لا تنظر إلى ما قدمت من إحسان في الدنيا ولا إلى ما أخرت من ثواب الآخرة
أما العبودة فهي: ألاَّ ينظر العبد إلى ما قدَّم من إحسان، ولا ما أخّر من ثواب وعقاب، وإنما ينظر إلى أن جلال الله يستحق أنْ يطُاع
لا تنظر إلى ما قدمت من إحسان في الدنيا ولا إلى ما أخرت من ثواب الآخرة ولكن انظر إلى أن الله الذي خلقك من عدم وأمدك بالنعم يستحق أن يطاع -الشعراوي
قال ابن كثير رحمه الله {والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ} الآية: أي ليسوا مبذرين في إنفاقهم، فيصرفوا فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم، فيقصروا في حقهم فلا يكفوهم بل عدلًا خيارًا، وخير الأمور أوسطها، لا هذا، ولا هذا. انتهى محل الغرض منه.
وقوله تعالى: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} أي بين ذلك المذكور من الإسراف والقتر. قوامًا: أي عدلًا وسطًا سالمًا من عيب الإسراف والقتر.
وأظهر أوجه الإعراب عندي في الآية هو ما ذكره القرطبي، قال: وقوامًا خبر كان واسمها مقدر فيها أي كان الإنفاق بين الإسراف والقتر قوامًا، ثم قال قاله الفراء، وباقي أوجه الإعراب في الآية ليس بوجيه عندي كقول من قال: إن لفظة بين هي اسم كان، وأنها لم ترفع لبنائها بسبب إضافتها إلى مبني، وقول من قال: إن بين هي خبر كان، وقوامًا حال مؤكدة له ومن قال إنهما خبران كل ذلك ليس بوجيه عندي، والأظهر الأول. والظاهر أن التوسط في الإنفاق الذي مدحهم به شامل لإنفاقهم على أهليهم، وإنفاقهم المال في أوجه الخير.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحًا في غير هذا الموضع، فمن ذلك أن الله أوصى نبيه صلى الله عليه وسلم بالعمل بمقتضاه في قوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} [الإسراء: 29] الآية، {وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ والمسكين وابن السبيل وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26] الآية، وقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو} [البقرة: 219] الآية. على أصح التفسيرين.
وقد أوضحنا الآيات الدالة على هذا المعنى في أول سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3].
مسألة:
هذه الآية الكريمة التي هي قوله تعالى: {والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ} الآية والآيات التي ذكرناها معها، قد بينت أحد ركني ما يسمى الآن بالاقتصاد.
وإيضاح ذلك أنه لا خلاف بين العقلاء أن جميع مسائل الاقتصاد على كثرتها واختلاف أنواعها راجعة بالتقسيم الأول إلى أصلين لا ثالث لهما.
والثاني منهما: صرفه من مصارفه، وبه تعلم أن الاقتصاد عمل مزدوج، ولا فائدة في واحد من الأصلين المذكورين إلا بوجود الآخر، فلو كان الإنسان أحسن الناس نظرًا في أوجه اكتساب المال إلا أنه أخرق جاهل بأوجه صرفه، فإن جميع ما حصل من المال يضيع عليه بدون فائدة، وكذلك إذا كان الإنسان أحسن الناس نظرًا في صرف المال في مصارفه المنتجة إلا أنه أخرق جاهل بأوجه اكتسابه. فإنه لا ينفعه حسن نظره في الصرف مع أنه لم يقدر على تحصيل شيء يصرفه. والآيات المذكورة أرشدت الناس ونبهتهم على الاقتصاد في الصرف.
وإذا علمت أن مسائل الاقتصاد كلها راجعة إلى الأصلين المذكورين، وأن الآيات المذكورة دلت على أحدهما فاعلم أن الآخر منهما هو اكتساب المال أرشدت إليه آيات أخر دلت على فتح الله الأبواب إلى اكتساب المال بالأوجه اللائقة، كالتجارات، وغيرها كقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ} [البقرة: 198]، وقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله} [الجمعة: 10]، وقوله تعالى: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله} [المزمل: 20]، والمراد بفضل الله في الآيات المذكورة ربح التجارة، وكقوله تعالى: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ} [النساء: 29]، وقد قدمنا في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى: {فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذه إلى المدينة} [الكهف: 19] الآية. أنواع الشركات، وأسماءها، وبينا ما يجوز عند الأئمة الأربعة وأوضحنا ما اتفقوا على منعه، وما اتفقوا على جوازه، وما اختلفوا فيه، وبه تعلم كثرة الطرق التي فتحها الله لاكتساب المال بالأوجه الشرعية اللائقة.
