ثم يقول الحق سبحانه: {وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ}
(15/9046)
وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
هذه مسائل ثلاث تُعَدُّ أعلام حياة للإنسان: الميلاد، والموت، والبعث. وقد خَصَّه الله بالسلام يوم مولده؛ لأنه وُلِد على غير العادة في الميلاد فأُمّه عاقر أسنتْ، ومع ذلك لم تتعرض لألسنة الناس ولم يعترض أحد على ولادتها، وهي على هذا الوصف، فلم يتجرأ أحد عليها؛ لأن ما حدث لها كان آيةً من آيات الله وقد بشّر الله بها
(15/9046)
زكريا لتكون البُشْرى إعداداً ومقدمة لهذا الحدث العجيب.
وخَصَّه بالسلام يوم يموت؛ لأنه سيموت شهيداً، والشهادة غير الموت، الشهادة تعطيه حياة موصولةً بالحياة الأبدية الخالدة. وكذلك خَصَّه بالسلام يوم القيامة يوم يُبعث حيّاً.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {واذكر فِي الكتاب}
(15/9047)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16)
وقصة مريم في واقع الأمر كانت قبل قصة زكريا ويحيى؛ لأن طلب زكريا للولد جاء نتيجة لما سمعه من مريم حين سألها عن طعام عندها لم يأْتِ به، وهو كافلها ومُتولّي أمرها، فتعجب أنْ يرى عندها رِزْقاً لم يحمله إليها، وهي مقيمة على عبادتها في محرابها، فقال لها: {يامريم أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] .
وكأن هذا أول بداية قانون: من أين لك هذا؟ لكن عطاءه تعالى لا يخضع للأسباب، بل هو سبحانه يرزق مَنْ يشاء متى شاء وبغير حساب.
وشاءتْ إرادة الله أن تنطِقَ مريم بهذه المقولة: {إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] لأنها ستُنبِّه زكريا إلى شيء،
(15/9047)
وستحتاجها أيضاً مريم فيما بعد حينما تشعر بالحَمْل من غير زَوْج، فلن تعترض على هذا الوضع، وستعلم أنه عطاءٌ من الله.
وكذلك نبَّهتْ هذه الآية زكريا عليه السلام إلى فَضْل الله وسِعَة رحمته، وهذا أمر لا يغيب عن نبي الله، ولكن هناك قضايا في النفس البشرية إلا أنها بعيدة عن بُؤْرة الشعور وبعيدة عن الاهتمام، فإذا ما ذُكِّر بها انتبه إليها؛ لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} [آل عمران: 38] .
فما دام أن الله يرزق مَنْ يشاء بغير حساب، فلماذا لا أدعو الله بولد صالح يحمل أمر الدعوة من بعدي، وطالما أن الرزق بغير حساب فلن يمعنه كِبَر السِّنِّ أو العُقْم أو خلافه.
إذن: فمريم هي التي أوحَتْ لزكريا بهذا الدعاء، واستجاب الله لزكريا ورزقه يحيى؛ ليكون ذلك مقدمة وتمهيداً لمريم، فلا تنزعج من حَمْلها، وتردّ هذه المسألة إلىأن الله يرزق مَنْ يشاء بغير حساب، وليكون ذلك إيناساً لنفسها واطمئناناً، وإلاَّ فمن الممكن أن تلعبَ بها الظنون وتنتابها الشكوك، وتتصور أن هذا الحمْل نتيجة شيء حدث لم تشعر به، أو كانت نائمة مثلاً.
لكن الحق تبارك وتعالى يقطع عنها كل هذه الشكوك، ويعطيها مقدمة تراها وتعايشها بنفسها في طعام لم يَأْتِ به أحد إليها، وفي حَمْل زوجة زكريا وهي عاقر لا تلِد.
قوله تعالى: {واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ} [مريم: 16] الكتاب هو القرآن الكريم، أي: اذكُر يا محمد في كتاب الله الذي
(15/9048)
أوحاه إليك مما تذكر قصة مريم، وقد سبق الحديث عن هذه القصة في سورة (آل عمران) لما تكلم الحق سبحانه وتعالى عن نَذْر أمها لما في بطنها لخدمة بيت المقدس، ولم يكن يصلح لخدمة بيت المقدس إلا الذكْران الذين يتحمَّلون مشقة هذا العمل، فلما وضعْتها أنثى لم يوافق ظنّها إرادة الله، ولم تستطع مريم خدمة البيت مكاناً أفرغتْ نفسها لخدمته قِيماً، وديناً حملتْ نفسها عليه حَمْلاً، حتى إنها هجرتْ أهلها وذهبت إلى هذا المكان الذي اتخذته خُلْوة لها لعبادة الله بعيداً عن أعيُنِ الناس.
ومريم هي ابنة عمران، وقد قال القرآن في خطابها: {ياأخت هَارُونَ} [مريم: 28] ولذلك حدث لَبْسٌ عند كثير من الناس، فظنوها أخت نبي الله موسى بن عمران وأخت هارون أخي موسى عليهما السلام.
