فقوله تعالى: {ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ. .} [الإسراء: 44]
يدل على أنه تسبيح فوق تسبيح الدلالة الذين آمن بمقتضاه المؤمنون، إنه تسبيح حقيقيّ ذاتيّ ينشأ بلغة كل جنس من الأجناس، وإذا كنا لا نفقه هذا التسبيح، فقد قال تعالى: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ. .} [النور: 41]
(14/8560)
إذن: كل شيء في الوجود عَلِم كيف يُصلّي لله، وكيف يُسبِّح لله، وفي القرآن آياتٌ تدل بمقالها ورمزيتها على أن كل عَالَم في الوجود له لغة يتفاهم بها في ذاته، وقد يتسامى الجنس الأعلى ليفهم عن الجنس الأدنى لُغته، فكيف نستبعد وجود هذه اللغة لمجرد أننا لا نفهمها؟
وها هم الناس أنفسهم ولهم في الأداء القوليّ لغة يتفاهمون بها، ومع ذلك تختلف بينهم اللغات، ولا يفهم بعضهم بعضاً، فإذا ما تكلم الإنجليزي مع أنه يتكلم بألفاظ العربي ومع ذلك لا يفهمه؛ لأنه ما تعلَّم هذه اللغة.
واللغة ظاهرة اجتماعية، بمعنى أن الإنسان يحتاج للغة؛ لأنه في مجتمع يريد أن يتفاهم معه ليعطيه ما عنده من أفكار، ويسمع ما عنده من أفكار فلا بُدَّ من اللغة لنقل هذه الأفكار، ولو أن الإنسان وحده ما كان في حاجة إلى لغة؛ لأنه سيفعل ما يخطر بباله وتنتهي المسألة.
واللغة لا ترتبط بالدم أو الجنس أو البيئة؛ لأنك لو أتيتَ بطفل إنجليزي مثلاً، ووضعتَه في بيئة عربية سيتكلم العربية؛ لأن اللغة ظاهرة اجتماعية تعتمد على السمع والمحاكاة؛ لذلك إذا لم تسمع الأذن لا تستطيع أن تتكلم، ومن ذلك قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ. .} [البقرة: 18]
فهم بُكْم لا يتكلمون؛ لأنهم صُمٌّ لم يسمعوا شيئاً، فإذا لم يسمع الإنسان اللفظ لا يستطيع أن يتحدثَ به؛ لأن ما تسمعه الأذن يحكيه اللسان.
(14/8561)
إذن: بالسماع انتقلتْ اللغة، وكُلٌّ سمع من أبيه، ومن البيئة التي يعيش فيها، فإذا ما سلسلْتَ هذه المسألة ستصل إلى آدم عليه السلام وهنا يأتي السؤال: وممَّنْ سمع آدم اللغة التي تكلم بها؟
وقد حلَّ لنا القرآن الكريم هذه القضية في قوله تعالى: {وَعَلَّمَءَادَمَ الأسمآء كُلَّهَا} [البقرة: 31]
وأكثر من ذلك، فقد يتكلم العربي بنفس لغتك ولا تفهم عنه ما يقول، واللغة هي اللغة، كما حدث مع أبي علقمة النحوي، وكان يتقعَّر في كلامه ويأتي بألفاظ شاذة غير مشتهرة، وقد أتعب بذلك مَنْ حوله، وخاصة غلامه الذي ضاق به ذَرْعاً لكثرة ما سمع منه من هذا التقعر.
ويُروَي أنه في ذات ليلة قال أبو علقمة لغلامه: (أَصَقَعَتِ العَتَارِيفُ) ؟ فردَّ عليه الغلام قائلاً: (زقْفَيْلَم) .
وكانت المرة الأولى التي يستفهم فيها أبو علقمة عن كلمة، فقال: يا بني وما (زقْفَيْلَم) ؟ قال: وما (صقعت العتاريف) ؟ قال: أردتُ: أصاحت الديكة؟ فقال الغلام: وأنا أردتُ لم تَصِحْ.
إذن: فكيف نستبعد أننا لا نعلم لغة المخلوقات الأخرى من حيوان ونبات وجماد؟ ألم يكْفِنا ما أخبرنا الله به من وجود لغة لجميع المخلوقات، وإنْ كنا لا نفهمها؛ لأننا نعتقد أن اللغة هي النطق باللسان فقط، ولكن اللغة أوسع من ذلك.
فهناك مثلاً لغة الإشارة، ولغة النظرات، ولغة التلغراف.
