وَلَمّا جَآءَ مُوسَىَ لِمِيقَاتِنَا وَكَلّمَهُ رَبّهُ قَالَ رَبّ أَرِنِيَ أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمّا تَجَلّىَ رَبّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرّ موسَىَ صَعِقاً فَلَمّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوّلُ الْمُؤْمِنِينَ
يخبر تعالى عن موسى عليه السلام أنه لما جاء لميقات الله تعالى وحصل له التكليم من الله تعالى سأل الله تعالىَ أن ينظر إليه فقال {رب أرني أنظر إليك قال لن تراني} وقد أشكل حرف لن ههنا على كثير من العلماء لأنها موضوعة لنفي التأبيد فاستدل به المعتزلة على نفي الرؤية في الدنيا والاَخرة وهذا أضعف الأقوال لأنه قد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن المؤمنين يرون الله في الدار الاَخرة كما سنوردها عند قوله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة}
وقوله تعالى إخباراً عن الكفار {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} وقيل إنها لنفي التأبيد في الدنيا جمعاً بين هذه الاَية وبين الدليل القاطع على صحة الرؤيا في الدار الاَخرة وقيل إن هذا الكلام في هذا المقام كالكلام في قوله تعالى: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير} وقد تقدم ذلك في الأنعام وفي الكتب المتقدمة أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام «يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده» ولهذا قال تعالى: {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً} قال أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسير هذه الاَية حدثنا أحمد بن سهيل الواسطي حدثنا قرة بن عيسى حدثنا الأعمش عن رجل عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما تجلى ربه للجبل أشار بأصبعه فجعله دكاً. وأرانا أبو إسماعيل بأصبعه السبابة، هذا الإسناد فيه رجل مبهم لم يسم، ثم قال حدثني المثنى، حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا حماد عن ليث عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الاَية {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً} قال: هكذا بأصبعه، ووضع النبي صلى الله عليه وسلم أصبعه الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر، فساخ الجبل هكذا وقع في هذه الرواية حماد بن سلمة عن ليث عن أنس والمشهور حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس كما قال ابن جرير حدثني المثنى حدثنا هدبة بن خالد حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً} قال: «ووضع الإبهام قريباً من طرف خنصره»، قال: «فساخ الجبل» قال حميد لثابت يقول هكذا فرفع ثابت يده فضرب صدر حميد وقال يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقوله أنس وأنا أكتمه ؟ وهكذا رواه الإمام أحمد في مسنده حدثنا أبو المثنى معاذ بن معاذ العنبري حدثنا حماد بن سلمة حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله {فلما تجلى ربه للجبل} قال: قال «هكذا» يعني أنه أخرج طرف الخنصر قال أحمد: أرانا معاذ فقال له حميد الطويل: ما تريد إلى هذا يا أبا محمد ؟ قال فضرب صدره ضربة شديدة وقال من أنت يا حميد وما أنت يا حميد ؟ يحدثني به أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول ما تريد إليه ؟
وهكذا رواه الترمذي في تفسير هذه الاَية عن عبد الوهاب بن الحكم الوراق عن معاذ بن معاذ به وعن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي عن سليمان بن حرب عن حماد بن سلمة به ثم قال: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من طرق عن حماد بن سلمة به وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ورواه أبو محمد بن الحسن بن محمد بن علي الخلال عن محمد بن علي بن سويد عن أبي القاسم البغوي عن هدبة بن خالد عن حماد بن سلمة فذكره وقال هذا إسناد صحيح لا علة فيه، وقد رواه داود بن المحير عن شعبة عن ثابت عن