والحقيقة أن هذه المسألة جاءتْ مصادفة اتفقتْ فيها الأسماء؛ لذلك لما ذهب بعض الصحابة إلى اليمن قال لهم أهلها: إنكم تقولون: إن مريم هي أخت موسى وهارون، مع أن بين مريم وعمران أبي موسى أحد عشر جيلاً!!
فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أما ذكرتُمْ لهم أن الناس كانوا يتفاءلون بذكِر الأسماء خاصة الأنبياء فيُسمّون على أسمائهم عمران ويسمون على أسمائهم هارون» .
حتى ذكروا أنهم في جنازة بعض العلماء سار فيها أربعة آلاف
(15/9049)
رجل اسمهم هارون. إذن: فالأسماء هنا مصادفة، فهي ابنة عمران، لكن ليس أبا موسى، وأخت هارون، لكن ليس هو أخو موسى.
وقد أفرد القرآن سورة كاملة باسم مريم وخصَّها وشخَّصها باسمها واسم أبيها، وسبق أنْ أوضحنا أن التشخيص في قصة مريم جاء لأنها فذَّة ومُفردة بين نساء العالم بشيء لا يحدث ولن يحدث إلا لها، فهذا أمر شخصي لن يتكرر في واحدة أخرى من بنات حواء.
أما إنْ كان الأمر عاماً يصح أنْ يتكرّر فتأتي القصة دون تشخيص، كما في حديث القرآن عن زوجة نوح وزوجة لوط كمثال للكفر، وهما زوجتان لنبيين كريمين، وعن زوجة فرعون كمثال للإيمان الذي قام في بيت الكفر وفي عُقْر داره، فالمراد هنا ليس الأشخاص، بل المراد بيان حرية العقيدة، وأن المرأة لها في الإسلام حريةٌ عقدية مستقلة ذاتية، وأنها غيرُ تابعة في عقيدتها لأحد، سواء أكانت زوجة نبي أم زوجة إمام من أئمة الكفر.
وقوله تعالى: {إِذِ انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً} [مريم: 16] .
{انتبذت مِنْ أَهْلِهَا} [مريم: 16] أي: ابتعدتْ عنهم، من نبذ الشيء عنه أي أبعده، فكأن أُنْسها لا بالأهل، ولكن أُنْسها كان برب الأهل، والقرآن يقول: {مِنْ أَهْلِهَا} [مريم: 16] ولم يقُلْ: من الناس، فقد تركتْ مريم أقرب الناس إليها وأحبّهم عندها وذهبت، إلى هذا المكان.
{مَكَاناً شَرْقِياً} [مريم: 16] لكن شرقيّ أيّ شيء؟ فكل مكان
(15/9050)
يصح أن يكون شرقياً، ويصح أن يكون غربياً، فهي إذن كلمة دائرة في كل مكان. لكن هناك عَلَم بارز في هذا المكان، هو بيت المقدس، فالمراد إذن: شرقي بيت المقدس، وقد جاء ابتعادها عن أهلها إلى هذا المكان المقدس لتتفرغ للعبادة ولخدمة هذا المكان.
لكن، لماذا اختارتْ الجهة الشرقية من بيت المقدس بالذات دون غيرها من الجهات؟ قالوا: لأنهم كانوا يتفاءلون بشروق الشمس، لأنها سِمَة النور المادىْ الذي يسير الناس على هُدَاه فلا يتعثرون، وللإنسان في سَيْره نوران: نور مادىّ من الشمس أو القمر أو النجوم والمصابيح، وهو النور الذي يظهر له الأشياء من حوله، فلا تصطدم بما هو أقوى منه فيحطمك ولا بأضعف منه فتحطمه.
وكذلك له نور من منهج الله يهديه في مسائل القيم، حتى لا يتخبّط تائهاً بين دُروبها، ومن ذلك قوله تعالى: {الله نُورُ السماوات والأرض} [النور: 35] ثم يقول بعدها: {نُّورٌ على نُورٍ} [النور: 35] .
أي: نور السماء الذي ينزل بالوحي لهداية الناس.
(15/9051)
فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17)
الحجاب: هو الساتر الذي يحجب الإنسان عن غيره ويحجب غيره عنه، فما فائدة أنْ تتخذ بينها وبين أهلها سِتْراً بعد أن ابتعدتْ عنهم؟ نقول: انتبذتْ من أهلها مكاناً بعيداً، هذا في المكان، إنما لا يمنع أنْ يكونَ هناك مكينٌ آخر يسترها حتى لا يطّلع عليها أحد، فهناك إذن مكان ومكين.
والحجاب قد يكون حجاباً مُفْرداً فهو ساتر فقط، وقد يكون حجاباً مستوراً بحجاب غيره، فهو حجاب مُركّب، كما يصنع أهل الترف الآن الستائر من طبقتين، إحداهما تستر الأخرى، فيكون الحجاب نفسه مَسْتوراً، ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَاباً مَّسْتُوراً} [الإسراء: 45] .
وقوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا} [مريم: 17] .
كلمة الروح في القرآن الكريم لها إطلاقات مُتعدّدة، أولها الروح التي بها قِوام حياتنا المادية، فإذا نفخَ الله الروح في المادة دبَّتْ فيها الحياة والحِسّ والحركة، ودارت كل أجهزة الجسم، وهذا المعنى في قوله تعالى:
{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29] .
لكن، هل هذه الحياة التي تسري في المادة بروح من الله هي الحياة المقصودة من خَلْق الله للخَلْق؟ قالوا: إنْ كانت هذه الحياة هي المقصودة فما أهونها؛ لأن الإنسان قد يمرُّ بها ويموت بعد ساعة، أو بعد يوم، أو بعد سنة، أو عدة سنوات.
إذن: هي حياة قصيرة حقيرة هيِّنة، هي أقرب إلى حياة الديدان والهوام، أما الإنسان الذي كرّمه الله وخلق الكون من أجله فلا بُدَّ أن
(15/9052)
تكون له حياة أخرى تناسب تكريمَ الله له، هذه الحياة الأخرى الدائمة الباقية يقول عنها القرآن: {وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64] .
{لَهِيَ الحيوان} أي: الحياة الحقيقية، أما حياتك الدنيا فهي مُهدّدة بالموت حتى لو بلغتَ من الكبر عتياً، فنهايتك إلى الموت، فإنْ أردتَ الحياة الحقيقية التي لا يُهدِّدها موت فهي في الآخرة.
فإذا كان الخالق تبارك وتعالى جعل لك روحاً في الدنيا تتحرك بها وتناسب مُدّة بقائك فيها، ألاَ يجعل لك في الآخرة رُوحاً تناسبها، تناسب بقاءها وسَرْمديتها، والقرآن حينما يتحدث عن هذه الروح يقول للناس: {ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] فكيف يدعوهم لما يُحييهم ويُخاطبهم وهم أحياء؟ نعم، هم أحياء الحياة الدنيا، لكنه يدعوهم إلى حياة أخرى دائمة باقية، أما مَنْ لم يستجب لهذا النداء ويسعى لهذه الحياة فلن يأخذ إلا هذه الحياة القصيرة الفانية التي لا بقاءَ لها.
وكما سمَّى الله السِّرَّ الذي ينفخه في المادة فتدبّ فيها الحركة والحياة «روحاً» ، كذلك سمَّى القيم التي تحيا بها النفوس حياة سعيدة «روحاً» ، كما قال تعالى:
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] أي: القرآن الكريم.
كما سَمَّى الملَك الذي ينزل بالروح رُوحاً: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193] وهو جبريل عليه السلام.
(15/9053)
إذن: فقوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا} [مريم: 17] أي: جبريل عليه السلام. {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} [مريم: 17] معنى تمثَّل: أي: ليستْ هذه حقيقته، إنه تمثَّل بها، أما حقيقته فنورانية ذات صفات أخرى، وذات أجنحة مَثْنى وثُلاَث ورُبَاع، فلماذا إذن جاء الملَكُ مريمَ في صورة بشرية؟
لأنهما سيلتقيان، ولا يمكن أنْ يتمّ هذا اللقاء خُفْية، وكذلك يستحيل أنْ يلتقيَ الملَكُ بملكتيه مع البشر ببشريته، فلكل منهما قانونه الخاص الذي لا يناسب الآخر، ولابُدَّ في لقائهما أنْ يتصوَّر الملَك في صورة بشر، أو يُرقَّى البشر إلى صفات الملائكة، كما رُقي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى صفات الملائكة في حادثة الإسراء والمعراج، ولا يتم الالتقاء بين الجنسين إلا بهذا التقارب.
لذلك، لما طلب الكفار أن يكون الرسول ملَكاً رَدَّ عليهم الحق تبارك وتعالى: {قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً} [الإسراء: 95] .
وقال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] إذن: لا يمكن أن يلتقي الملَكُ بالبشر إلا بهذا التقارب.
جاء جبريل عليه السلام إلى مريم في صورة بشرية لتأنس به، ولا تفزع إنْ رأتْه على صورته الملائكية {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً} [مريم: 17] أي: من جنسها {سَوِيّاً} [مريم: 17] .
أي: سويّ الخِلْقة والتكوين، وسيماً، قد انسجمتْ أعضاؤه وتناسقتْ على أجمل ما يكون البشر، فلا يعيبه كِبَر جبهته أو أنفه أو فمه، كما نرى في بعض الناس.
