وَإِن مّا نُرِيَنّكَ بَعْضَ الّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفّيَنّكَ فَإِنّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ * أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّا نَأْتِي الأرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ
يقول تعالى لرسوله {وإما نرينك} يا محمد، بعض الذي نعد أعداءك من الخزي والنكال في الدنيا {أو نتوفينك} أي قبل ذلك، {فإنما عليك البلاغ} أي إنما أرسلناك لتبلغهم رسالة الله، وقد فعلت ما أمرت به {وعلينا الحساب} أي حسابهم وجزاؤهم، كقوله تعالى: {فذكر إنما انت مذكر * لست عليهم بمسيطر * إلا من تولى وكفر * فيعذ به الله العذاب الأكبر * إن إلينا إيابهم * ثم إن علينا حسابهم}، وقوله: {أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها} قال ابن عباس: أو لم يروا أنا نفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم الأرض بعد الأرض، وقال في رواية: أو لم يروا إلى القرية تخرب حتى يكون العمران في ناحية. وقال مجاهد وعكرمة: ننقصها من أطرافها، قال: خرابها. وقال الحسن والضحاك: هو ظهور المسلمين على المشركين. وقال العوفي عن ابن عباس: نقصان أهلها وبركتها. وقال مجاهد: نقصان الأنفس والثمرات وخراب الأرض. وقال الشعبي: لو كانت الأرض تنقص لضاق عليك حشك، ولكن تنقص الأنفس والثمرات، وكذا قال عكرمة: لو كانت الأرض تنقص لم تجد مكاناً تقعد فيه، ولكن هو الموت. وقال ابن عباس في رواية: خرابها بموت علمائها وفقهائها وأهل الخير منها، وكذا قال مجاهد أيضاً: هو موت العلماء، وفي هذا المعنى روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة أحمد بن عبد العزيز أبي القاسم المصري الواعظ سكن أصبهان، حدثنا أبو محمد طلحة بن أسد المرئي بدمشق، أنشدنا أبو بكر الاَجري بمكة قال: أنشدنا أحمد بن غزال لنفسه
الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها متى يمت عالم منها يمت طرف
كالأرض تحيا إذا ما الغيث حل بها وإن أبى عاد في أكنافها التلف
والقول الأول أولى، وهو ظهور الإسلام على الشرك قرية بعد قرية، كقوله: {ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى} الاَية، وهذا اختيار ابن جرير
وَقَدْ مَكَرَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدّارِ
يقول تعالى: {وقد مكر الذين من قبلهم} برسلهم، وأرادوا إخراجهم من بلادهم، فمكر الله بهم وجعل العاقبة للمتقين، كقوله: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين}، وقوله تعالى: {ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون * فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا} الاَيتين. وقوله: {يعلم ما تكسب كل نفس} أي أنه تعالى عالم بجميع السرائر والضمائر وسيجزي كل عامل بعمله {وسيعلم الكافر}، والقراءة الأخرى الكفار، {لمن عقبى الدار} أي لمن تكون الدائرة والعاقبة لهم أو لأتباع الرسل، كلا، بل هي لأتباع الرسل في الدنيا والاَخرة، ولله الحمد والمنة
وَيَقُولُ الّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَىَ بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ
يقول تعالى: يكذبك هؤلاء الكفار ويقولون: {لست مرسلا} أي ما أرسلك الله {قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم} أي حسبي الله هو الشاهد علي وعليكم. شاهد علي فيما بلغت عنه من الرسالة، وشاهد عليكم أيها المكذبون فيما تفترونه من البهتان، وقوله: {ومن عنده علم الكتاب} قيل: نزلت في عبد الله بن سلام، قاله مجاهد، وهذا القول غريب، لأن هذه الاَية مكية، وعبد الله بن سلام إنما أسلم في أول مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، والأظهر في هذا ما قاله العوفي عن ابن عباس قال: هم من اليهود والنصارى، وقال قتادة: منهم ابن سلام وسلمان وتميم الداري، وقال مجاهد في رواية عنه: هو الله تعالى، وكان سعيد بن جبير ينكر أن يكون المراد بها عبد الله بن سلام ويقول: هي مكية، وكان يقرؤها {ومن عنده عُلِمَ الكتاب} ويقول: من عند الله، وكذا قرأها مجاهد والحسن البصري
وقد روى ابن جرير من حديث هارون الأعور عن الزهري عن سالم، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها {ومن عنده عُلِمَ الكتاب}، ثم قال: لا أصل له من حديث الزهري عند الثقات، قلت، وقد رواه الحافظ أبو يعلى في مسنده من طريق هارون بن موسى هذا، عن سليمان بن أرقم، وهو ضعيف، عن الزهري عن سالم عن أبيه مرفوعاً كذلك ولا يثبت، والله أعلم، والصحيح في هذا أن {ومن عنده} اسم جنس يشمل علماء أهل الكتاب الذين يجدون صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته في كتبهم المتقدمة من بشارات الأنبياء به، كما قال تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل} الاَية: وقال تعالى: {أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل} الاَية، وأمثال ذلك مما فيه الإخبار عن علماء بني إسرائيل أنهم يعلمون ذلك من كتبهم المنزلة. وقد ورد في حديث الأحبار عن عبد الله بن سلام بأنه أسلم بمكة قبل الهجرة
قال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتاب دلائل النبوة وهو كتاب جليل: حدثنا سليمان بن أحمد الطبراني، حدثنا عبدان بن أحمد، حدثنا محمد بن مصفى، حدثنا الوليد بن مسلم عن محمد بن حمزة يوسف بن عبد الله بن سلام، عن أبيه عن جده عبد الله بن سلام أنه قال لأحبار اليهود: إني أردت أن أحدث بمسجد أبينا إبراهيم وإسماعيل عيداً، فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، فوافاهم وقد انصرفوا من الحج، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى والناس حوله، فقام مع الناس، فلما نظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنت عبد الله بن سلام ؟» قال قلت: نعم، قال «ادن». قال: فدنوت منه. قال: «أنشدك بالله يا عبد الله بن سلام، أما تجدني في التوراة رسول الله ؟» فقلت له: انعت ربنا، قال: فجاء جبريل حتى وقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: {قل هو الله أحد الله الصمد} إلى آخرها، فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال ابن سلام: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، ثم انصرف ابن سلام إلى المدينة، فكتم إسلامه، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأنا فوق نخلة لي أجذها، فألقيت نفسي، فقالت أمي: لله أنت، لو كان موسى بن عمران ما كان لك أن تلقي نفسك من رأس النخلة، فقلت: والله لأنا أسر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم من موسى بن عمران إذ بعث، وهذا حديث غريب جداً.
آخر تفسير سورة الرعد، و لله الحمد والمنة