(14/8562)
إذن: اللغة ليست اللسان فقط، بل هي استعداد لاصطلاح يُفْهم ويُتعارف عليه، فالخادم مثلاً يكفي أن ينظرَ إليه سيّده نظرة يفهم منها ما يريد، فهذه النظرة لَوْنٌ من ألوان الأداء.
والآن بدأنا نسمع عن قواميس يُسجّل بها لغات بعض الحيوانات لمعرفة ما تقول.
وقد أعطانا الحق تبارك وتعالى إشارات تدل على أن لكل عَالَم لغة يتفاهم بها، كما في قوله تعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ. .} [الأنبياء: 79]
فالجبال تُسبّح مع داود، وتُسبِح مع غيره، ولكن المراد هنا أنها تُسبّح معه ويوافق تسبيحها تسبيحه، وكأنهما في أنشودة جماعية منسجمة. إذن: فلا بُدَّ أن داود عليه السلام قد فَهِم عنها وفهمتْ عنه.
وكذلك النملة التي تكلمتْ أمام سليمان عليه السلام ففهم كلامها، وتبسَّم ضاحكاً من قولها. وقد علَّمه الله منطقَ الطير. إذن: لكل جنس من الأجناس منطق يُسبّح الله به، ولكن لا نفقه هذا التسبيح؛ لأنه تسبيح بلغة مُؤدِّية مُعبّرة يتفاهم بها مَنْ عرف التواضع عليها.
وقد جعل الحق سبحانه وتعالى تنزيهه مطلقاً ينقاد له الجميع، حتى الكافر ينقاد لتنزيه الله قَهْراً عنه، مع أن لديه ملكةَ الاختيار بين الكفر أو الإيمان، لكن أراد الحق سبحانه أن يكون تنزيهه مُطْلقاً من الجماد والنبات والحيوان، ومن المؤمن والكافر. كيف ذلك؟
أطلق الحق سبحانه على ذاته لفظ الجلالة (الله) فهو عَلَم على
(14/8563)
واجب الوجود، ثم تحدّى الكافرين أنْ يُسمُّوا أحداً بهذا الاسم، فقال: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: 65]
ومع ما عندهم من إِلْفٍ بالمخالفة وعناد بالإلحاد، مع ذلك لم يجرؤ أحد منهم أنْ يُسمِّي ابناً له بهذا الاسم، ومعلوم أن التسمية أمر اختياريّ يطرأ على الجميع.
إذن: فهذا تنزيه لله تعالى، حتى من الكافر رَغْماً عنه، وهو دليل على عظمته سبحانه وجلاله، هذه العظمة وهذا الجلال الذي لم يجرؤ حتى الكافر على التشبُّه به؛ ذلك لأنهم في كفرهم غير مقتنعين بالكفر، ويخافون بطش الله وانتقامه إنْ أقدموا على هذا العمل، لذلك لا يجرؤ أحد منهم أنْ يُجرِّب في نفسه مثل هذه التسمية.
وفي مجال العبادات، فقد اختار الحق سبحانه لنفسه عبادة لا يشاركه فيها أحد، ولا يقدمها أحد لغيره تعالى؛ لأن الناس كثيرا ما يتقربون لأمثالهم من البشر بأعمال أشبه ما تكون بعبادة الله تعالى، فمنهم مَنْ ينحني خضوعاً لغيره؛ كأنه راكع أو ساجد، ومنهم مَنْ يمدح جباراً بأنه لا مثيلَ له، وتصل به المبالغة إلى جَعْله إلهاً في الأرض، ومنهم مَنْ يسجدُ للشمس كما فعل أهل سبأ وأخبر الهدهد عنهم بقوله:
{وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله} [النمل: 24]
ألسْنَا نرى إنساناً يتقرّب لأحد الحكام، بأن ينفق فيما يحبه هذا الحاكم، وكأنه يُخرِج زكاة ماله؟ ألسْنا نرى أحدهم يذهب كل يوم
(14/8564)
إلى قصر سيده، ويُوقّع في سجل التشريفات باسمه ليقدم بذلك فروض الولاء والطاعة؟
إذن: فالإيمان بالوحدانية في شيء متميز وارد عند الناس، والخضوع الزائد بالسجود أو بالركوع أو بالكلام وارد عند الناس.
لذلك تفرّد الحق سبحانه بفريضة الصوم، وجعلها خالصة له سبحانه، لا يتقرب بها أحد لأحد، وهل رأيت إنساناً يتقرّب لآخر بصوم؟ فانظر إلى هذه السُّبْحانية وهذا التنزيه في ذاته سبحانه، فلا يجرؤ أحد أنْ يتسمى باسمه.