(15/9054)
وهذا كله لإيناس مريم وطمأنينتها، وأيضاً ليثبت أنها العذراء العفيفة؛ لأنها لما رأت هذا الفتى الوسيم القَسِيم ما أبدتْ له إعجاباً ولا تلطفتْ إليه في الحديث، ولا نطقتْ بكلمة واحدة يُفهَم منها مَيْل إليه، بل قالت كما حكى القرآن: {قَالَتْ إني أَعُوذُ بالرحمن}
(15/9055)
قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)
فلم تُظهِر له إعجاباً، ولا مالتْ إليه بكلمة واحدة، وهذا دليل على عِفّتها وطهارتها واستقامتها والتزامها.
وقولها: {أَعُوذُ} [مريم: 18] أي: ألجأ وأعتصم بالله منك؛ لأنني أخاف أنْ تفتك بي، أو تعتدي عليَّ وأنا ضعيفة لا حَوْلَ لي ولا قوة إلا بالله، فأستعيذ به منك. والمؤمن هو الذي يحترم الاستعاذة بالله ويُقدِّرها، فإنْ استعذتَ بالله أعاذك، وإن استجرتَ بالله أجارك.
«ولما خطب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ امرأة، كانت على شيء من الحسن أثار غَيْرة نسائه، فخشينَ أنْ تغلبهن على قلب رسول الله، فدبَّرْنَ لها أمراً يبعدها من أمامهن، فقُلْنَ لها وكانت غِرَّة ساذجة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحب إذا اقترب منه إنسان أن يقول له: أعوذ بالله منك، فما كان من المرأة إلا أنْ قالت هكذا لرسول الله عندما دخلت عليه، فقال لها:» لقد استعذت بمعيذ، الحقي بأهلك «.
فقول مريم: {إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً} [مريم: 18] لأن المؤمن التقيّ هو الذي يخاف الله، ويحترم الاستعاذة به، وكأنها
(15/9055)
قالتْ: إنْ كنت تقياً فابتعد عني، واختارت الاستعاذة بالرحمن لما عندها من الأمل إنْ لم يكُنْ تقياً مؤمناً أن يبتعد عنها رحمةً بها وبضعفها، ولجأتْ إلى الرحمن الرحيم الذي يحميها ويحرسها منه.
(15/9056)
قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19)
قال: {رَسُولُ رَبِّكِ} [مريم: 19] ولم يقلْ رسول الله؛ لأن الربّ هو المتولّي للتربية الذي يُحسِنها ويصونها من الفساد، فعطاء الربوبية عطاء ماديّ، أما عطاء الألوهية فهو عطاء معنوي قِيَمي هو العبادة، فأنا رسول ربك الذي يتولاَّك ويرعاك ويحرسك فلا تخافي.
وقوله: {لأَهَبَ لَكِ} [مريم: 19] يفهم منه أن ما سيحدث لمريم هبة من الله غير خاضعة للأسباب التكوينية، فالهبة في هذه الحالة هبة حقيقية مَحْضَة، فقد قلنا في قصة زكريا ويحيى أن الله تعالى وهب يحيى لزكريا حال كونه كبير السِّن وامرأته عاقر، لكن على أية حال فالجهازان موجودان: الذكورة والأنوثة، لكن في حالة مريم فهي أنثى بلا ذكر، فهنا الهِبَة المحضة، والمعجزة الحقيقية.
وقوله: {غُلاَماً زَكِيّاً} [مريم: 19] أي مُنقَّى مُطهّر صافي الخِلْقة.
ثم يقول الحق سبحانه عن مريم: {قَالَتْ أنى يَكُونُ لِي}
(15/9056)
قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)
(أَنَّى) استفهام عن الكيفيات التي يمكن أن تتم بها هذه المسألة، وتعجُّب كيف يحدث ذلك.
وقوله: {يَمْسَسْنِي} [مريم: 20] المسّ هنا كناية وتعبير مُهذَّب عن النكاح، وقد نفتْ السيدة مريم كل صور اللقاء بين الذكر والأنثى حين قالت: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} [مريم: 20] فالتقاء الذكر بالأنثى له وسائل: الوسيلة الأولى: هي الزواج الشرعي الذي شرعه الله لعباده للتكاثر وحِفْظ النسل، وهو إيجاب وقبول، وعقد وشهادة، وهذا هو المسّ الحلال.
الوسيلة الثانية: أنْ يتم هذه اللقاء بصورة محرمة بموافقة الأنثى أو غَصْباً عنها. وقد نفتْ مريم عن نفسها كل هذه الوسائل فقالت: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [مريم: 20] لا في الحلال، ولا في الحرام، وأنا بذاتي {لَمْ أَكُ بَغِيّاً} [مريم: 20] إذن: فمن أين لي بالغلام؟
وكلمة: مسَّ جاءتْ في القرآن للدلالة على الجماع، كما في قوله تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 236] فالمراد بالمسّ هنا الجماع، لذلك فقد فسر الإمام أبو حنيفة قوله تعالى: {لاَمَسْتُمُ النسآء} [النساء: 43] بأنه الجماع؛ لأن القرآن أطلق المسَّ، وأراد به النكاح، والمسُّ فعل من طرف واحد، أما الملامسة فهي مُفَاعلة بين اثنين، فهي من باب أَوْلَى تعني: جامعتم.