وإذا علمت مما ذكرنا أن جميع مسائل الاقتصاد راجعة إلى أصلين هما اكتساب المال وصرفه في مصارفه. فاعلم أن كل واحد من هذين الأصلين، لابد له من أمرين ضروريين له:
الأول منهما: معرفة حكم الله فيه، لأن الله جل وعلا لم يبح اكتساب المال بجميع الطرق التي يكتسب بها المال، بل أباح بعض الطرق، وحرم بعضها كما قال تعالى: {وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا} [البقرة: 275]، ولم يبح الله جل وعلا، وصرف المال في كل شيء بل أباح بعض الصرف وحرم بعضه، كما قال تعالى: {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261] الآية. وقال تعالى في الصرف الحرام: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} [الأنفال: 36] الآيةن فمعرفة حكم الله في اكتساب المال وفي صرفه في مصارفه أمر ضروري لابد منه، لأن من لم يعلم ذلك قد يكتسب المال من وجه حرام، والمال الكمتسب من وجه حرام، لا خير فيه البتة، وقد يصرف المال في وجه حرام، وصرفه في ذلك حسرة على صاحبه.
الأمر الثاني: هو معرفة الطريق الكفيلة باكتساب المال، فقد يعلم الإنسان مثلًا أن التجارة في النوع الفلاني مباحة شرعًا، ولكنه لا يعلم أوجه التصرف بالمصلحة الكفيلة بتحصيل المالن من ذلك الوجه الشرعي، وكم من متصرف يريد الربح، فيعود عليه تصرفه بالخسران، لعدم معرفته بالأوجه التي يحصل بها الربح. وكذلك قد يعلم الإنسان أن الصرف في الشيء الفلاني مباح، وفيه مصلحة، ولكنه لا يهتدي إلى معرفة الصرف المذكور، كما هو مشاهد في المشاريع الكثيرة النفع إن صرف فيها المال بالحكمة والمصلحة، فإن جواز الصرف فيها معلوم، وإيقاع الصرف على وجه المصلحة، لا يعلمه كل الناس.
وبهذا تعلم أن أصول الاقتصاد الكبار أربعة:
الأول: معرفة حكم الله في الوجه الذي يكتسب به المال، واجتناب الاكتساب به، إن كان محرمًا شرعًا:
الثاني: حسن النظر في اكتساب المال بعد معرفة ما يبيحه خالق السماوات والأرض، وما لا يبيحه.
الثالث: معرفة حكم الله في الأوجه التي يصرف فيها المال، واجتناب المحرم منها.
الرابع: حسن النظر في أوجه الصرف، واجتناب ما لا يفيد منها، فكل من بنى اقتصاده على هذه الأسس الأربعة كان اقتصاده كفيلًا بمصلحته، وكان مرضيًا لله جل وعلا، ومن أخل بواحد من هذه الأسس الأربعة كان بخلاف ذلك، لأن من جمع المال بالطرق التي لا يبيحها الله جل وعلا فلا خير في ماله، ولا بركة كما قال تعالى: {يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي الصدقات} [البقرة: 276] وقال تعالى: {قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث} [المائدة: 100] الآية.
وقد تكلمنا على مسائل الربا في آية الربا في سورة البقرة وتكلمنا على أنواع الشركات وأسمائها، وبينا ما يجوز منها وما لا يجوز في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى: {فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذه إلى المدينة} [الكهف: 19] الآية.
ولا شك أنه يلزم المسلمين في أقطار الدنيا التعاون على اقتصاد يجيزه خالق السماوات والأرض، على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ويكون كفيلًا بمعرفة طرق تحصيل المال بالأوجه الشرعية، وصرفه في مصارفه المنتجة الجائزة شرعًا لأن الاقتصاد الموجود الآن في أقطار الدنيا لا يبيحه الشرع الكريم، لأن الذين نظموا طرقه ليسوا بمسلمين، فمعاملات البنوك والشركات لا تجد شيئًا منها يجوز شرعًا، لأنها إما مشتملة على زيادات ربوية، أو على غرر، لا تجوز معه المعاملات كأنواع التأمين المتعارفة عند الشركات اليوم في اقطار الدنيا، فإنك لا تكاد تجد شيئًا منها سالمًا من الغرر، وتحريم بيع الغرر ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن من يدعي إباحة أنواع التأمين المعروفة عند الشركات، من المعاصرين أنه مخطئ في ذلك، ولأنه لا دليل معه بل الأدلة الصحيحة على خلاف ما يقول، والعلم عند الله تعالى. اهـ.
.قال الشعراوي:
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا}.
يعطينا الحق تبارك وتعالى صورة للعبودية الحقة، ونموذجًا للذين اتبعوا المنهج، كأنه سبحانه وتعالى يقول لنا: دَعْكُم من الذين أعرضوا عن منهج الله وكذَّبوا رسوله، وانظروا إلى أوصاف عبادي الذين أمنوا بي، ونفَّذوا أحكامي، وصدَّقوا رسولي.
نقول: عباد وعبيد. والتحقيق أن عبيد جمع لعبد، وأن عباد جمع لعابد مثل: رجال جمع راجل: {وَأَذِّن فِي الناس بالحج يَأْتُوكَ رِجَالًا} [الحج: 27] إذن: عبيد غير عِبَاد.