وفي العبادة لا يُصَام لأحد غيره تعالى، فلو تصوَّرنا أن يقول واحد للآخر: أنا سأتقرّب إليك بصوم هذا اليوم أو هذا الشهر، إذن: أنت تريد منه أن يجلس بجوارك يحرسك ويراعي صومك، فكأنك تريد له العنت والمشقة من حيث تريد أنت أنْ تتقرّب إليه.
لذلك يقول الحق سبحانه في الحديث القدسي: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به» .
يعني من الممكن أن يتقرب بأيِّ ركن من أركان الإسلام لغيري، إلا الصوم، فلا يجرؤ أحد أنْ يتطوّع به أو يتقرب به لأحد.
إذن: فالسُّبحانية هي الدليل السائد الشامل الجامع لكل الخَلْق؛ لذلك نقول للكافر: أيها الكافر لقد تأبَّيْتَ على الإيمان بالله،
(14/8565)
وللعاصي: لقد تأبيتَ على أوامر الله، وما دُمْتُم قد تأبيتم على الله، وألفتم هذا التأبِّي وهذا التمرد، فلماذا لا تتأبون على المرض إنْ أصابكم، وعلى الموت إنْ طرق بابكم؟
لماذا لا تتمرد على ملك الموت وتقول له: لن أموت اليوم؟! إنها قاهرية الحق سبحانه وتعالى حتى على الكافر، فلا يستطيع أحد أن يخرج عليها أو يتمرد.
وكذلك العاصي حينما ينحرف عن الجادّة، وتمتد يده إلى مال غيره بالسرقة أو الاختلاس أو التعدِّي على المال العام، فإن الحق سبحانه يفتح عليه أبواباً للإنفاق تبتلع ما جمع من الحرام، وربما أخذت في طريقها الحلال أيضاً، وصدق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين قال: «من جمع مالاً من مهاوش أذهبه الله في نهابر» .
فالتسبيح إذن لغة الكون كله، منه ما نفهمه، ومنه ما لا نفهمه، إلا مَنْ أطلعه الله عليه، فإذا مَنَّ الله على أحد وعلّمه لغة الطير أو الحيوان أو النبات أو الجماد، فهمها وفقه عنها، كما أنعم بهذه النعم على داود وسليمان عليهما السلام.
ويقول سليمان عليه السلام شاكراً هذه النعمة: {رَبِّ أوزعني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ} [النمل: 19]
فقول الحق سبحانه: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ. .} [الإسراء: 44]
(14/8566)
يجب على العلماء أنْ ينقلوها من خاطر الدلالة إلى خاطر المقالة أيضاً، ولكنها مقالة، ولكنها مقالة بلغة يفهمها أصحابها إذا شاء الله لهم ذلك.
ثم يُذيّل الحق سبحانه هذه الآية بقوله: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً. .} [الإسراء: 44]
لأن الإنسانَ كثيراً ما يغفل الاستدلال بظواهر الكون وآياته دلالة الحال، فيقف على قدرة الله وبديع صُنْعه، وكذلك كثيراً ما يغفل عن تسبيح الله تسبيح المقالة؛ لذلك أخبر سبحانه أنه حليمٌ لا يعاجل الغافلين بالعقوبة، وغفور لمن تاب وأناب.
وهذا من رحمته سبحانه بعباده، فلولا أنْ يتداركَ الله العباد بهذه الرحمة لكان الإنسان سيد الكون أقلّ حظاً من الحيوان، ويكفي أن تتدبر قوله تعالى عن تسبيح المخلوقات له سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب. .} [الحج: 18]
فها هي جميع الأجناس من جماد ونبات وحيوان تسجد لله لا يتخلف منها شيء، فهي تسجد وتُسبّح بالإجماع، ولم ينقسم الأمر إلا في الإنسان السيّد المكرّم، ولكن لماذا الإنسان بالذات هو الذي يشذُّ عن منظومة التسبيح في الكون؟
نقول: لأنه المخلوق الوحيد الذي مَيَّزَهُ الله بالاختيار، وجعل له الحرية في أنْ يفعل أو لا يفعل، أما باقي المخلوقات فهي مُسخّرة مقهورة، فإن قال قائل: لماذا لم يجعل الحق سبحانه وتعالى
(14/8567)
الإنسان أيضاً مقهوراً كباقي المخلوقات؟
لقد جعل الله تعالى في الإنسان الاختيار لحكمة عالية، فالقهر يُثبتُ للحق سبحانه صفة القدرة على مخلوقه، فإذا قهره على شيء لا يشذ ولا يتخَلف، ولكنه لا يثبت صفة المحبوبية لله تعالى.