وقولها: {وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} [مريم: 20] البغِيُّ: هي المرأة التي تبغي الرجال. والبِغَاء: هو الزنا، والبَغِيّ: التي تعرض نفسها على الرجال وتدعوهم، وربما تُكرههم على هذه الجريمة.
(15/9057)
وقولها: {بَغِيّاً} [مريم: 20] مبالغة في البَغْي وهو الظلم، واختارتْ صيغة المبالغة بَغِيّ ولم تقُلْ باغية؛ لأن باغية تتعلق بحقوق ما حول العِرْض، أما الاعتداء على العِرْض ذاته فيناسبه المبالغة في هذا الفعل.
ثم يقول الحق سبحانه: {قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ}
(15/9058)
قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)
كما قال الحق سبحانه لزكريا حينما تعجب أن يكون له ولد: {قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ} [مريم: 9] أي: أنا أعرف ما أنت فيه من كِبَر السن، وأن امرأتك عاقر لا تلِد، لكن الأمر جاء من الله وصدر حكمه، وهو وحده الذي يملك التنفيذ، فَلِمَ التعجب إذن؟
وهنا نجد بعض المتورِّكين على القرآن يعترضون على قوله تعالى: (كَذَلِكَ) بالفتح في قصة زكريا وبالكسر في قصة مريم (كذلكِ) ، والسياق والمعنى واحد، وأيُّهما أبلغ من الأخرى، وإنْ كانت أحدهما بليغة فالأخرى غير بليغة؟
وهذا الاعتراض منهم ناتج عن قصور فَهْمهم لكلام الله، فكلمة (كذلك) عبارة عن ذا اسم إشارة، وكاف الخطاب التي تُفتح في خطاب المذكر، وتُكسر في خطاب المؤنث.
وهنا أيضاً قال: (ربك) أي: الذي يتولى تربيتك ورعايتك، والذي يُربيه ربُّه يربيه تربية كاملة تعينه على أداء مهمته المرادة للمربِّي.
(15/9058)
وقوله: {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} [مريم: 21] كما قال في مسألة البعث بعد الموت: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] فكلمة هيّن وأَهْوَن بالنسبة للحق تبارك وتعالى لا تُؤخَذ على حقيقتها؛ لأن هَيِّن وأهوَنَ تقتضي صعب وأصعب، وهذه مسائل تناسب فِعْلَ الإنسان في معالجته للأشياء على قَدْر طاقته وإمكاناته، أما بالنسبة للخالق سبحانه فليس عنده هَيِّن وأهون منه؛ لأنه سبحانه لا يفعل الأفعال مُعَالجةً، ولا يزاولها، وإنما بقوله تعالى (كُنْ) .
فالحق سبحانه يخاطبنا على قَدْر عقولنا، فقوله: {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} [مريم: 21] أي: بمنطقكم أنتم إنْ كنت قد خَلقْتكم من غير شيء، فإعادتكم من شيء موجود أمر هَيِّن.
ثم يقول تعالى: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا} [مريم: 21] .
هل كان الغرض من خَلْق عيسى عليه السلام على هذه الصورة أن يُظهِر الحق سبحانه قدرته في الخلق وطلاقة قدرته فقط؟ لا، بل هناك هدف آخر {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ} [مريم: 21] أي: أمراً عجيباً، يخرج عن مألوف العادة والأسباب، كما نقول: هذا آية في الحُسْن، آية في الذكاء، فالآية لا تُقال إلا للشيء الذي يخرج عن معتاد التناول.
والآية هنا أن الخالق تبارك وتعالى كما خلق آدم عليه السلام من غير أب أو أم، وخلق حواء من غير أم، خلق عيسى عليه السلام من أم دون أب، ثم يخلقكم جميعاً من أب وأم، وقد يوجد الأب والأم ولا يريد الله لهما فيجعل مَنْ يشاء عقيماً.
(15/9059)
إذن: فهذا الأمر لا يحكمه إلا إرادة المكوِّن سبحانه. فالآية للناس في إنْ يعلموا طلاقة قدرته تعالى في الخَلْق، وأنها غير خاضعة للأسباب، وليستْ عملية ميكانيكية، بل إرادة للخالق سبحانه أن يريد أو لا يريد.
لكن، أكانتْ الآية في خَلْق عيسى عليه السلام أَمْ في أمه؟ كان من الممكن أنْ يوجد عيسى من أب وأم، فالآية إذن في أمه، إنما هو السبب الأصيل في هذه الآية؛ لذلك يقول تعالى في آية أخرى:
{وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50] فعيسى ومريم آية واحدة، وليسا آيتين؛ لأنهما لا ينفصلان.