أنس مرفوعاً وهذا ليس بشيء، لأن داود بن المحير كذاب، رواه)الحافظان أبو القاسم الطبراني وأبو بكر بن مردويه من طريقين عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس مرفوعاً بنحوه وأسنده ابن مردويه من طريق ابن البيلماني عن أبيه عن ابن عمر مرفوعاً ولا يصح أيضاً، رواه الترمذي وصححه الحاكم وقال على شرط مسلم. وقال السدي عن عكرمة عن ابن عباس في قول الله تعالى: {فلما تجلى ربه للجبل} قال ما تجلى منه إلا قدر الخنصر {جعله دكاً} قال تراباً {وخر موسى صعقاً} قال مغشياً عليه رواه ابن جرير وقال قتادة {وخر موسى صعقاً} قال ميتاً وقال سفيان الثوري ساخ الجبل في الأرض حتى وقع في البحر فهو يذهب معه وقال سنيد عن حجاج بن محمد الأعور عن أبي بكر الهذلي {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً} انقعر فدخل تحت الأرض فلا يظهر إلى يوم القيامة وجاء في بعض الأخبار أنه ساخ في الأرض فهو يهوي فيها إلى يوم القيامة رواه ابن مردويه وقال ابن أبي حاتم حدثنا عمر بن شبة حدثنا محمد بن يحيى أبو غسان الكناني حدثنا عبد العزيز بن عمران عن معاوية بن عبد الله عن الجلد بن أيوب عن معاوية بن قرة عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لما تجلى الله للجبال طارت لعظمته ستة أجبل فوقعت ثلاثة بالمدينة وثلاثة بمكة، بالمدينة أحد وورقان ورضوى ووقع بمكة حراء وثبير وثور» وهذا حديث غريب بل منكر وقال ابن أبي حاتم ذكر عن محمد بن عبد الله بن أبي الثلج حدثنا الهيثم بن خارجة حدثنا عثمان بن حصين بن العلاف عن عروة بن رويم قال: كانت الجبال قبل أن يتجلى الله لموسى على الطور صماً ملساء فلما تجلى الله لموسى على الطور دك وتفطرت الجبال فصارت الشقوق والكهوف وقال الربيع بن أنس {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً} وذلك أن الجبل حين كشف الغطاء ورأى النور صار مثل دك من الدكاك وقال بعضهم جعله دكاً أي فتنة وقال مجاهد في قوله {ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني} فإنه أكبر منك وأشد خلقاً {فلما تجلى ربه للجبل} فنظر إلى الجبل لا يتمالك وأقبل الجبل فدك على أوله ورأى موسى ما يصنع الجبل فخر صعقاً وقال عكرمة جعله دكاء قال نظر الله إلى الجبل فصار صحراء تراباً وقد قرأ بهذه القراءة بعض القراء واختارها ابن جرير، وقد ورد فيها حديث مرفوع رواه ابن مردويه والمعروف أن الصعق هو الغشي ها هنا كما فسره ابن عباس وغيره لا كما فسره قتادة بالموت وإن كان صحيحاً في اللغة كقوله تعالى: {ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون} فإن هناك قرينة تدل على الموت كما أن هنا قرينة تدل على الغشي. وهي قوله {فلما أفاق} والإفاقة لا تكون إلا عن غشي {قال سبحانك} تنزيهاً وتعظيماً وإجلالاً أن يراه أحد في الدنيا إلا مات. وقوله {تبت إليك} قال مجاهد أن أسألك الرؤية {وأنا أول المؤمنين} قال ابن عباس ومجاهد من بني إسرائيل واختاره ابن جرير وفي رواية أخرى عن ابن عباس {وأنا أول المؤمنين} أنه لا يراك أحد وكذا قال أبو العالية قد كان قبله مؤمنون ولكن يقول أنا أول من آمن بك أنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة، وهذا قول حسن له اتجاه وقد ذكر محمد بن جرير في تفسيره ها هنا أثراً طويلاً فيه غرائب وعجائب عن محمد بن إسحاق بن يسار وكأنه تلقاه من الإسرائيليات والله أعلم، وقوله {وخر موسى صعقاً} فيه أبو سعيد وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فأما حديث أبي سعيد فأسنده البخاري في صحيحه ههنا فقال حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال جاء رجل من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد لطم وجهه، وقال يا محمد إن رجلاً من أصحابك من الأنصار لطم وجهي قال «ادعوه» فدعوه قال «لم لطمت وجهه ؟» قال يا رسول الله إني مررت باليهودي فسمعته يقول والذي اصطفى موسى على البشر قال وعلى محمد ؟ قال فقلت وعلى محمد وأخذتني غضبة فلطمته فقال «لا تخيروني من بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور» وقد رواه البخاري في أماكن كثيرة من صحيحه ومسلم في أحاديث الأنبياء وأبو داود في كتاب السنة من سننه من طرق عن عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي الحسن المازني الأنصاري المدني عن أبيه عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري به. وأما حديث أبي هريرة فقال الإمام أحمد في مسنده حدثنا أبو كامل حدثنا إبراهيم بن سعد حدثنا ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال استب رجلان رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال المسلم: والذي اصطفى محمداً على العالمين فقال اليهودي: والذين اصطفى موسى على العالمين فغضب المسلم على اليهودي فلطمه، فأتى اليهودي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فأخبره فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعترف بذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تخيروني على موسى فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا موسى ممسك بجانب العرش فلا أدري أكان ممن صعق فأفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله عز وجل» أخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري به
وقد روى الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا رحمه الله أن الذي لطم اليهودي في هذه القضية هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ولكن تقدم في الصحيحين أنه رجل من الأنصار وهذا هو أصح وأصرح والله أعلم والكلام في قوله عليه السلام: «لا تخيروني على موسى» كالكلام على قوله «لا تفضلوني على الأنبياء ولا على يونس بن متى» قيل من باب التواضع وقيل قبل أن يعلم بذلك، وقيل نهى أن يفضل بينهم على وجه الغضب والتعصب وقيل على وجه القول بمجرد الرأي والتشهي والله أعلم. وقوله «فإن الناس يصعقون يوم القيامة» الظاهر أن هذا الصعق يكون في عرصات القيامة يحصل أمر يصعقون منه والله أعلم به. وقد يكون ذلك إذا جاء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء وتجلى للخلائق الملك الديان كما صعق موسى من تجلي الرب تبارك وتعالى ولهذا قال عليه السلام «فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور» وقد روى القاضي عياض في أوائل كتابه الشفاء بسنده عن محمد بن محمد بن مرزوق، حدثنا قتادة حدثنا الحسن عن قتادة عن يحيى بن وثاب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما تجلى الله لموسى عليه السلام كان يبصر النملة على الصفا في الليلة الظلماء مسيرة عشرة فراسخ» ثم قال: ولا يبعد على هذا أن يختص نبينا بما ذكرناه من هذا الباب بعد الإسراء والحظوة بما رأى من آيات ربه الكبرى انتهى ما قاله وكأنه صحح هذا الحديث، وفي صحته نظر ولا تخلو رجال إسناده من مجاهيل لا يعرفون ومثل هذا إنما يقبل من رواية العدل الضابط عن مثله حتى ينتهي إلى منتهاه والله أعلم
قَالَ يَمُوسَىَ إِنّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ وَكُنْ مّنَ الشّاكِرِينَ * وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِن كُلّ شَيْءٍ مّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ
يذكر تعالى أنه خاطب موسى بأنه اصطفاه على أهل زمانه برسالاته تعالى وبكلامه ولا شك أن محمداً صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم من الأولين والاَخرين ولهذا اختصه الله تعالى بأن جعله خاتم الأنبياء والمرسلين الذي تستمر شريعته إلى قيام الساعة وأتباعه أكثر من أتباع سائر الأنبياء والمرسلين كلهم وبعده في الشرف والفضل إبراهيم الخليل عليه السلام ثم موسى بن عمران كليم الرحمن عليه السلام ولهذا قال الله تعالى له: «فخذ ما آتيتك» أي من الكلام والمناجاة {وكن من الشاكرين} أي على ذلك ولا تطلب ما لا طاقة لك به ثم أخبر تعالى أنه كتب له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء قيل كانت الألواح من جوهر