أما الاختيار فيثبت المحبوبية لله؛ لأنه خلقك مختاراً تؤمن أو تكفر، ومع ذلك اخترْتَ الإيمان حُباً في الله تعالى، وطاعة وخضوعاً، فأثبتَّ بذلك صفة المحبوبية.
وإياك أن تظن أن مَنْ يَعْصي الله يعصيه قهراً عن الله، بل بما ركَّب فيه من الاختيار، وقد يقول قائل: وما ذنب الإنسان أن يكون مختاراً من بين جميع المخلوقات؟
لو حققتَ هذه القضية منطقياً وفلسفياً لوجدتَ الكون كله كان مختاراً، وليس الإنسان فقط، لكن اختارت جميع المخلوقات أنْ تُسلِّم الأمر لله، وفضَّلتْ أن تكون مقهورة مسخرة من البداية، أما الإنسان ففضَّل الاختيار، وقال: سأعمل بحرص، وسأحمل الأمانة بإخلاص، وهذا واضح في قول الحق تبارك وتعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً}
[الأحزاب: 72]
وفي رَفْض هذه المخلوقات لتحمُّل الأمانة والاختيار دليل على العلم الواسع؛ لأنه يوجد فَرْق كبير بين قبول الأمانة وقت التحمُّل ووقت الأداء. فقد تتحمل الأمانة وأنت واثق من أدائها، لكن يطرأ عليك وقت الأداء مَا يحول بينك وبين أداء الأمانة.
(14/8568)
والأمانة كما هو معروف لا تُوثَّق ولا تُكتب، وكثيراً ما يقع فيها التلاعب؛ لأنها لا تثبتُ إلا بذمّّة الآخذ الذي قد يضعف عن الأداء وتُلجِئه الأحداث إلى هذا التلاعب أو الإنكار، والأحداث قد تكون أقوى من الرجال.
فالإنسان إذن لا يضمن نفسه وقت الأداء، وإنْ كان يضمنها وقت التحمُّل، ولهذا اختارت جميع المخلوقات أن تكون مقهورة مُسيَّرة، أما الإنسان فقال: لي عقل وأستطيع التصرُّف والترجيح بين البدائل، فكان بذلك ظالماً لنفسه؛ لأنه لا يضمنها وقت الأداء، وجهولاً بما يكون من تغيُّر أحواله.
فالكون إذن ليس مقهوراً رَغْماً عنه، بل بإرادته واختياره، وكذلك الإنسان ليس مختاراً رَغْماً عنه، بل بإرادته واختياره.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَاباً مَّسْتُوراً} .
(14/8569)
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)
الحق سبحانه وتعالى يعدل الأشياء تنفيذاً لأشياء أخرى، ويصنع أحداثاً أوّلية لتكون بمثابة المقدمة والتمهيد لأحداث أخرى أهم منها. وكفار مكة ما ادَّخروا وُسْعاً، وما تركوا وسيلة من وسائل الإيذاء لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والتنكيل به إلا فعلوها.
ومع ذلك لم يُفَاجأ بها رسول الله، ولم تُثبِّط من عزيمته، لماذا؟ لأنه كان مُتوقِّعاً لكل هذا الإيذاء، ولديه من سوابق الأحداث ما يعطيه الحصانة الكافية لمقابلة كل الشدائد.
(14/8569)
فالمسألة لم تُفاجئ رسول الله؛ لأنه عرفها حتى قبل أن يُبعث، فحينما جاءه جبريل للمرة الأولى في الغار، وعاد إلى السيدة خديجة فَزِعاً ذهبتْ به إلى ابن عمها ورقة بن نوف، فطمأنه بأن هذا هو الناموس الإلهي، وأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سيكون مبعوث السماء إلى الأرض، وأنه نبيُّ هذه الأمة، وقال فيما قال: ليتني أكون حياً حين يُخرِجك قومك، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أَمُخرجيّ هم؟» .
قال: نعم، لم يأتي رجل بمثل ما جئتَ به إلا عودِي، وإنْ يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً.