ثم يقول تعالى: {وَرَحْمَةً مِّنَّا} [مريم: 21] ووجْه الرحمة في خَلْق عيسى عليه السلام على هذه الصورة، أنه سبحانه يرحم الناس من أنْ يشكُّوا في أن قدرة الله منوطة بالأسباب ومتوقفة عليها، ولو كان هذا الشكُّ مجرد خاطر، فإنه لا يجوز ولا يصحّ بالنسبة للخالق سبحانه، وكأنه تبارك وتعالى يرحمنا من مجرد الخواطر بواقع يؤكد أن طلاقة القدرة تأتي في الخَلْق من شيء، ومن بعض شيء، ومن لا شيء.
وقوله تعالى: {وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً} [مريم: 21] أي: مسألة منتهية لا تقبل المناقشة، فإياك أن تناقش في كيفيتها؛ لأن الكلام عن شيء في المستقبل إنْ كان من متكلم لا يملك إنفاذ ما يقول فيمكن ألاَّ يتم مراده لأيِّ سبب من الأسباب كأن تقول: سأفعل غداً كذا وكذا، ويأتي غد ويحول بينك وبين ما تريد أشياء كثيرة ربما تكون خارجة عن إرادتك، إذن: فأنت لا تملك كُلَّ عناصر الفعل.
(15/9060)
أما إذا كان الكلام من الله تعالى الذي يملك كل عناصر الفعل فإن قوله حَقٌّ وواقع، فقال تعالى: {وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً} [مريم: 21] .
ولما تكلمنا عن تقسيمات الأفعال بين الماضي الذي حدث قبل الكلام، والمضارع الذي يحدث في الحال، أو في الاستقبال قلنا: إن هذه الأفعال بالنسبة للحق سبحانه تنحل عنها الماضوية والحالية والاستقبالية.
فإذا قال تعالى: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [الفتح: 14] فهل كان الحق سبحانه غفوراً رحيماً في الماضي، وليس كذلك في الحاضر والمستقبل؟ لا، لأن الحق سبحانه كان ولا يزال غفوراً رحيماً، فرحمتُه ومغفرتُه أزلية حتى قبل أنْ يوجدَ مَنْ يغفر له ومَنْ يرحمه.
لذلك جاء الفعل بصيغة الماضي، فالصفة موجودة فيه سبحانه أزلاً، فهو سبحانه خالق قبل أن يخلق الخَلْق وبصفة الخَلْق خَلَقَ، كما ضربنا مثلاً لذلك: نقول فلان شاعر، فهل هو شاعر لأنه قال قصيدة؟ أم قال القصيدة لأنه شاعر، وبالشعر صنع القصيدة؟ إذن: فهو شاعر قبل أن يقول القصيدة، ولولا وجود الصفة فيه ما قال.
فالصفة إذن أزلية في الحق سبحانه، فإذا قلت: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [الفتح: 14] فقد ثبتتْ له هذه الصفة أزلاً، ولأنه سبحانه لا يتغير، ولا يعارضه أحد فقد بقيتْ له، هذا معنى: كان ولا يزال.
وهذه المسألة واضحة في استهلال سورة النحل: {أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1] لذلك وقف بعض المستشرقين أمام هذه
(15/9061)
الآية، كيف يقول سبحانه (أَتَى) بصيغة الماضي، ثم يقول: {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1] أي: في المستقبل؟ نقول: لأن قوله تعالى: (أتَى) فهذه قضية منتهية لا شكّ فيها ولا جدالَ، فليس هناك قوة أخرى تعارضها أو تمنع حدوثها؛ لذلك جاءت بصيغة الماضي وهي في الواقع أمر مستقبل.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَحَمَلَتْهُ فانتبذت بِهِ}
(15/9062)
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22)
(فَحَملتْهُ) أي: حملتْ به على الحذف والإيصال، والحمل يقتضي حاملاً ومحمولاً. {فانتبذت بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً} [مريم: 22] لا تظن أن هذه اللقطة من القصة لقطةٌ مُعَادة، فالانتباذ الأول كان للخلوة للعبادة، وهنا {فانتبذت بِهِ} [مريم: 22] أي: ابتعدتْ عن القوم لما أحسَّتْ بالحمل، وخشيت أعيُنَ الناس وفضولهم فخرجتْ إلى مكان بعيد.
(15/9062)
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)
{فَأَجَآءَهَا} [مريم: 23] الفعل جاء فلان. أي: باختياره ورِضَاه، إنما إجاءه فلان أي جاء به رغماً عنه ودون إرادته، فكأن المخاض هو الذي ألجأها إلى جِذْع النخلة وحملها على الذهاب إلى هذا المكان رَغْماً عنها {فَأَجَآءَهَا} [مريم: 23] أي: جاء بها، فكأن هناك قوة خارجة عنها تشدُّها إلى هذا المكان.
(15/9062)
والمخاض: هو الألم الذي ينتاب المرأة قبل الولادة، وليس هو الطَّلْق الذي يسبق نزول الجنين.