وسبق أن تحدثنا عن الفَرْق بين العبيد والعباد، فكلنا عبيد لله تعالى المؤمن والكافر، والطائع والعاصي، فما دام يطرأ عليه في حياته ما لا يستطيع أنْ يدفعه مع أنه يكرهه فهو مقهور، فالعبد الكافر الذي تمرَّد على الإيمان بالله، وتمرَّد على تصديق الرسول، وتمرد على أحكام الله فلم يعمل بها.
فهل بعد أن أَلِفَ التمرد يستطيع أن يتمرد على المرض إنْ أصابه؟ أو يستطيع التمرد على الموت إنْ حلّ بساحته؟ إذن: فأنت عبد رغمًا عنك، وكلنا عبيد فيما نحن مقهورون عليه، ثم لنا بعد ذلك مساحة من الاختيار.
أما المؤمن فقد خرج عن اختياره الذي منحه الله في أن يؤمن أو يكفر، وتنازل عنه لمراد ربه، فاستحق أن يكون من عباد الله {وَعِبَادُ الرحمن} [الفرقان: 63] فنحن وإنْ كنا عبيدًا فنحن سادة؛ لأننا عبيد الرحمن؛ لذلك كانت حيثية تكريم الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في الإسراء هي عبوديته لله تعالى، حيث قال: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1]، فالعبودية هي علة الارتقاء.
فلما أخلص رسول الله العبودية لله نال هذا القُرْب الذي لم يسبقه إليه بشر.
لذلك وصف الملائكة بأنهم {عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] وباستقراء الآيات لم نجد سوى آية واحدة تخالف في ظاهر الأمر هذا المعنى الذي قُلْناه في معنى العباد، وهي قوله تعالى في الكلام عن الآخرة: {أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ} [الفرقان: 17].
فقال للضالين {عبادي} وهي لا تُقال إلا للطائعين، لماذا؟ قالوا: لأن في القيامة لا اختيارَ لأحد، فالجميع في القيامة عباد، حيث انتفى الاختيار الذي يُميِّزهم.
والعلماء يقولون: إن العباد تُؤخَذ منها العبادية، وأن العبيد تُؤخَذ منها العبودية: العبادية في العباد أن يطيع العابد أمر الله، وينتهي عن نواهيه طمعًا في ثوابه في الآخرة، وخوفًا من عقابه فيها، إذن: جاءت العبادية لأخذ ثواب الآخرة وتجنّب عقابها.
أما العبودية فلا تنظر إلى الآخرة، إنما إلى أن الله تعالى تقدّم بإحسانه على عبيده إيجادًا من عدم، وإمدادًا من عُدْمٍ، وتربية وتسخيرًا للكون، فالله يستحق بما قدّم من إحسان أن يُطاع بصرف النظر عن الجزاء في الآخرة ثوابًا أو عقابًا.
أما العبودة فهي: ألاَّ ينظر العبد إلى ما قدَّم من إحسان، ولا ما أخّر من ثواب وعقاب، وإنما ينظر إلى أن جلال الله يستحق أنْ يطُاع، وإنْ لم يسبق له الإحسان، وإنْ لم يأتِ بعد ذلك ثواب وعقاب.
وإن كانت العبودية مكروهة في البشر كما قال أحد الساسة: متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ ذلك لأن العبودية للبشر يأخذ السيد خيْر عبده، أما العبودية لله تعالى فِعزٌّ وشرف، حيث يأخذ العبد خَيْر سيده، فهي عبودية سيادة، لا عبودية قهر.
فحين تؤمن بالله يعطيك الله الزمام: يقول لك: إنْ أردت أنْ أذكرك فاذكرني، وفي الحديث القدسي: «مَنْ ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي، ومَنْ ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم».
وإنْ كان سبحانه وتعالى يستدعيك إلى خَمْس صلوات في اليوم والليلة، فما ذلك إلا لتأنسَ بربك، لكن أنت حر تأتيه في أيِّ وقت تشاء من غير موعد، وأنت تستطيع أن تحدد بَدْءَ المقابلة ونهايتها وموضوعها. إلخ، فزمام الأمر في يدك.
وقد تعلم سيدنا رسول الله خُلق الله، فكان إذا وضع يده في يد أحد الصحابة يُسلِّم عليه لا ينزع يده منه حتى يكون هو الذي ينزع يده من يد رسول الله، وهذا أدب من أدب الحق تبارك وتعالى إذن: فالعبودية لله تعالى عبودية لرحمن، لا عبودية لجبار.
أن الله الذي خلقني منعدم وأمدني من عدم وجعل لي ... إذن ، الله وحده هو من يستحق العبادة وهو وحده من .
ولكن انظر إلى أن الله الذي خلقني منعدم وأمدني من عدم هو م وحده من يستحق أن يطاع -الشعراوي
قال ابن كثير رحمه الله {والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ} الآية: أي ليسوا مبذرين في إنفاقهم، فيصرفوا فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم، فيقصروا في حقهم فلا يكفوهم بل عدلًا خيارًا، وخير الأمور أوسطها، لا هذا، ولا هذا. انتهى محل الغرض منه.
وقوله تعالى: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} أي بين ذلك المذكور من الإسراف والقتر. قوامًا: أي عدلًا وسطًا سالمًا من عيب الإسراف والقتر.