إذن: فالحق سبحانه وتعالى حَصَّن رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ضد ما سيأتي من أحداث؛ لكي يكون على توقُّع لها، ولا تحدث له المفاجأة التي ربما ولدتْ الانهيار، وأعطاه الطُّعْم المناسب للداء قبل حدوثه؛ لتكون لديه المناعة الكافية عند وقوع الأحداث، واليقين الثابت في نصر الله له مهما ادْلهَمتْ الخطوب، وضاق الخناق عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلى أصحابه.
والحديث عن الذين لا يؤمنون بالآخرة، وما داموا كذلك فليس لهم إلا الدنيا، هي فرصتهم الوحيدة، لذلك يحرصون على استنفاد كل شهواتهم فيها، ولا يؤخرون منها شيئاً، فإنْ أجَّل المؤمن بعض مُتَعِه وشهواته انتظاراً لما في الآخرة فإلامَ يؤجل الكفار مُتعهم؟
إذن: الذي يجعل هؤلاء يتهافتون على شهواتهم في الدنيا أنهم غير مؤمنين بالآخرة.
(14/8570)
فإذا جاء رسول بمنهج ليعدل حركة الناس لتنسجم مع الكون، فلا بُدّ أن يثور هؤلاء الكفار الحريصون على شهواتهم ومكانتهم، لا بُدَّ أنْ يصادموا هذه الدعوة، ويقاوموها في ذات الرسول وفي منهجه، في ذاته بالإيذاء، وفي دعوته ومنهجه بصَرْف الناس عنه، ألم يقل الكفار لمن يَرَوْن عنده مَيْلاً للإسلام: {لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]
وقولهم: {لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن. .} [فصلت: 26]
شهادة منهم بصدق القرآن الكريم، وأنه ينفذ إلى القلوب ويؤثر فيها، وإلا لما قالوا هذا القول.
وقولهم: {والغوا فِيهِ. .} [فصلت: 26]
أي: هرَّجوا وشَوِّشوا عليه حتى لا يصل إلى آذان الناس، إذن: هم واثقون من صدق رسول الله وصدق دعوته، وقد دَلَّتْ تصرفاتهم على ذلك، فحينما كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يذهب إلى الكعبة، ويجلس بجوارها يُدندِن بآيات القرآن كان صناديد الكفر في مكة يتعمدون سماع القرآن، والتلذُّذ بروعته وبلاغته.
فقوله تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَاباً مَّسْتُوراً} [الإسراء: 45]
(14/8571)
يُرْوَى أن أبا جهل، وأبا سفيان، وأبا لهب، وأم جميل كانوا يتابعون رسول الله، ويتنصتون عليه وهو يقرأ القرآن ليروْا ما يقول، وليجدوا فرصة لإيذائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فكان الحق سبحانه يصمُّ آذانهم عن سماع القرآن، فالرسول يقرأ وهم لا يسمعون شيئاً، فينصرفون عنه بغيظهم.
وكأن الحق سبحانه يريد من هذه الواقعة أن تكون تمهيداً لحدث أهم، وهو ما كان من رسول الله ليلة الهجرة، ليلة أنْ بيَّتوا له القتل بضربة رجل واحد، فتحرسه عناية الله وتقوم له: اخرج عليهم ولا تخف، فإن الذي جعلك تقرأ وجعل بينك وبينهم حجاباً فلا يستمعون إليك، هو الذي سينزل على أعينهم غشاوة فلا يرونك.
ومع إحكام خيوط هذه المؤامرة لم يخرج الرسول من بينهم صامتاً يحبس أنفاسه خَوْفاً، بل خرج وهو يقول «شاهت الوجوه» وهو لا يخشى انتباههم إليه، وأكثر من ذلك: يأخذ حفنة من التراب ويذروها على وجوههم، إنها الثقة واليقين في نصره وتأييده.
وقوله: {حِجَاباً مَّسْتُوراً} [الإسراء: 45]
الحجاب: هو المانع من الإدراك، فإنْ كان للعين فهو مانع للرؤية، وإنْ كان للأذن فهو مانع للسمع.
(14/8572)
وكلمة {مَّسْتُوراً} اسم مفعول من الستر، فلم يقل الحق سبحانه وتعالى (ساتراً) ، وهذا من قبيل المبالغة في الستر والإخفاء، فالمعنى أن الحجاب الذي يمنعهم من سماعك أو رؤيتك هو نفسه مستور، فإن كان الحجاب نفسه مستوراً، فما بالُكَ بما خلفه؟
ولاشكَّ أن الذِّهْن سينشغل هنا بالحجاب المادي، لكن هذا الحجاب الذي يتحدث عنه الحق سبحانه حجاب معنويّ ولا يراه أحد، كما في قوله تعالى: {رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد: 2]
فلو قال: بغير عَمَد وسكت فقد نفى وجود عمد للسماء وانتهت المسألة، وأدخلناها تحت قوله تعالى: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ} [فاطر: 41] فالأمر قائم على قدرة الله دون وجود عَمَدٍ تحمل السماء.