وقوله: {فَأَجَآءَهَا المخاض إلى جِذْعِ النخلة} [مريم: 23] أوضح لنا عِلَّة مجيئها إلى جِذْع النخلة؛ لأن المرأة حينما يأتي وقت ولادتها تحتاج إلى ما تستند إليه، وتتشبث به ليخفف عنها ألم الوضع، أو رفيقة لها تفزع إليها وتقاسمها هذه المعاناة، فألجأها المخاض إذن إلى جذع (النخلة) ، وجاءت النخلة مُعرَّفة لأنها نخلة معلومة معروفة.
وجذع النخلة: ساقها الذي يبدأ من الجذر إلى بداية الجريد، فهل ستتشبث مريم عند وضعها بكل هذه الساق؟ بالطبع ستأخذ الجزء القريب منها فقط، وأُطلق الجذع على سبيل المبالغة، كما في قوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق حَذَرَ الموت} [البقرة: 19] .
ومعلوم أن الإنسان يسدّ أذنه بأطراف الأصابع لا بأصابعه كلها، فعبَّر عن المعنى بالأصابع مبالغةً في كَتْم الصوت المزعج والصواعق التي تنزل بهم.
إذن: فالسيدة مريم أصبحت أمام أمر واقع وحمل ظاهر لا تستطيع إخفاءه، ولا تقدر على ستره، فقد قبلتْ قبل ذلك أنْ يُبشِّرها الملَك بغلام زكيٍّ، وقبلتْ أنْ تحمل به، فكيف بها الآن وقد تحوّل الأمر من الكلام إلى الواقع الفعلي، وها هو الوليد في أحشائها، وقد حان موعد ولادته؟
لابُدَّ أن ينتابها نزوع انفعالي فالأمر قد خرج عن نطاق السَّتْر
(15/9063)
والتكتّم، فإذا بها تقول: {ياليتني مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً} [مريم: 23] أي: تمنتْ لو ماتت قبل أن تقف هذا الموقف العصيب، مع أن الملك حين أخبرها من قبل بأن الله تعالى سيهَبُ لها غلاماً زكياً تعجبتْ قائلة: {أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} [مريم: 20] .
مجرد تعجُّب وانفعال هادىء، أما وقد أصبح الأمر ولادة حقيقية فلا بُدَّ من فعل نزوعي شديد يُعبِّر عما هي فيه من حَيْرة، لذلك تمنتْ الموتْ، مع أن الله تعالى نهانا عن تمني الموت، كما ورد في الحديث الشريف الذي يرشدنا إذا ضاقتْ بنا الحياة ألاَّ نتمنى الموت، بل نقول: «اللهم أحْيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفَّني ما كانت الوفاة خيراً لي» .
وقلنا: إن تمني الموت المنهيّ عنه ما كان فيه اعتراض على قَدَر الله، وتمرد على إرادته سبحانه، كأنْ تكره الحياة والعيش إذا ضاق بك فتتمنى الموت، أما أن تتمنى الموت لعلمك أنك ستصبر إلى خير مما تركت فهذا أمر آخر.
وقد ورد في القرآن مسألة تمني الموت هذه في الكلام عن بني إسرائيل الذين قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، وقالوا: لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة، وأن الدار الآخرة لنا خالصة عند الله، فبماذا رَدّ عليهم القرآن الكريم؟
(15/9064)
والله طالما أن الأمر كما تقولون، والآخرة لكم {فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 94] ثم قرَّر الحق سبحانه ما سيكون منهم فقال: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 95] .
وقال عنهم: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ} [البقرة: 96] .
وما داما لن يتمنوا الموت، وما داموا أحرصَ الناس على الحياة، فلا بُدَّ أن حياتهم هذه التي يعيشونها أفضل لديهم من الحياة الأخرى.
فالمؤمن إذن لا يجوز أن يتمنى الموت هَرباً من بلاء أصابه أو اعتراض على قَدَرِ الله، ويجوز له ذلك إنْ علم أنه صائر إلى أفضل ممّا هو فيه.
وقولها: {نَسْياً مَّنسِيّاً} [مريم: 23] النسيّ: هو الشيء التافه الذي لا يُؤْبَه به، وهذا عادةً ما يُنْسَي لعدم أهميته، كالرجل الذي نسى عند صاحبه علبة كبريت بها عودان اثنان، وفي الطريق تذكرها فعاد إلى صاحبه يطلب ما نسيه، وهكذا تمنتْ مريم أن تكون نسياً منسياً حتى لا يذكرها أحد.
ولم تكتفِ بهذا، بل قالت: {نَسْياً مَّنسِيّاً} [مريم: 23] لأن النسيّ: الشيء التافه الذي يُنسَي في ذاته، لكن رغم تفاهته فربما يجد مَنْ يتذكره ويعرفه، فأكدت النسيّ بقولها (منسياً) أي: لا يذكره أحد، ولا يفكر فيه أحد.