وأظهر أوجه الإعراب عندي في الآية هو ما ذكره القرطبي، قال: وقوامًا خبر كان واسمها مقدر فيها أي كان الإنفاق بين الإسراف والقتر قوامًا، ثم قال قاله الفراء، وباقي أوجه الإعراب في الآية ليس بوجيه عندي كقول من قال: إن لفظة بين هي اسم كان، وأنها لم ترفع لبنائها بسبب إضافتها إلى مبني، وقول من قال: إن بين هي خبر كان، وقوامًا حال مؤكدة له ومن قال إنهما خبران كل ذلك ليس بوجيه عندي، والأظهر الأول. والظاهر أن التوسط في الإنفاق الذي مدحهم به شامل لإنفاقهم على أهليهم، وإنفاقهم المال في أوجه الخير.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحًا في غير هذا الموضع، فمن ذلك أن الله أوصى نبيه صلى الله عليه وسلم بالعمل بمقتضاه في قوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} [الإسراء: 29] الآية، {وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ والمسكين وابن السبيل وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26] الآية، وقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو} [البقرة: 219] الآية. على أصح التفسيرين.
وقد أوضحنا الآيات الدالة على هذا المعنى في أول سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3].
مسألة:
هذه الآية الكريمة التي هي قوله تعالى: {والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ} الآية والآيات التي ذكرناها معها، قد بينت أحد ركني ما يسمى الآن بالاقتصاد.
وإيضاح ذلك أنه لا خلاف بين العقلاء أن جميع مسائل الاقتصاد على كثرتها واختلاف أنواعها راجعة بالتقسيم الأول إلى أصلين لا ثالث لهما.
والثاني منهما: صرفه من مصارفه، وبه تعلم أن الاقتصاد عمل مزدوج، ولا فائدة في واحد من الأصلين المذكورين إلا بوجود الآخر، فلو كان الإنسان أحسن الناس نظرًا في أوجه اكتساب المال إلا أنه أخرق جاهل بأوجه صرفه، فإن جميع ما حصل من المال يضيع عليه بدون فائدة، وكذلك إذا كان الإنسان أحسن الناس نظرًا في صرف المال في مصارفه المنتجة إلا أنه أخرق جاهل بأوجه اكتسابه. فإنه لا ينفعه حسن نظره في الصرف مع أنه لم يقدر على تحصيل شيء يصرفه. والآيات المذكورة أرشدت الناس ونبهتهم على الاقتصاد في الصرف.
وإذا علمت أن مسائل الاقتصاد كلها راجعة إلى الأصلين المذكورين، وأن الآيات المذكورة دلت على أحدهما فاعلم أن الآخر منهما هو اكتساب المال أرشدت إليه آيات أخر دلت على فتح الله الأبواب إلى اكتساب المال بالأوجه اللائقة، كالتجارات، وغيرها كقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ} [البقرة: 198]، وقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله} [الجمعة: 10]، وقوله تعالى: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله} [المزمل: 20]، والمراد بفضل الله في الآيات المذكورة ربح التجارة، وكقوله تعالى: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ} [النساء: 29]، وقد قدمنا في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى: {فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذه إلى المدينة} [الكهف: 19] الآية. أنواع الشركات، وأسماءها، وبينا ما يجوز عند الأئمة الأربعة وأوضحنا ما اتفقوا على منعه، وما اتفقوا على جوازه، وما اختلفوا فيه، وبه تعلم كثرة الطرق التي فتحها الله لاكتساب المال بالأوجه الشرعية اللائقة.
وإذا علمت مما ذكرنا أن جميع مسائل الاقتصاد راجعة إلى أصلين هما اكتساب المال وصرفه في مصارفه. فاعلم أن كل واحد من هذين الأصلين، لابد له من أمرين ضروريين له:
الأول منهما: معرفة حكم الله فيه، لأن الله جل وعلا لم يبح اكتساب المال بجميع الطرق التي يكتسب بها المال، بل أباح بعض الطرق، وحرم بعضها كما قال تعالى: {وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا} [البقرة: 275]، ولم يبح الله جل وعلا، وصرف المال في كل شيء بل أباح بعض الصرف وحرم بعضه، كما قال تعالى: {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261] الآية. وقال تعالى في الصرف الحرام: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} [الأنفال: 36] الآيةن فمعرفة حكم الله في اكتساب المال وفي صرفه في مصارفه أمر ضروري لابد منه، لأن من لم يعلم ذلك قد يكتسب المال من وجه حرام، والمال الكمتسب من وجه حرام، لا خير فيه البتة، وقد يصرف المال في وجه حرام، وصرفه في ذلك حسرة على صاحبه.
الأمر الثاني: هو معرفة الطريق الكفيلة باكتساب المال، فقد يعلم الإنسان مثلًا أن التجارة في النوع الفلاني مباحة شرعًا، ولكنه لا يعلم أوجه التصرف بالمصلحة الكفيلة بتحصيل المالن من ذلك الوجه الشرعي، وكم من متصرف يريد الربح، فيعود عليه تصرفه بالخسران، لعدم معرفته بالأوجه التي يحصل بها الربح. وكذلك قد يعلم الإنسان أن الصرف في الشيء الفلاني مباح، وفيه مصلحة، ولكنه لا يهتدي إلى معرفة الصرف المذكور، كما هو مشاهد في المشاريع الكثيرة النفع إن صرف فيها المال بالحكمة والمصلحة، فإن جواز الصرف فيها معلوم، وإيقاع الصرف على وجه المصلحة، لا يعلمه كل الناس.
وبهذا تعلم أن أصول الاقتصاد الكبار أربعة:
الأول: معرفة حكم الله في الوجه الذي يكتسب به المال، واجتناب الاكتساب به، إن كان محرمًا شرعًا:
الثاني: حسن النظر في اكتساب المال بعد معرفة ما يبيحه خالق السماوات والأرض، وما لا يبيحه.
الثالث: معرفة حكم الله في الأوجه التي يصرف فيها المال، واجتناب المحرم منها.
الرابع: حسن النظر في أوجه الصرف، واجتناب ما لا يفيد منها، فكل من بنى اقتصاده على هذه الأسس الأربعة كان اقتصاده كفيلًا بمصلحته، وكان مرضيًا لله جل وعلا، ومن أخل بواحد من هذه الأسس الأربعة كان بخلاف ذلك، لأن من جمع المال بالطرق التي لا يبيحها الله جل وعلا فلا خير في ماله، ولا بركة كما قال تعالى: {يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي الصدقات} [البقرة: 276] وقال تعالى: {قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث} [المائدة: 100] الآية.
وقد تكلمنا على مسائل الربا في آية الربا في سورة البقرة وتكلمنا على أنواع الشركات وأسمائها، وبينا ما يجوز منها وما لا يجوز في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى: {فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذه إلى المدينة} [الكهف: 19] الآية.
ولا شك أنه يلزم المسلمين في أقطار الدنيا التعاون على اقتصاد يجيزه خالق السماوات والأرض، على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ويكون كفيلًا بمعرفة طرق تحصيل المال بالأوجه الشرعية، وصرفه في مصارفه المنتجة الجائزة شرعًا لأن الاقتصاد الموجود الآن في أقطار الدنيا لا يبيحه الشرع الكريم، لأن الذين نظموا طرقه ليسوا بمسلمين، فمعاملات البنوك والشركات لا تجد شيئًا منها يجوز شرعًا، لأنها إما مشتملة على زيادات ربوية، أو على غرر، لا تجوز معه المعاملات كأنواع التأمين المتعارفة عند الشركات اليوم في اقطار الدنيا، فإنك لا تكاد تجد شيئًا منها سالمًا من الغرر، وتحريم بيع الغرر ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن من يدعي إباحة أنواع التأمين المعروفة عند الشركات، من المعاصرين أنه مخطئ في ذلك، ولأنه لا دليل معه بل الأدلة الصحيحة على خلاف ما يقول، والعلم عند الله تعالى. اهـ.
.قال الشعراوي:
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا}.
يعطينا الحق تبارك وتعالى صورة للعبودية الحقة، ونموذجًا للذين اتبعوا المنهج، كأنه سبحانه وتعالى يقول لنا: دَعْكُم من الذين أعرضوا عن منهج الله وكذَّبوا رسوله، وانظروا إلى أوصاف عبادي الذين أمنوا بي، ونفَّذوا أحكامي، وصدَّقوا رسولي.
نقول: عباد وعبيد. والتحقيق أن عبيد جمع لعبد، وأن عباد جمع لعابد مثل: رجال جمع راجل: {وَأَذِّن فِي الناس بالحج يَأْتُوكَ رِجَالًا} [الحج: 27] إذن: عبيد غير عِبَاد.
وسبق أن تحدثنا عن الفَرْق بين العبيد والعباد، فكلنا عبيد لله تعالى المؤمن والكافر، والطائع والعاصي، فما دام يطرأ عليه في حياته ما لا يستطيع أنْ يدفعه مع أنه يكرهه فهو مقهور، فالعبد الكافر الذي تمرَّد على الإيمان بالله، وتمرَّد على تصديق الرسول، وتمرد على أحكام الله فلم يعمل بها.
فهل بعد أن أَلِفَ التمرد يستطيع أن يتمرد على المرض إنْ أصابه؟ أو يستطيع التمرد على الموت إنْ حلّ بساحته؟ إذن: فأنت عبد رغمًا عنك، وكلنا عبيد فيما نحن مقهورون عليه، ثم لنا بعد ذلك مساحة من الاختيار.
أما المؤمن فقد خرج عن اختياره الذي منحه الله في أن يؤمن أو يكفر، وتنازل عنه لمراد ربه، فاستحق أن يكون من عباد الله {وَعِبَادُ الرحمن} [الفرقان: 63] فنحن وإنْ كنا عبيدًا فنحن سادة؛ لأننا عبيد الرحمن؛ لذلك كانت حيثية تكريم الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في الإسراء هي عبوديته لله تعالى، حيث قال: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1]، فالعبودية هي علة الارتقاء.