لكن قوله سبحانه: {تَرَوْنَهَا} تجعل المعنى صالحاً لأنْ نقول بغير عَمَد، وأنتم ترونها كذلك، فننظر هنا وهناك فلا نجد للسماء عمداً تحملها، أو نقول: إن لها عمداً لكِنَّا لا نراها، فهي عَمَد معنوية، فلا ينصرف ذهنك إلى ما نقيمه نحن من عَمد المسلح أو الرخام أو الحديد.
وفي هذا ما يدُكُّ الغرور في الإنسان، ليعلم أنه لا يدرك إلا ما أذن الله له في إدراكه، وأن حواسَّ الإدراك لديه قد تتوقف عن هذا الإدراك، فليس معنى أنها مدركة أن تظل مدركة دائماً، فليس لها طلاقة لتفعل ما تشاء، بل الحق سبحانه وتعالى يعطيها هذه القدرة، أو يسلبها إياها.
(14/8573)
فالقدرة الإلهية هي التي تُسيِّر هذا الكون، وتأمر كل شيء بأن تُؤدِّي مهمته في الحياة، وإنْ شاء عطّلها عن أداء هذه المهمة؛ لذلك نرفض قول الفلاسفة أن الحق سبحانه وتعالى زاول سلطانه في مُلْكه مرة واحدة، بأن جعل فيه النواميس والقوانين، وهي التي تحكم العالم وتُسيِّره.
ففي قصة موسى عليه السلام أنه سار بجيشه، يطارده فرعون وجنوده حتى وصل إلى شاطئ البحر فأصبح البحر من أمامه، وفرعون من خلفه حتى قال أصحاب موسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ. .} [الشعراء: 61]
فأين المفر، وهاهو البحر من أمامنا، والعدو من خلفنا؟ وهذا كلام منطقي مع واقع الحديث البشري، لكن الأمر يختلف عند موسى عليه السلام فقال بملء فيه: {قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62]
فهل قالها موسى برصيد بشري؟ لا، بل بما عنده من ثقة في ربه، وهكذا انتقلت المسألة إلى ساحة الخالق سبحانه، فقال لنبيه موسى: {فَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم} [الشعراء: 63]
فخرق الله لموسى قانون سيولة الماء واستطراقه، ويتجمد الماء، ويصير كالجبل ويتحول البحر إلى يابسة، ويعبر موسى وقومه إلى الناحية الأخرى، وتنشرح صدورهم بفرحة النجاة، ويأخذ موسى عليه السلام عصاه ليضرب البحر ليعود إلى طبيعته، وحتى
(14/8574)
لا يعبره فرعون ويلحق به، لكن الحق سبحانه يأمره، أن يتركه على حاله: {واترك البحر رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ} [الدخان: 24]
فعندما نزل فرعون وجنوده البحر واكتمل عددهم في قاعه أطلق الخالق سبحانه للماء قانون سيولته، فأطبق على فرعون وجنوده، وكانت آيةً من آيات الله، شاهدة على قدرته سبحانه، وأنه إنْ شاء أنجى وأهلك بالشيء الواحد، وشاهدة على قيوميته تعالى على خَلْقه، فليس الأمر كما يقولون أمر قانون أو ناموس يعمل، ويدير حركة الكون، فكل المعجزات التي مرَّتْ في تاريخ البشرية جاءت من باب خرق النواميس.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وفي آذَانِهِمْ وَقْراً ... } .
(14/8575)
وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)
ومعنى {أَكِنَّةً} جمع كِنَان، وهو الغطاء، وقد حكى القرآن اعترافهم بهذه الأكنة وهذه الحجب التي غلَّفَتْ قلوبهم في قوله تعالى: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ. .} [فصلت: 5]
الكون كله خَلْق الله، والإنسان سيد هذا الكون، وخليفة الله فيه وهو مربوب للخالق سبحانه لا يخرج عن مربوبيته لربه، حتى وإنْ
(14/8575)
كان كافراً لا يزال يتقلّب في عطاء الربوبية، فلا يُحرم منها الكافر بكفره ولا عاص بمعصيته، بل كما قال تعالى: {كُلاًّ نُّمِدُّ هؤلاء وهؤلاء مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ. .} [الإسراء: 20]
وسبق أنْ فرَّقنا بين عطاء الربوبية المتمثّل في كل نِعَم الحياة وبين عطاء الألوهية، وهو التكليف الذي يقتضي عبداً ومعبوداً، وافعل ولا تفعل.