ثم يقول الحق سبحانه:
(15/9065)
{فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ}
(15/9066)
فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)
{مِن تَحْتِهَآ} [مريم: 24] فيها قراءتان (مِنْ، مَنْ) صحيح أن جبريل عليه السلام ما زال موجوداً معها لكنه ليس تحتها، فدلّ ذلك على أن الذي ناداها هو الوليد {أَلاَّ تَحْزَنِي} [مريم: 24] ، وحزن مريم منشؤه الانقطاع عن الناس، وأنها في حالة ولادة، وليس معها مَنْ يسندها ويساعدها، وليس معها مَنْ يَحضِر لها لوازم هذه المسألة من طعام وشراب ونحوه.
لذلك تعهّدها ربها تبارك وتعالى فوفّر لها ما يُقيتها من الطعام والشراب، فقال: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} [مريم: 24] والسريّ: هو النهر الذي يجري بالماء العَذْب الزُّلال، وثم يعطيها الطعام المناسب لحالتها، فيقول تعالى: {وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ}
(15/9066)
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)
وهكذا وفّر الحق سبحانه وتعالى لمريم مقوّمات الحياة وعناصر استبقائها، وهي مُرتَّبة على حَسْب أهميتها للإنسان: الهواء والشراب والطعام، والإنسان يصبر على الطعام شهراً دون أنْ يأكلَ، ويمكنه أنْ يقتاتَ على ما هو مخزون في جسمه من غذاء، لكنه لا يصبر على الماء أكثر من ثلاثة أيام إلى عشرة أيام حسب ما في جسمه من
(15/9066)
مائية، في حين لا يصبر على الهواء لحظة واحدة، ويمكن أنْ يموتَ من كَتْم نفَسٍ واحد.
لذلك، من حكمة الخالق سبحانه وتعالى أن يُملِّك الطعام كثيراً، ويُملك الماء قليلاً، ولا يُملِّك الهواء لأحد أبداً، لأنك لو غضبتَ على أحد فمنعتَ عنه الهواء لمات قبل أنْ ترضى عنه، إذن: فعناصر استبقاء الحياة مرتبة حَسْب أهميتها في حياة الإنسان، وقد ضمنها الحق سبحانه لمريم وجعلها في متناول يدها وأغناها عن أنْ يخدمها أحد.
فالهواء موجود وهي في الخلاء، ثم الماء فأجري تحتها نهراً عذباً زلالاً، ثم الطعام فقال: {وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} [مريم: 25] وكأن الحق تبارك وتعالى يريد أنْ يُظهِر لمريم آية أخرى من آياته، فأمرها أنْ تهزَّ جذع النخلة اليابس الذي لا يستطيع هَزَّه الرجل القويّ، فما بالها وهي الضعيفة التي تعاني ألم الولادة ومشاقها؟
كما أن الحق سبحانه قادر على أنْ يُنزِل لها طعامها دون جَهْد منها ودون هَزِّها، إنما أراد سبحانه أن يجمع لها بين شيئين: طلب الأسباب والاعتماد على المسبب، والأخذ بالأسباب في هَزِّ النخلة، رغم أنها متعبة قد أرهقها الحمل والولادة، وجاء بها إلى النخلة لتستند إليها وتتشبث بها في وحدتها لنعلم أن الإنسان في سعيه مُطَالب بالأخذ بالأسباب مهما كان ضعيفاً.
لذلك أبقى لمريم اتخاذ الأسباب مع ضَعْفها وعدم قدرتها، ثم
(15/9067)
تعتمد على المسبِّب سبحانه الذي أنزل لها الرُّطَب مُسْتوياً ناضجاً، وهل استطاعت مريم أنْ تهزَّ الجذع الكبير اليابس؟
إنها مجرد إشارة إليه تدلُّ على امتثال الأمر، والله تعالى يتولى إنزال الطعام لها، وقد صَوَّر الشاعر هذا الموقف بقوله:
أَلَمْ تَرَ أنَّ الله قَالَ لمرْيَم ... وَهُزِّي إليك الجذْعَ يَسَّاقَط الرُّطبْ
وَإنْ شَاءَ أعطَاهَا ومِنْ غير هَزَّة ... ولكن كُلّ شَيءٍ لَهُ سَبَبْ
وقوله: {تُسَاقِطْ} مريم: 25] أي: تتساقط عليك {رُطَباً جَنِيّاً} [مريم: 25] أي: استوى واستحق أن يُجنى، وليس مُبْتسراً قبل موعده، ومن الرُّطَب ما يتساقط قبل نُضْجه فلا يكون صالحاً للأكل.
وقوله: {تُسَاقِطْ عَلَيْكِ} [مريم: 25] فيه دليل على استجابة الجماد وانفعاله، وإلا فالبلحة لم تخرج عن طَوْع أمها، إذن: فقد ألقتْها طواعيةً واستجابة حين تَمَّ نضجها.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَكُلِي واشربي وَقَرِّي}
(15/9068)
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)