فلما أخلص رسول الله العبودية لله نال هذا القُرْب الذي لم يسبقه إليه بشر.
لذلك وصف الملائكة بأنهم {عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] وباستقراء الآيات لم نجد سوى آية واحدة تخالف في ظاهر الأمر هذا المعنى الذي قُلْناه في معنى العباد، وهي قوله تعالى في الكلام عن الآخرة: {أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ} [الفرقان: 17].
فقال للضالين {عبادي} وهي لا تُقال إلا للطائعين، لماذا؟ قالوا: لأن في القيامة لا اختيارَ لأحد، فالجميع في القيامة عباد، حيث انتفى الاختيار الذي يُميِّزهم.
والعلماء يقولون: إن العباد تُؤخَذ منها العبادية، وأن العبيد تُؤخَذ منها العبودية: العبادية في العباد أن يطيع العابد أمر الله، وينتهي عن نواهيه طمعًا في ثوابه في الآخرة، وخوفًا من عقابه فيها، إذن: جاءت العبادية لأخذ ثواب الآخرة وتجنّب عقابها.
أما العبودية فلا تنظر إلى الآخرة، إنما إلى أن الله تعالى تقدّم بإحسانه على عبيده إيجادًا من عدم، وإمدادًا من عُدْمٍ، وتربية وتسخيرًا للكون، فالله يستحق بما قدّم من إحسان أن يُطاع بصرف النظر عن الجزاء في الآخرة ثوابًا أو عقابًا.
أما العبودة فهي: ألاَّ ينظر العبد إلى ما قدَّم من إحسان، ولا ما أخّر من ثواب وعقاب، وإنما ينظر إلى أن جلال الله يستحق أنْ يطُاع، وإنْ لم يسبق له الإحسان، وإنْ لم يأتِ بعد ذلك ثواب وعقاب.
وإن كانت العبودية مكروهة في البشر كما قال أحد الساسة: متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ ذلك لأن العبودية للبشر يأخذ السيد خيْر عبده، أما العبودية لله تعالى فِعزٌّ وشرف، حيث يأخذ العبد خَيْر سيده، فهي عبودية سيادة، لا عبودية قهر.
فحين تؤمن بالله يعطيك الله الزمام: يقول لك: إنْ أردت أنْ أذكرك فاذكرني، وفي الحديث القدسي: «مَنْ ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي، ومَنْ ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم».
وإنْ كان سبحانه وتعالى يستدعيك إلى خَمْس صلوات في اليوم والليلة، فما ذلك إلا لتأنسَ بربك، لكن أنت حر تأتيه في أيِّ وقت تشاء من غير موعد، وأنت تستطيع أن تحدد بَدْءَ المقابلة ونهايتها وموضوعها. إلخ، فزمام الأمر في يدك.
وقد تعلم سيدنا رسول الله خُلق الله، فكان إذا وضع يده في يد أحد الصحابة يُسلِّم عليه لا ينزع يده منه حتى يكون هو الذي ينزع يده من يد رسول الله، وهذا أدب من أدب الحق تبارك وتعالى إذن: فالعبودية لله تعالى عبودية لرحمن، لا عبودية لجبار.
إنَّ الحمدَ للهِ نحمدهُ ونستعينهُ ونَستهديه ونشكرهُ ونعوذُ باللهِ منْ شرورِ أنفُسِنا ومنْ سيئاتِ أعمالِنا , مَنْ يَهْدِ اللهُ فهُو المُهتد ومَنْ يُضْلِلْ فلَن تجِدَ له وليِّاً مُرْشِداً, وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريك له ولا مَثيلَ له ولا ضَدَّ ولا نِدّ له , وأشهدُ أن سيدَنا وحبيبنَا وعظيمَنا وقائدَنا وقُرةَ أعيُننا محمّداً عبدهُ ورسولُه وصفيُّه وحبيبهُ صلَّى الله على سيِّدِنا محمّدٍ وعلى كُلِّ رسولٍ أرسلَه, اما بعدُ عبادَ الله , فإني أوصيكُم ونفسي بِتَقوى الله ِ القائلِ في مُحك كتابِه*وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ *سورة الحجر ءاية 99.
رَوى مُسْلمٌ عن مَعْقِلِ بنِ يَسار ٍ رضي الله عنه أن َّ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قال" العِبادَةُ في الهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إليَّ "
اعلَمُوا معشرَ المؤمنين أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قد خَلَقَنا وأَوْجَدَنا في هذه الدُّنيا الفَانية الزائلةِ لِحِكْمَةٍ عظيمةٍ بالِغَة، خَلَقَنا سبحانَه لِنَعْبُدَهُ وحدَه ولا نُشْرِكَ بهِ شيئا، لِنُطِيْعَه فيما أمرَ بِه ونَنتهيَ عمّا نَهَى عنه لأنه سبحانه وتعالى يَسْتَحِقُّ أنْ يُطاعَ فهو الآمِرُ فلا ءامِرَ له وهو النَّاهي فلا ناهيَ له قالَ الله* وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ *سورة الذاريات ءاية 56-57.