وإن الله تعالى كتب له فيها مواعظ وأحكاماً مفصلة مبينة للحلال والحرام وكانت هذه الألواح مشتملة على التوراة التي قال الله تعالى فيها: {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس} وقيل الألواح أعطيها موسى قبل التوراة والله أعلم، وعلى كل تقدير فكانت كالتعويض له عما سأل من الرؤية ومنع منها والله أعلم، وقوله {فخذها بقوة} أي بعزم على الطاعة {وأمر قومك يأخذوا بأحسنها} قال سفيان بن عيينة حدثنا أبو سعيد عن عكرمة عن ابن عباس قال أمر موسى عليه السلام أن يأخذ بأشد ما أمر قومه. وقوله {سأريكم دار الفاسقين} أي سترون عاقبة من خالف أمري وخرج عن طاعتي كيف يصير إلى الهلاك والدمار والتباب قال ابن جرير وإنما قال {سأريكم دار الفاسقين} كما يقول القائل لمن يخاطبه سأريك غداً إلى ما يصير إليه حال من خالف أمري على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره، ثم نقل معنى ذلك عن مجاهد والحسن البصري وقيل معناه {سأريكم دار الفاسقين} أي: من أهل الشام وأعطيكم إياها وقيل: منازل قوم فرعون والأول أولى والله أعلم لأن هذا بعد انفصال موسى وقومه عن بلاد مصر وهو خطاب لبني إسرائيل قبل دخولهم التيه والله أعلم
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الّذِينَ يَتَكَبّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَإِن يَرَوْاْ كُلّ آيَةٍ لاّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرّشْدِ لاَ يَتّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيّ يَتّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنّهُمْ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ * وَالّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ الاَُخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
يقول تعالى: {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق} أي سأمنع فهم الحجج والأدلة الدالة على عظمتي وشريعتي وأحكامي قلوب المتكبرين عن طاعتي ويتكبرون على الناس بغير حق، أي كما استكبروا بغير حق أذلهم الله بالجهل كما قال تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة} وقال تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} وقال بعض السلف: لا ينال العلم حيي ولا مستكبر، وقال آخر: من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذلك الجهل أبداً، وقال سفيان بن عيينة في قوله: { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق} قال: أنزع عنهم فهم القرآن وأصرفهم عن آياتي، قال ابن جرير: وهذا يدل على أن هذا الخطاب لهذه الأمة، قلت ليس هذا بلازم لأن ابن عيينة إنما أراد أن هذا مطرد في حق كل أمة ولا فرق بين أحد وأحد في هذا، والله أعلم. وقوله {وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها} كما قال تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} وقوله {وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً} أي وإن ظهر لهم سبيل الرشد أي طريق النجاة لا يسلكوها، وإن ظهر لهم طريق الهلاك والضلال يتخذوه سبيلاً، ثم علل مصيرهم إلى هذه الحال بقوله {ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا} أي كذبت بها قلوبهم {وكانوا عنها غافلين} أي لا يعلمون شيئاً مما فيها، وقوله {والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الاَخرة حبطت أعمالهم} أي من فعل منهم ذلك واستمر عليه إلى الممات حبط عمله، وقوله {هل يجزون إلا ما كانوا يعملون} أي إنما نجازيهم بحسب أعمالهم التي أسلفوها إن خيراً فخير وإن شراً فشر وكما تدين تدان
وَاتّخَذَ قَوْمُ مُوسَىَ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنّهُ لاَ يُكَلّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ * وَلَمّا سُقِطَ فَيَ أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنّهُمْ قَدْ ضَلّواْ قَالُواْ لَئِن لّمْ يَرْحَمْنَا رَبّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ
يخبر تعالى عن ضلال من ضل من بني إسرائيل في عبادتهم العجل الذي اتخذه لهم السامري، من حلي القبط الذي كانوا استعاروه منهم فشكل لهم منه عجلاً، ثم ألقى فيه القبضة من التراب التي أخذها من أثر فرس جبريل عليه السلام، فصار عجلاً جسداً له خوار: والخوار صوت البقر، وكان هذا منهم بعد ذهاب موسى لميقات ربه تعالى فأعلمه الله تعالى بذلك وهو على الطور، حيث يقول تعالى إخباراً عن نفسه الكريمة {قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري} وقد اختلف المفسرون في هذا العجل هل صار لحماً ودماً له خوار أو استمر على كونه من ذهب إلا أنه يدخل فيه الهواء فيصوت كالبقر على قولين والله أعلم. ويقال إنهم لما صوت لهم العجل رقصوا حوله وافتتنوا به وقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي قال الله تعالى: {أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً} وقال في هذه الاَية الكريمة {ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً} ينكر تعالى عليهم في ضلالهم بالعجل وذهولهم عن خالق السموات والأرض ورب كل شيء ومليكه أن عبدوا معه عجلاً جسداً له خوار لا يكلمهم ولا يرشدهم إلى خير ولكن غطى على أعين بصائرهم عمى الجهل والضلال كما تقدم من رواية الإمام أحمد وأبي داود عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «حبك الشيء يعمي ويصم» وقوله {ولما سقط في أيديهم} أي ندموا على ما فعلوا {ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا} وقرأ بعضهم لئن لم ترحمنابالتاء المثناة من فوق {ربنا} منادى {وتغفر لنا لنكونن من الخاسرين} أي من الهالكين وهذا اعتراف منهم بذنبهم التجاء إلى الله عز وجل
وَلَمّا رَجَعَ مُوسَىَ إِلَىَ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمّ إِنّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ * قَالَ رَبّ اغْفِرْ لِي وَلأخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ
يخبر تعالى أن موسى عليه السلام لما رجع إلى قومه من مناجاة ربه تعالى وهو غضبان أسف قال أبو الدرداء الأسف أشد الغضب. {قال بئسما خلفتموني من بعدي} يقول بئس ما صنعتم في عبادة العجل بعد أن ذهبت وتركتكم، وقوله {أعجلتم أمر ربكم} يقول استعجلتم مجيئي إليكم وهو مقدر من الله تعالى. وقوله {وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه} قيل كانت الألواح من زمرد وقيل من ياقوت وقيل من برد وفي هذا دلالة على ما جاء في الحديث: «ليس الخبر كالمعاينة» ثم ظاهر السياق أنه إنما ألقى الألواح غضباً على قومه، وهذا قول جمهور العلماء سلفاً وخلفاً. وروى ابن جرير عن قتادة في هذا قولاً غريباً لا يصح إسناده إلى حكاية قتادة وقد رده ابن عطية وغير واحد من العلماء وهو جدير بالرد وكأنه تلقاه قتادة عن بعض أهل الكتاب وفيهم كذابون ووضاعون وأفاكون وزنادقة. وقوله {وأخذ برأس أخيه يجره إليه} خوفاً أن يكون قد قصر في نهيهم كما قال في الاَية الأخرى {قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا أن لا تتبعن أفعصيت أمري * قال يا ابن أُم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي * إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي} وقال ههنا {ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين} أي لا تسوقني سياقهم وتجعلني معهم وإنما قال: ابن أم ليكون أرق وأنجع عنده وإلا فهو شقيقه لأبيه وأمه فلما تحقق موسى عليه السلام براءة ساحة هارون عليه السلام كما قال تعالى: {ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري} فعند ذلك {قال} موسى {رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين} وقال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا عفان حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يرحم الله موسى ليس المعاين كالمخبر أخبره ربه عز وجل أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح»