وقوله {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء
{مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً }الأحزاب40
وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خلف كما قال تعالى:
{وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً} أي صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي،
فلما أكمل لهم الدين، تمت عليهم النعمة، ولهذا قال تعالى:
{اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}
أي فارضوه أنتم لأنفسكم، فإنه الدين الذي أحبه الله ورضيه، وبعث به أفضل الرسل الكرام، وأنزل به أشرف كتبه
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله {اليوم أكملت لكم دينكم} وهو الإسلام، أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان، فلا يحتاجون إلى زيادة أبداً، وقد أتمه الله فلا ينقصه أبداً، وقد رضيه الله فلا يسخطه أبداً. وقال أسباط عن السدي: نزلت هذه الاَية يوم عرفة، ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات قالت أسماء بنت عميس: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الحجة فبينما نحن نسير إذ تجلى له جبريل، فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم على الراحلة، فلم تطق الراحلة من ثقل ما عليها من القرآن، فبركت، فأتيته فسجيت عليه برداً كان علي. وقال ابن جرير وغير واحد: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوماً، رواهما ابن جرير، ثم قال: حدثنا سفيان بن وكيع، حدثنا ابن فضيل عن هارون بن عنترة، عن أبيه، قال: لما نزلت {اليوم أكملت لكم دينكم} وذلك يوم الحج الأكبر، بكى عمر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «ما يبكيك ؟» قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذا أكمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص، فقال «صدقت» ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت «إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء»
عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين، إنكم تقرؤون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت، لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. قال: وأي آية ؟ قال: قوله {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} فقال عمر: والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم : عشية عرفة في يوم جمعة، ورواه البخاري عن الحسن بن الصباح عن جعفر بن عون به. ورواه أيضاً مسلم والترمذي والنسائي أيضاً من طرق عن قيس بن مسلم به. ولفظ البخاري عند تفسير هذه الاَية من طريق سفيان الثوري، عن قيس، عن طارق قال: قالت اليهود لعمر: و الله إنكم تقرؤون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيداً. فقال عمر: إني لأعلم حين أنزلت، وأين أنزلت، وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أنزلت: يوم عرفة، وأنا والله بعرفة، قال سفيان: وأشك، كان يوم الجمعة أم لا {اليوم أكملت لكم دينكم} الاَية، وشك سفيان رحمه الله إن كان في الرواية، فهو تورع حيث شك هل أخبره شيخه بذلك أم لا، وإن كان شكاً في كون الوقوف في حجة الوداع كان يوم جمعة، فهذا ما أخاله يصدر عن الثوري رحمه الله، فإن هذا أمر معلوم مقطوع به، لم يختلف فيه أحد من أصحاب المغازي والسير، ولا من الفقهاء وقد وردت في ذلك أحاديث متواترة لا يشك في صحتها، والله أعلم، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن عمر
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، أخبرنا رجاء بن أبي سلمة، أخبرنا عبادة بن نسي، أخبرنا أميرنا إسحاق، قال أبو جعفر بن جرير وهو إسحاق بن حرشة عن قبيصة يعني ابن أبي ذئب، قال: قال كعب: لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الاَية، لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم، فاتخذوه عيداً يجتمعون فيه، فقال عمر: أي آية يا كعب ؟ فقال {اليوم أكملت لكم دينكم}، فقال عمر: قد علمت اليوم الذي أنزلت، والمكان الذي أنزلت فيه: نزلت في يوم الجمعة ويوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد.
وقوله تعالى {إن الدين عند الله الإسلام} إخبار منه تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام، وهواتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين حتى ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد صلى الله عليه وسلم ، فمن لقي الله بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بدين على غير شريعته فليس بمتقبل، كما قال تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه} الاَية، وقال في هذه الاَية مخبراً بانحصار الدين المتقبل عنده في الإسلام {إن الدين عند الله الإسلام}، وذكر ابن جرير أن ابن عباس قرأ {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الإسلام}، بكسر إنه، وفتح أن الدين عند الله الإسلام، أي شهد هو والملائكة وأولوا العلم من البشر بأن الدين عند الله الإسلام، والجمهور قرؤوها بالكسر على الخبر، وكلا المعنيين صحيح، ولكن هذا على قول الجمهور أظهر، والله أعلم، ثم أخبر تعالى بأن الذين أوتوا الكتاب الأول، إنما اختلفوا بعد ما قامت عليهم الحجة بإرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم، فقال: {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم} أي بغى بعضهم على بعض فاختلفوا في الحق لتحاسدهم وتباغضهم وتدابرهم، فحمل بعضهم بغض البعض الاَخر على مخالفته في جميع أقواله وأفعاله وإن كانت حقاً، ثم قال تعالى: {ومن يكفر بآيات الله} أي من جحد ما أنزل الله في كتابه {فإن الله سريع الحساب} أي فإن الله سيجازيه على ذلك ويحاسبه على تكذيبه، ويعاقبه على مخالفته كتابه
ثم قال تعالى {فإن حاجوك} أي جادلوك في التوحيد {فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن} أي فقل: أخلصت عبادتي لله وحده لا شريك له ولا ند له، ولا ولد له، ولا صاحبة له، {ومن اتبعن} أي على ديني يقول كمقالتي، كما قال تعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} الاَية، ثم قال تعالى آمراً لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى طريقته ودينه والدخول في شرعه وما بعثه الله به، الكتابيين من الملتين والأميين من المشركين، فقال تعالى: {وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا، وإن تولوا فإنما عليك البلاغ} أي والله عليه حسابهم وإليه مرجعهم ومآبهم، وهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة ولهذا قال تعالى: {والله بصير بالعباد} أي هو عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلالة، وهو الذي {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} وما ذلك إلا لحكمته ورحمته وهذه الاَية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته صلوات الله وسلامه عليه إلى جميع الخلق كما هو معلوم من دينه ضرورة، وكما دل عليه الكتاب والسنة في غير ما آية وحديث، فمن ذلك قوله تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً} وقال تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً}
وفي الصحيحين وغيرهما مما ثبت تواتره بالوقائع المتعددة أنه صلى الله عليه وسلم بعث كتبه يدعو إلى الله ملوك الاَفاق وطوائف بني آدم من عربهم وعجمهم كتابيهم وأميهم امتثالاً لأمر الله له بذلك، وقد روى عبد الرزاق عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة: يهودي ولا نصراني ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار» رواه مسلم وقال صلى الله عليه وسلم «بعثت إلى الأحمر والأسود»، وقال «كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة»
===== وقال الإمام أحمد: حدثنا مؤمل، حدثنا حماد، حدثنا ثابت عن أنس رضي الله عنه: أن غلاماً يهودياً كان يضع للنبي صلى الله عليه وسلم وضوءه، ويناوله نعليه، فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليه وأبوه قاعد عند رأسه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «يا فلان قل لا إله إلا الله» فنظر إلى أبيه فسكت أبوه، فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، فنظر إلى أبيه، فقال أبوه: أطع أبا القاسم، فقال الغلام: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول «الحمد لله الذي أخرجه بي من النار» رواه البخاري في الصحيح، إلى غير ذلك من الاَيات والأحاديث