وقد أوجَبَ تقدَّسَتْ أسماؤهُ علينا أن نُؤديَ الفرائضَ ونجتنِبَ المحرماتِ فوجَبَ علينا أن نتقربَ إليه بما افترَضَ وأَمَر ونَنْتهَي عمّا نَهى عنه وحَذَّر فإنَّ أفضلَ ما يتقربُ به العبدُ إلى ربِه أداءُ الواجِباتِ واجتنابُ المحرمات فقد روى البخاريُّ عن أبي هريرةَ رضيَ الله عنه عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلَّم فيما يَرْويهِ عن ربه تباركَ وتعالى أنه قال " وما تَقَرَّبَ إليَّ عَبْدِي بِشَئٍ أحبَّ إليَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عليه "فدلَّ الحديثُ على عظيمِ فَضلِ المحافظةِ على الفرائضِ ولا شكَّ أن أَعلىالفرائضِ وأفضلَها الإيمانُ باللهِ ورسولِه صلى الله عليه وسلَّم قال عليه الصلاةُ والسلام " أفّضلُ الأعمالِ إيمانٌ باللهِ ورسُوله" رواه البخاريّ وَلِيُعْلَمَ أنَّ الثباتَ لى أداءِ الواجباتِ واجتنابِ المحرَّمات هو السبيلُ إلى النَّجاةِ يومَ القيامةِ ودخولِ الجنةِ بلا عذاب فَطُوبِى لمن كانتِ التقوى سيرتَه وأصلَحَ علانِيَتَهُ وسريرتَه فاستقامَ في أيامٍ قليلة لِيفوزَ في أيامٍ طِوالٍ يُومَ لا ينفَعُ مالٌ ولا بَنُون إلا مَنْ أتى اللهَ بِقَلْبٍ سَليم فقد روى الترمذيُّ عن معاذِ بنِ جَبل رضي الله عنه أنه قال قُلْتُ يارسولَ الله أًخبرني بِعَمَلٍ يُدْخِلُني الجنة و يُباعِدُني منَ النار قال " لقدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيم وإنه لَيَسِيْرٌ على مَن يَسَّره اللهُ تعالى عَلَيه تَعْبُدُ اللهَ لا تُشْرِكُ به شَيئا وتقيمُ الصلاةَ وتُؤتي الزكاة وتصومُ رمضان وتحجُّ البيتَ إنِ استطَعْتَ إليه سَبيِلاً " فهذا الصحابيُ الجليلُ معاذُ بنُ جبل رضى الله عُنْه وهو بينَ الصحابةِ معروفٌ مشهورٌ بالفَضْلِ والقَدْرِ العَالي دَفَعَه حِرْصُه على الخيرِ إلى أن يسألَ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم هذا السؤَالَ العَظيم فأرشَدَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلَّم إِلى خَيْرٍ كبيرٍ أمرهُ بالثباتِ على عبادةِ اللهِ وعدمِ الأشراكِ به شيئاً ويناسبُ هنا أنْ نتكلمَ عن تَفْسِيرِ العِبادةِ فإنَّ كثيراَ منَ الناسِ لا يعرِفُون مَعنى العبادةِ أَصْلا , والعبادةُ كمَا عرّفَها أهلُ العِلْم هي أَقْصَى غايةِ الخُشُوعِ والخُضوع نقلَ ذلك الزَّبيديُّ في شرحِ القاموس عنِ السبكي رحمه الله فمَن صرفَ العبادةَ لِغَيْرِ اللهِ تعالى لا يكونُ منَ المسلمين قال اللهُ عزَّ وجلَّ * إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ *سورة الانبياء اية 92.
