وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54)
قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوعد} [مريم: 54] ما الميزة هنا وكل الرسل كانوا صادقي الوعد؟ قالوا: لأن هناك صفة تبرز في شخص ويتميز بها، وإن كانت موجودة في غيره، فالذي يصدُق في وعد أعطاه، أو كلمة قالها صدق في أمر يملكه ويتعلق به.
أما إسماعيل عليه السلام فكان صادق الوعد في أمر حياة أو موت، أمر يتعلق بنفسه، حين قال لأبيه: {ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين} [الصافات: 102] .
وليت الأمر جاء مباشرة، إنما رآه غيره، وربما كانت المسألة أيسَر لو أن الولد هو الذي رأى أباه يذبحه، لكنها رُؤْيا رآها الأب، والرؤيا لا يثبت بها حكم إلا عند الأنبياء. فكان إسماعيل دقيقاً في إجابته حينما أخبره أبوه كأنه يأخذ رأيه في هذا الأمر: {إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى} [الصافات: 102] .
فخاف إبراهيم عليه السلام أن يُقبل على ذَبْح ولده دون أن يخبره حتى لا تأتي عليه فترة يمتلىء غيظاً من أبيه إذا كان لا يعرف السبب، فأحبَّ إبراهيم أن يكون استسلامُ ولده للذبح قُرْبَى منه لله، له أجْرُها وثوابها.
قال إسماعيل عليه السلام لأبيه إبراهيم: {ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ} [الصافات: 102] .
(15/9122)
والوعد الذي صدق فيه قوله: {ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين} [الصافات: 102] وصدق إسماعيل في وعده، واستسلم للذبح، ولم يتردد ولم يتراجع؛ لذلك استحق أنْ يميزه ربه بهذه الصفة {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوعد} [مريم: 54] .
فلما رأى الحق تبارك وتعالى استسلام إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لقضاء الله رفع عنه قضاءه وناداه: {وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 104107] فكانت نتيجة الصبر على هذا الابتلاء أنْ فدى الله الذبيح، وخلَّصه من الذبح، ثم أكرم إبراهيم فوق الولد بولد آخر: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ} [الأنعام: 84] .
وهذه لقطة قرآنية تُعلِّمنا أن المسلم إذا استسلم لقضاء الله، ورَضِي بقدره فسوف يجني ثمار هذا الاستسلام، والذي يطيل أمد القضاء على الناس أنهم لا يرضون به، والحق تبارك وتعالى لا يجبره أحد، فالقضاء نافذ نافذ، رضيتَ به أم لم تَرْضَ.
وحين تسلم لله وترضى بقضائه يرفعه عنك، أو يُبيّن لك وجه الخير فيه. إذن: عليك أن تحترم القدر وترضى به؛ لأنه من ربك الخالق الحكيم، ولا يُرفع قضاء الله عن الخلق حتى يرضوا به.
وكثيراً ما نرى اعتراض الناس على قضاء الله خاصة عند موت الطفل الصغير، فنراهم يُكثِرون عليه البكاء والعويل، يقول أحدهم: إنه لم يتمتع بشبابه.
ونعجب من مثل هذه الجهالات: أيّ شباب؟ وأيَّة متعة هذه؟ وقد فارق في صِغَره دنيا باطلة زائلة، ومتعة موقوتة إلى دار باقية
(15/9123)
ومتعة دائمة؟ كيف وقد فارق العيش مع المخلوق، وذهب إلى رحاب الخالق سبحانه؟
إنه في نعيم لو عرفتَه لتمنيتَ أن تكون مكانه، ويكفي أن هؤلاء الأطفال لا يُسألون ولا يُحاسبون، وليس لهم مسكن خاص في الجنة؛ لأنهم طلقاء فيها يمرحون كما يشاؤون؛ لذلك يسمونهم (دعاميص الجنة) .
وآخر يعترض لأن زميله في العمل رُقِّي حتى صار رئيساً له، فإذا به يحقد عليه ويحقره، وتشتعل نفسه عليه غضباً، وكان عليه أن يتساءل قبل هذا كله: أأخذ زميله شيئاً من مُلْك الله دون قضائه وقدره، إذن: فعليك إذا لم تحترم هذا الزميل أن تحترم قدر الله فيه، فما أخذَ شيئاً غصباً عن الله.
لذلك فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «اسمعوا وأطيعوا، ولو وُلِّى عليكم عبد حبشيّ، كأنّ رأسَه زبيبة» .
ثم يقول الحق سبحانه: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة}
(15/9124)
وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
أي: من خصال إسماعيل العظيمة التي ذكرها الله تعالى له: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة والزكاة} [مريم: 55] أي: زوجته. والحق تبارك وتعالى لا يهتم بخَصْلة ولا يذكرها إلا إنْ كانت كبيرة عنده، تساوي كونه صادقَ الوعد وكونه رسولاً ونبياً، فمَنْ أراد أنْ يتصفَ بصفة من صفات النبوة، فعليه أنْ يأمرَ أهله بالصلاة والزكاة.
