وقوله سبحانه: {بِعَبْدِهِ..} [الإسراء: 1].
العبد كلمة تُطلق على الروح والجسد معاً، هذا مدلولها، لا يمكن أن تُطلَق على الروح فقط.
لكن، لماذا اختار الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم هذه الصفة بالذات؟
نقول: لأن الله تعالى جعل في الكون قانوناً عاماً للناس، وقد يُخرَق هذا القانون أو الناموس العام ليكون معجزةً للخاصة الذين ميَّزهم الله عن سائر الخَلْق، فكأن كلمة(عبده) هي حيثية الإسراء.
أي: أُسْرِي به؛ لأنه صادق العبودية لله، وما دام هو عبده فقد أخلص في عبوديته لربه، فاستحق أنْ يكون له مَيْزة وخصوصية عن غيره، فالإسراء والمعراج عطاء من الله استحقَّه رسوله بما حقّق من عبودية لله.
وفَرْق بين العبودية لله والعبودية للبشر، فالعبودية لله عِزٌّ وشرف يأخذ بها العبدُ خَيْرَ سيده، وقال الشاعر:
وَمِمّا زَادَني شَرَفاً وَعِزّاً *** وكِدْتُ بأخْمُصِي أَطَأَ الثُّريَّا
دُخُولِي تَحْتَ قولِكَ يَا عِبَادِي *** وَأنْ صَيَّرت أحمدَ لِي نبيّاً
أما عبودية البشر للبشر فنقْصٌ ومذلَّة وهوان، حيث يأخذ السيد خَيْر عبده، ويحرمه ثمره كَدِّه.
لذلك، فالمتتبّع لآيات القرآن يجد أن العبودية لا تأتي إلا في المواقف العظيمة مثل: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ..} [الإسراء: 1].
وقوله: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ..} [الجن: 19].
ويكفيك عِزاً وكرامة أنك إذا أردتَ مقابلة سيدك أن يكون الأمر في يدك، فما عليكَ إلا أنْ تتوضأ وتنوي المقابلة قائلاً: الله أكبر، فتكون في معية الله عز وجل في لقاء تحدد أنت مكانه ومُوعده ومُدّته، وتختار أنت موضوع المقابلة، وتظل في حضرة ربك إلى أن تنهي المقابلة متى أردتَ.
وما أحسنَ ما قال الشاعر:
حَسْبُ نَفْسِي عِزّاً بِأَنِّي عَبْدٌ *** يَحْتَفِي بِي بِلاَ مَواعِيدَ رَبُّ
هُو في قُدْسِه الأعَزِّ ولكِنْ *** أنَا أَلْقَى متَى وَأَيْنَ أُحِبُّ
فما بالك لو حاولت لقاء عظيم من عظماء الدنيا؟ وكم أنت مُلاقٍ من المشقة والعنت؟ وكم دونه من الحجّاب والحرّاس؟ ثم بعد ذلكَ ليس لك أن تختار لا الزمان ولا المكان، ولا الموضوع ولا غيره.
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو المتخلِّق بأخلاق الله إذا سلَّم على أحد لا ينزع يده من يده حتى يكون الرجل هو الذي ينزع يده.
وقوله: {لَيْلاً..} [الإسراء: 1].
سبق أن قُلْنا: إن السُّرى هو السير ليلاً، فكانت هذه كافية للدلالة على وقوع الحدث ليلاً، ولكن الحق سبحانه أراد أنْ يؤكد ذلك، فقد يقول قائل: لماذا لم يحدث الإسراء نهاراً؟
نقول: حدث الإسراء ليلاً، لتظلَّ المعجزة غَيْباً يؤمن به مَنْ يصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو ذهب في النهار لرآه الناس في الطريق ذهاباً وعودة، فتكون المسألة إذن حِسيّة مشاهدة لا مجالَ فيها للإيمان بالغيب.
لذلك لما سمع أبو جهل خبر الإسراء طار به إلى المسجد وقال: إن صاحبكم يزعم أنه أُسْرِي به الليلة من مكة إلى بيت المقدس، فمنهم مَنْ قلّب كفَّيْه تعجُّباً، ومنهم مَنْ أنكر، ومنهم مَن ارتد.