إذن: عطاء الربوبية عام للجميع ودائم للجميع، فكان على الإنسان أن يقف مع نفسه وقفة تأمُّل في هذه النعم التي تُسَاق إليه دون سَعْي منه أو مجهود، هذه الشمس وهذه الأرض وهذا الهواء، هل له قدرة عليها؟ هل تعمل له بأمره، إنها أوليات النعم التي أجراها الله تعالى من أجله، وسخّرها بقدرته من أجله، ألا تدعوه هذه النعم إلى الإيمان بالمنعم سبحانه وتعالى؟
وسبق أنْ ضربنا مثلاً للاستدلال على الخالق سبحانه بما أودعه في الكون من ظواهر وآيات بالرجل الذي انقطعت به السُّبُل في صحراء، حتى أوشك على الهلاك، وفجأة رأى مائدة عليها ما يشتهي من الطعام والشراب، ألاَ تثير في نفسه تساؤلاً عن مصدرها قبل أن تمتدَّ إليها يده؟
وكذلك الكافر الذي يتقلَّب في نِعَم لا تُعَدُّ ولا تُحصَى، وقد طرأ على الكون فوجده مُعدّاً لاستقباله مُهَيئاً لمعيشته، فكان عليه أنْ يُجري عملية الاستدلال هذه، ويأخذ من النعمة دليلاً على المنعِم.
والحق تبارك وتعالى لا يمنع عطاء ربوبيته عَمَّنْ كفر، بل إن
(14/8576)
الكافر حين يتمكَّن الكفر منه ويُغلق عليه قلبه يساعده الله على ما يريد، ويزيده مما يحب، كما قال تعالى: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً. .} [البقرة: 10]
إذن: فقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً. .} [الإسراء: 46] لم تَأْتِ من الله ابتداءً، بل لما أحبُّوا هم الكفر، وقالوا عن أنفسهم: قلوبنا في أكنة، فأجابهم الله إلى ما أرادوا وختم على قلوبهم ليزدادوا كفراً، وطالما أنهم يحبونه فَلْنُزدهم منه.
ثم يقول تعالى: {أَن يَفْقَهُوهُ. .} [الإسراء: 46]
أي: كراهية أنْ يفقهوه؛ لأن الله تعالى لا يريد منهم أن يفهموا القرآن رَغْماً عنهم، بل برضاهم وعن طيب خاطر منهم بالإقناع وبالحجة، فالله لا يريد منا قوالبَ تخضع، بل يريد قلوباً تخشع، وإلا لو أرادنا قوالبَ لما استطاع أحد منا أنْ يشذَّ عن أمره، أو يمنع نفسه من الله تعالى، فالجميع خاضع لأمره وتحت مشيئته.
وفي سورة الشعراء يقول الحق تبارك وتعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 3 - 4]
فالأعناق هي الخاضعة وليست القلوب؛ لأنك تستطيع أن تقهر قالب خصمك فتجبره على فعل أو قول، لكنك لا تستطيع أبداً أن تجبر قلبه وتكرهه على حبك، إذن: فالله تعالى يريد القلوب، يريدها طائعة محبة مختارة، أما هؤلاء فقد اختاروا الأكِنّة على قلوبهم، وأحبُّوها وانشرحت صدورهم بالكفر، فزادهم الله منه.
(14/8577)
ثم يقول تعالى: {وفي آذَانِهِمْ وَقْراً. .} [الإسراء: 46]
{وَقْراً} أي: صَمم، والمراد أنهم لا يستمعون سماعاً مفيداً؛ لأنه ما فائدة السمع؟ واللغة وسيلة بين متكلم ومخاطب، ومن خلالها تنتقل الأفكار والخواطر لتحقيق غاية، فإذا كان يستمع بدون فائدة فلا جدوى من سمعه وكأنه به صَمماً.
