير والمثيل.
والحق سبحانه وتعالى ليس له سميٌّ يُساميه في صفات الكمال، وليس له نظير أو مثيل أو شبيه، بدليل قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] .
(15/9148)
وقوله تعالى: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 14] .
وللسميِّ معنى آخر أوضحناه في قصة يحيى، حيث قال تعالى: {لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً} [مريم: 7] أي: لم يسبق أنْ تسمَّى أحد بهذا الاسم. وكذلك الحق تبارك وتعالى لم يتسمَّ أحدٌ باسمه، لا قبل هذه الآية، ولا بعد أنْ أطلقها رسول الله تحدّياً بين الكفار والملاحدة الذين يتجرؤون على الله. فلماذا لم يجرؤ أحد من هؤلاء أنْ يُسمى ولده الله؟
الحقيقة أن هؤلاء وإنْ كانوا كفاراً وملاحدة إلا أنهم في قرارة أنفسهم يؤمنون بالله، ويعترفون بوجوده، ويخافون من عاقبة هذه التسمية، ولا يأمنون أنْ يصيبهم السوء بسببها.
إذن: لم تحدث، ولم يجرؤ أحد عليها؛ لأن الله تعالى قالها وأعلنها تحدياً، وإذا قال الله تعالى، ملَكَ اختيار الخَلْق، وعلم أنهم لن يجرؤوا على هذه الفعلة.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَيَقُولُ الإنسان أَإِذَا مَا مِتُّ}
(15/9149)
وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66)
ما المراد بالإنسان؟ الإنسان تُطلق ويُراد بها عموم أي إنسان مثل: {إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً} [المعارج: 19] ويُراد بها خصوصية لبعض الناس، كما في قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} [النساء: 54] فالمراد بالناس هنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
(15/9149)
أو قوله تعالى: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل} [آل عمران: 173] فالمراد: ناسٌ مخصوصون.
والمعنى هنا: {وَيَقُولُ الإنسان} [مريم: 66] أي: الكافر الذي لا يؤمن بالآخرة، ويستبعد الحياة بعد الموت: {أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} [مريم: 66] والاستفهام هنا للإنكار، لكن هذه مسألة الردُّ عليها سَهْل مَيْسور، فيقول تعالى: {أَوَلاَ يَذْكُرُ الإنسان}
(15/9150)
أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67)
فلأنْ يُعادَ الإنسانُ من شيء أهونُ من إنْ يعاد من لا شيء؛ لذلك قال تعالى في توضيح هذه المسألة: {وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] مع أن الخالق سبحانه وتعالى لا يُقال في حقه تعالى هَيِّن وأهون، أو صعب وأصعب، ولكنه يحدثنا بما نفهم وبما نعلم في أعرافنا.
ففي عُرْفنا نحن أن تنشيء من موجود أسهل من أنْ تنشيء من عدم، وإنْ كان فعل العبد يقوم على المعالجة ومزاولة الأسباب، ففِعْل الخالق سبحانه إنما يكون بقوله للشيء «كُنْ فيكون» .
وفي آية أخرى يقول تعالى: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28] .
ولما سُئِل الإمام علي كرَّم الله وجهه: كيف يُحاسِب اللهُ الناسَ جميعاً في وقت واحد؟ قال: كما يرزقهم جميعاً في وقت واحد.
(15/9150)
فقوله: {أَوَلاَ يَذْكُرُ الإنسان} [مريم: 67] أي: لو تذكّر هذه الحقيقة ما كذَّب بالبعث، وقد عولجت هذه المسألة أيضاً في قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] .
فلو تذكَّر خَلْقه الأول ما ضرب لنا هذا المثل. ثم يأتي الجواب منطقياً: {قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 79] .
وهنا أيضاً يكون الدليل: {أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} [مريم: 67] .
ثم يقول الحق سبحانه: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ والشياطين}
(15/9151)
فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68)
قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ والشياطين} [مريم: 68] الحشر: أن يبعثهم الله من قبورهم، ثم يسوقهم مجتمعين إلى النار هم والشياطين الذين كانوا يُغْرونهم بالمعصية ويُزينونها لهم.
{ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً} [مريم: 68] يقال: جثا يجثو فهو جَاثٍ. أي: ينزل على ركبتيه، وهي دلالة على الذِّلَّة والانكسار والمهانة التي لا يَقْوى معها على القيام.
(15/9151)
ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69)
النزع: خَلْع الشيء من أصله بشدة، ولا يقال: نزع إلا إذا كان المنزوع متماسكاً مع المنزوع منه، ومن ذلك قوله تعالى: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ} [آل عمران: 26] كأنهم كانوا مُتمسّكين به حريصين عليه.
وقوله: {مِن كُلِّ شِيعَةٍ} [مريم: 69] أي: جماعة متشايعون على رأي باطل، ويقتنعون به، ويسايرون أصحابه: {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً} [مريم: 69] العتي: وهو الذي بلغ القمة في الجبروت والطغيان، بحيث لا يقف أحد في وجهه، كما قلنا كذلك في صفة الكِبَر {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً} [مريم: 8] لأنه إذا جاء الكبر لا حيلةَ فيه، ولا يقدر عليه أحد.
ومعلوم أن رسالات السماء لما نزلتْ على أهل الأرض كان هناك أناس يُضارون من هذه الرسالات في أنفسهم، وفي أموالهم، وفي مكانتهم وسيادتهم، فرسالات الله جاءتْ لتؤكد حَقّاً، وتثبت وحدانية الله، وسواسية الخَلْق بالنسبة لمنهج الله.
وهناك طغاة وجَبَّارون وسادة لهم عبيد، وفي الدنيا القوى والضعيف، والغني والفقير، والسليم والمريض، فجاءت رسالات السماء لِتُحدِث استطراقاً للعبودية.
فَمن الذي يُضَار ويَغْضَب ويعادي رسالات السماء؟ إنهم هؤلاء الطغاة الجبارون، أصحاب السلطة والمال والنفوذ، ولا بُدَّ أن لهؤلاء أتباعاً يتبعونهم ويشايعونهم على باطلهم.
(15/9152)
فإذا كان يوم القيامة ويوم الحساب، فبمَنْ نبدأ؟ الأنكَى أن نبدا بهؤلاء الطغاة الجبابرة، ونقدم هؤلاء السادة أمام تابعيهم حتى يروهم أذلاء صاغرين، وقد كانوا في الدنيا طغاةً متكبرين، كذلك لنقطع أمل التابعين في النجاة.
فربما ظَنُّوا أن هؤلاء الطغاة الجبابرة سيتدخلون ويدافعون عنهم، فقد كانوا في الدنيا خدمهم، وكانوا تابعين لهم ومناصرين، فإذا ما أخذناهم أولاً وبدأنا بهم، فقد قطعنا أمل التابعين في النجاة.
وقد ورد هذا المعنى أيضاً في قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل: 83] أي: من كبارهم وطُغَاتهم، ليرى التابعون مصارع المتبوعين، ويشهد الضعفاء مصارع الأقوياء، فينقطع أملهم في النجاة.
وفي حديث القرآن عن فرعون، وقد بلغ قمة الطغيان والجبروت حيث ادَّعى الألوهية، فقال عنه: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار وَبِئْسَ الورد المورود} [هود: 98] فهو قائدهم ومقدمتهم إلى جهنم، كما كان قائدهم إلى الضلال في الدنيا، فهو المعلم وهم المقلّدون.
فعليه إذن وزْران: ضلاله في نفسه، ووزْر إضلاله لقومه، كما جاء في قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة: 79] .
ثم يقول الحق سبحانه: {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين}
(15/9153)
ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)
صلياً: اصطلاء واحتراقاً في النار من صَلِيَ يصْلَى: أي دخل النار وذاق حرَّها. أما: اصطلى أي: طلب هو النار، كما في قوله تعالى: {لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [النمل: 7] .
والمعنى: أننا نعرف مَنْ هو أَوْلى بدخول النار أولاً، وكأن لهم في ذلك أولويات معروفة؛ لأنهم سيتجادلون في الآخرة ويتناقشون ويتلاومون وسيدور بينهم مشهد فظيع رَهيب يفضح ما اقترفوه.
فالتابع والمتبوع، والعابد والمعبود، كُلٌّ يُلقي باللائمة على الآخر، اسمعهم وهم يقولون: {رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب والعنهم لَعْناً كَبِيراً} [الأحزاب: 6768] .
وفي آية أخرى: {إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا وَرَأَوُاْ العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب} [البقرة: 166] .
وصدق الله العظيم حين قال: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} [الزخرف: 67] .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا}
(15/9154)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71)