فالأُمُةُ الإسلاميةُ واحدَة عقيدتُها واحدة فكلُّ مسلمٍ في أنحاءٍ الأرضِ مِنْ أقصاهَا إلى أقصاها يعتقدُ أن اللهَ واحدٌ لا شَرِيكَ له ولا شَبيه ولا مَثيلَ له موجودٌ بلا مكان لا يُشبه شَيْئا ولا يُشْبِهُه شَئ مهما تصورتِ ببالك فاللهُ بخلافِ ذلك ويعتقدُ أنه لا يَستحقُّ أحدٌ أن يُعْبَدَ إلا اللهُ تعالى وحدَه فلا يجوزُ تعظيمُ أحدٍ كتعظيمِ الله ولا يجوزُ أن يَتذللَ أحدٌ نهاية التذللِ لغيرِ الله ومَنْ فعلَ ذلك فقد كَفَرَ والعياذُ بالله وهذا حَقُّ لا يختلفُ فيه مُسلمان ولذلك فإننا ندعو إِلى الثباتِ على طاعةِ الله تعالى نَدْعُو الى الالتزامِّ التامِّ بالشَّرعِ غلى التكاتُفِ والتعاضُدِ والتعاوُنِ على طاعةِ الله تعالى والاعتصامِ بِحَبْلِ اللهِ المتين لا سِيَّما في هذا الزمنِ العصِيب الذي عَظُمَ فيه الخَطْبُ واسْتَشْرَى فيه الشرّوزادَ الفسادُ فَصَرْنا نرىَ القابِضَ فيه على دِينْهِ كالقابضِ على جَمر وكلُّكم يِسْمَع ويَرى واقعَ البلادِ والعباد وإذا كانَ الأمرُ هكذا فإننا نَنْصَحُ بالعَمَلِ بحدِيْثِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم " العِبادَةُ في الهَرْجِ كَهِجْرةٍ إليَّ " فهنيئاً لمن عَمِلَ بما حثَّ عليه النبيُّ الأكرمُ صلَّى اللهُ عليه وسلم وقَدْ حَثَّنا عليه الصلاةُ والسلامُ في هذا الحديثِ على الاشتغالِ بالعبادةِ في أيامِ الهرج, والهرجُ معناه شِدَّةُ القَتْلِ وها نحنُ نعيشُ زمنَ الهَرْج, نعيشُ زمنِ الفِتنَ التي مازالت تتوالَى كَقِطَعِ الليلِ المُظْلم فليَشْغَلِ الواحِدُ منا نفسَه في هذه الأيامِ بعبادةِ رَبِّهِ لينالَ تلكَ الفضيلةَ العظيمةَ فقد شبَّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أجرَ المتعبِّدِ في الهَرْجِ بأجْرِ مَنْ هاجرَ إليه حين كانتِ الهجرةُ فَرْضاً حيثُ أنَّ الهجرةَ كانت في وقتٍ منِ الأوقاتِ فَرْضاَ على المُستطيع منَ المسلمين فكانَ واجباً على مَنِ استطاعَ الهجرةَ أن يُهاجِرَ الىرسولِ الله صلى الله عليه وسلَّم في المدينة المنوَّرةِ ثم نُسِخَ هذا الحكمُ بعدَما فتحَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم مكةَ المكرمة أي لم تَعُدِ الهجرةُ بعد ذلك فَرْضاً فمنِ اشتغلَ بالعبادة في الهَرْج كانَ له أجرُ يُشْبِهُ أجرَ المهاجرِ في سيبلِ الله إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلَّم وليس المعنى أن له كَأَجرِ المهاجرِ تماماً إنما يُشْبِهُهُ, يُشبهُ أجرَ مَنْ هاجرَ في الصحراء وتحمَّل وعْثَاءَ السَّفر وأعباءَ الرَّحيِل ومشقاتِ الطّريق طاعةً لله ورسوِله فأيُّ خَيْرِ وأيُّ أجر وأي فَضْلٍ هذا الفضلُ العظيم الذي ينالُه ويحوزُه مَنْ تشاغَلَ بالعبادةِ في تلك الحال وتركَ ما تشاغَلَ كثيرٌ منَ الناسِ بهِ وهو الهرج المذموم الذي نُهِيْنَا عنه فقد قال اللهُ تعالى لحبيبه النبيِّ المصطفى صلى الله عليه وسلّم*وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ *سورة الحجر ءاية 99
أي دُمْ على عبادةِ ربِّكَ اللطيفِ الكريمِ الرحيمِ حتى يأتيَكَ اليَقين واليقينُ هنا الموتُ لأن العِلْمَ بِوُقًوعِ الموتِ يَقين لا يَمْتَرِي فيه عاقلٌ والمعنى اِشْتَغِلْ بالعبادةِ ما دُمْتَ حَيَّا, طالما أنت في مُدةِ الجنيا فاشغَلْ نفْسَكَ بالعبادة وإنْ نزلَ بكَ خَطْب أوِ اشتدَتْ بكَ النوائِب فأرِحْ نفسِك بالصلاة فإنها أفضَلُ العباداتِ بعدَ الأيمانِ باللهِ ورسولِه فقد روى أحمدُ في مُسندِه عن حُذَيفةِ رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم كان إذا حَزَبَهُ أمرٌ صَلَّى ومعنى حَزَبَهُ أي نَابَه واشتَدَّ عليه فَمَنْ عرفَ حقيقةَ الدُّنيا كانً جَدِيرا به أن يَعْمَلَ بطاعةِ الله تعالى ويَقْطَعَ العُمُرَ في تَقْوى رَبِهِ والإكثارِ منَ الخيرِ وإذا رأى الناسَ تدْخُلُ في الفِتَن لم يَدْخُلْ معهم بل يثبتُ على البِرِّ والعبادةِ فلقَد قيل الدنيا ساعة فاجعَلْها طاعة ورُوي عن الإمامِ البُخاريِّ رضي الله عنه أنه قال:
إِغْتَنِمْ في الفَرَاغ فَضْلَ رُكوعٍ فَعَسى أنْ يَكُونَ مَوْتُكَ بَغْته
كم مِنْ صِحيحٍ ماتَ مِنْ غيرِ عِلَّةٍ ذهبت نفسُه الصحيحةُ فَلْتَه
هذا وأستغفر الله لي ولكم