وقوله تعالى: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القرآن وَحْدَهُ وَلَّوْاْ على أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً. .} [الإسراء: 46]
لماذا ولو على أدبارهم نفوراً؟ لأنك أتيتَ لهم بما يُخوِّفهم ويُزعجهم، وبالله لو أن قضيةَ الإيمان ليست فطرية موجودة في الذات وفي ذرّات التكوين، أكان هؤلاء يخافون من ذكر الله؟ فَمِمّا يخافون وهم لا يؤمنون بالله، ولا يعترفون بوجوده تعالى؟
إذن: ما هذا الخوف منهم إلا لانقهار الطبع، وانقهار الفطرة التي يعتريها غفلة، فإذا بهم يُولُّون مدبرين في خَوْفٍ ونُفور.
ثم يقول الحق سبحانه: {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نجوى ... } .
(14/8578)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)
الحق سبحانه وتعالى لا يَخْفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وهذه حقيقة كان على الكفار أنْ ينتبهوا إليها ويُراعوها، ويأخذوها سبيلاً إلى الإيمان بالله، فقد أخبر سبحانه نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقوله:
(14/8578)
{وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المصير} [المجادلة: 8]
فكان عليهم أن يتدبروا هذا القول: فهم قالوا في أنفسهم، ولم يقولوا لأحد، فمَنْ أخبر محمداً بهذا القول الذي لم يخرج إلى عالم الواقع، ومَنْ أطلعه عليه؟ أَلاَ يدعوهم هذا الإعلام بما يدور في نفوسهم إلى الإيمان بالله؟
وما دام الحق سبحانه يعلم كل الأحوال، ولا يَخْفَى عليه شيء، فهو أعلم بأحوالهم هذه: الأول: يستمعون إليك. والثاني: وإذ هم نجوى. والثالث: إذ يقول الظالمون. إذن: هم يستمعون ثم يتناجون، ثم يقول بعضهم لبعض.
قالوا: إن سبب نزول هذه الآية ما كان عند العرب من حُبٍّ للغة وشغف بأساليب البيان؛ لذلك كانت معجزة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من جنس ما نبغ فيه قومه، لتكون أوضح في التحدي، هكذا شأن الحق سبحانه مع كل الرسل.
وكان للعرب أسواق للبيان والبلاغة يجتمع فيها أهل الشعر والبلاغة والفصاحة، وفي مكة تصب كل الألسنة في مواسم الحج، فعرفوا صفوة لغات الجزيرة وأساليبها، ومن هنا انجذبوا لسماع القرآن، وشغفوا ببيانه بما لديهم من أذن مُرْهفة للأسلوب وملَكة عربية أصيلة، إلا أن القرآن له مطلوبات وتكاليف لا يقدرون عليها، ولديه منهج سيُقوِّض مملكة السيادة التي يعيشون فيها.
ومن هنا كابروا وعاندوا، ووقفوا في وجه هذه الدعوة، وإنْ كانوا
(14/8579)
مُعْجبين بالقرآن إعجاباً بيانياً بلاغياً بما في طباعهم من مَلَكات عربية.
فيُرْوَى أن كباراً مثل: النضر بن الحارث، وأبي سفيان، وأبي لهب كانوا يتسللون بعد أن ينام الناس ممن كانوا يقولون لهم: {لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ} [فصلت: 26] كانوا يذهبون إلى البيت يتسمَّعون لقراءة القرآن، ولماذا يحرمون أنفسهم من سماع هذا الضرب البديع من القول، وقد حرموا مواجيدهم وقلوبهم منه، فكانوا عند انصرافهم يرى بعضهم بعضاً مُتسلّلاً مُتخفّياً، فكانوا مرة يكذبون على بعضهم بحجج واهية، ومرة يعترفون بما وقعوا فيه من حُبٍّ لسماع القرآن.
فقال تعالى: {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ. .} [الإسراء: 47]
أي: بالحال الذي يستمعون عليه، إذ يستمعون إليك بحال إعجاب. ثم: {وَإِذْ هُمْ نجوى. .} [الإسراء: 47] من التناجي وهو الكلام سِرّاً، أو: أن نَجْوى جمع نجى، كقتيل وقَتْلى، وجريح وجَرْحى.
فالمعنى: نحن أعلم بما يستمعون إليه، وإذ هم متناجون أو نجوى، فكأن كل حالهم تناجٍ.
وقوله: {وَإِذْ هُمْ نجوى. .} [الإسراء: 47]
فيه مبالغة، كما تقول: رجل عادل، ورجل عَدْل.
ومِنْ تناجيهم مَا قاله أحدهم بعد سماعه لآيات القرآن: «والله، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسلفه لمغدق، وإنه يعلو ولا يُعْلَى عليه» .
(14/8580)
ثم تأتي الحالة الثالثة من أحوالهم: {إِذْ يَقُولُ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} [الإسراء: 47]