أما الصِّدِّيق أبو بكر فقد استقبل الخبر استقبالَ المؤمن المصدِّق، ومن هذا الموقف سُمِّي الصديق، وقال قولته المشهورة: (إن كان قال فقد صدق).
إذن: عمدته أن يقول رسول الله، وطالما قال فهو صادق، هذه قضية مُسلَّم بها عند الصِّدِّيق رضي الله عنه.
ثم قال: (إنَّا لَنُصدقه في أبعد من هذا، نُصدِّقه في خبر السماء(الوحي)، فكيف لا نُصدّقه في هذا)؟
إذن: الحق سبحانه جعل هذا الحادث مَحكّاً للإيمان، ومُمحِّصاً ليقين الناس، حين يغربل مَنْ حول رسول الله، ولا يبقى معه إلا أصحاب الإيمان واليقين الثابت الذي لا يهتز ولا يتزعزع.
لذلك قال تعالى في آية أخرى: {وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ..} [الإسراء: 60].
وهذا دليل آخر على أن الإسراء لم يكُنْ مناماً، فالإسراء لا يكون فتنة واختباراً إلا إذا كان حقيقة لا مناماً، فالمنام لا يُكذِّبه أحد ولا يختلف فيه الناس.
لكن لماذا قال عن الإسراء(رُؤْيَا) يعني المنامية، ولم يقُلْ (رؤية) يعني البصرية؟
قالوا: لأنها لما كانت عجيبة من العجائب صارت كأنها رؤيا منامية، فالرؤيا محل الأحداث العجيبة.
وورد في الإسراء أحاديث كثيرة تكلَّم فيها العلماء: أكان بالروح والجسد؟ أكان يقظة أم مناماً؟ أكان من المسجد الحرام أم من بيت أم هانيء؟ ونحن لا نختلف مع هذه الآراء، ونُوضِّح ما فيها من تقارب.
فمن حيث: أكان الإسراء بالروح فقط أم بالروح والجسد؟ فقد أوضحنا وَجْه الصواب فيه، وأنه كان بالروح والجسد جميعاً، فهذا مجال الإعجاز، ولو كان بالروح فقط ما كان عجيباً، وما كذَّبه كفار مكة.
أما مَنْ ذهب إلى أن الإسراء كان رؤيا منام، فيجب أن نلاحظ أن أول الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان الرؤيا الصادقة، فكان صلى الله عليه وسلم لا يرى رُؤْيَا إلا وجاءت كفلَق الصبح، فرؤيا النبي صلى الله عليه وسلم ليست كرؤيانا، بل هي صِدْق لابد أن يتحقَّق. ومثال ذلك ما حدث، مَنْ إرادةِ اللهِ لهُ رؤْيا الفتح.
قال تعالى: {لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرءيا بالحق لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ..} [الفتح: 27].
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم صحابته هذا الخبر، فلما ردَّهم الكفار عند الحديبية، فقال الصحابة لرسول الله: ألم تُبشِّرنا بدخول المسجد الحرام؟ فقال: ولكن لم أَقُلْ هذا العام.
لذلك يسمون هذه الرُّؤى رؤى الإيناس، وهي أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم الشيء مناماً، حتى إذا ما تحقق لم يُفَاجأ به، وكان له أُنْس به. وما دام لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلَق الصبح فلابد أن هذه الرؤيا ستأتي واقعاً وحقيقة، وقد يرى هذه الرؤيا مرة أخرى على سبيل التذكرة بذلك الإيناس.
إذن: مَنْ قال: إن الإسراء كان مناماً نقول له: نعم كان رؤيا إيناس تحققتْ في الواقع، فلدينا رؤى الإيناس أولاً، ورؤى التذكير بالنعمة ثانياً، وواقع الحادث في الحقيقة ثالثاً، وبذلك نخرج من الخلاف حول: أكان الإسراء يقظة أم مناماً؟
وحتى بعد انتهاء حادث الإسراء كانت الرؤيا الصادقة نوعاً من التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان كلما اشتدتْ به الأهوال يُريه الله تعالى ما حدث له لِيُبيّن له حفاوة السماء والكون به صلى الله عليه وسلم؛ ليكون جَلْداً يتحمل ما يلاقي من التعنت والإيذاء.