لكن، لماذا اختص أهله بالذات؟ اختص أهله لأنهم البيئة المباشرة التي إنْ صَلُحتْ للرجل صَلُحَ له بيته، وصَلُحَتْ له ذريته، إذا كان الرجل يلفت أهله إلى ذكر الله والصلاة خمس مرات في اليوم والليلة فإنه بذلك يسدُّ الطريق على الشيطان، فليس له مجال في بيت يصلي أهله الخمس صلوات.
لذلك فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «رحم الله امرأ استيقظ من الليل، فصلَّى ركعتين ثم أيقظ أهله فإن امتنعتْ نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلَّتْ ركعتين، ثم أيقظتْ زوجها، فإنِ امتنع نضحتْ في وجهه الماء» .
إذن: فكل رجل وكل امراة يستطيع في كل ليلة أن يكون رسولاً لأهله ولبيئته يقوم فيها بمهمة الرسول؛ لأن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو خاتم الأنبياء والرسل، فليس بعد تشريعه تشريع، وليس بعد كتابه كتاب؛ لأن أمته ستحمل رسالته من بعده، وكل مؤمن منهم يعلم من الإسلام حُكْماً فهو خليفة لرسول الله في تبليغه.
كما قال تعالى: {لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143] فالرسول يشهد أنه بلَّغكم، وعليكم أنْ
(15/9125)
تشهدوا أنكم بلّغتُم الناس، وما دُمْتم بلَّغتم الناس مَنْطِقاً ولفظاً فلا بُدَّ أنْ يكون سلوكاً أيضاً، لأن لكم في رسول الله أسوة حسنة.
ودائماً ما يقرن الحق تبارك وتعالى بين الصلاة والزكاة، والصلاة تأخذ بعض الوقت، والزكاة تأخذ المال الذي هو فرع العمل الذي هو فرع الوقت، فإنْ كانت الزكاة تأخذ نتيجة الوقت، فالصلاة تأخذ الوقت نفسه. إذن: ففي الصلاة زكاة أبلغ من الزكاة.
وإنْ كان في الزكاة نماء المال وبركته وإنْ كانت في ظاهرها نقصاً ففي الصلاة نماء الوقت وبركته، فإياك أنْ تقول: أنا مشغول، ولا أجد وقتاً للصلاة؛ لأن الدقائق التي ستصلي فيها فَرْض ربك هي التي ستُشِيع البركة في وقتك كله.
كما أنك حين تقف بين يَدَيْ ربك في الصلاة تأخذ شحنة إيمانية نوارنية تُعينك على أداء مهمتك في الحياة، وتعرض نفسك على ربِّك وخالقك وصانعك، ولن تُعدم خيراً ينالك من هذا اللقاء.
ولك أنْ تتصوّر صنعةً تُعرَض على صانعها خمس مرات كل يوم، هل يصيبها عُطْل أو عَطَب؟! وإنْ كان المهندس الصانع يعالج بأشياء مادية فلأنه حِسِّيٌّ مشهود، أما الخالق سبحانه فهو غَيْب يصلحك من حيث لا تدري.
وإنْ كان إسماعيل عليه السلام يأمر أهله بالصلاة والزكاة فهو حريص عليها من باب أَوْلَى.
وقوله تعالى: {وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} [مريم: 55] أي: رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، ليس لخصال الخير التي وصفه بها، بل من بدايته، فقد رضي عنه فاختاره رسولاً ونبياً.
(15/9126)
ثم يقول الحق سبحانه: {واذكر فِي الكتاب إِدْرِيسَ}
(15/9127)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56)
ما زال القرآن يعطينا لقطاتٍ من موكب الرسالات والنبوات. وإدريس عليه السلام أوّل نبي بعد آدم عليه السلام، فهو إدريس بن شيث بن آدم. وبعد إدريس جاء نوح ثم إبراهيم، ومنه جاءت سلسلة النبوات المختلفة.
وقوله: {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيَّاً} [مريم: 56] .
تحدثنا عن معنى الصِّدِّيق في الكلام عن إبراهيم عليه السلام، والصِّدِّيق هو الذي يبالغ في تصديق ما جاءه من الحق، فيجعل الله له بذلك فُرْقاناً وإشراقاً يُميّز به الحق فلا يتصادم معه شيطان؛ لأن الشيطان قد ينفذ إلى عقلي وعقلك.
أما الوارد من الحق سبحانه وتعالى فلا يستطيع الشيطان أن يعارضه أو يدخل فيه، لذلك فالصِّدِّيق وإن لم يكُنْ نبياً فهو مُلْحقِ بالأنبياء والشهداء، كما قال تعالى: {وَمَن يُطِعِ الله والرسول فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً} [النساء: 69] .
وكذلك كان إدريس عليه السلام (نبياً) ولم يقُلْ: رسولاً نبياً، لأن بينه وبين آدم عليه السلام جيلين، فكانت الرسالة لآدم ما زالت قائمة.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً}
(15/9127)
وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)
مكاناً عالياً في السماء، رِفْعه معنوية، أو رِفْعة حِسّية، خُذْها كما شئتَ، لكن إياك أنْ تجادل: كيف رفعه؟ لأن الرِّفْعة من الله تعالى، والذي خلقه هو الذي رفعه.
ثم يقول الحق سبحانه: {أولئك الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم}
(15/9128)